الرقصُ على خيط: جدليّة الخير والشر ومأزقُنا الدائم

الرقصُ على خيط: جدليّة الخير والشر ومأزقُنا الدائم

نضال آل رشي

         في قلب المعضلة الفلسفية التي تحيط بالسعي الإنساني نحو الخير الأعظم يكمن توترٌ وجوديٌّ يتشابك فيه هذا الطموح مع إغواء الوسائل التي قد تحمل في طياتها نقيض الغاية نفسها. فليس من المستغرب أن يُفضي طريق الخير إلى مفترقاتٍ تتناقضُ فيها المبادئ مع الواقع، لتولِّد بذلك مأزقاً أخلاقياً يتجلى في كل محاولةٍ لتعظيم النفع العام دون المساس بحُرمةِ الأفراد. هُنا، تُطرح إشكاليةٌ جوهرية: كيف يمكن للإنسان أن يُوازن بين طموحه لتحقيق منفعة المجتمع بأسره وبين التزامه بحفظ كرامة الفرد، دون أن يُحوّل المبادئ الأخلاقية إلى عوائق تعيقُ سعيهُ نحو الخير الأعظم؟

مُنذ أفلاطون، كان البحث عن الحقيقة والجمال جوهر الفلسفة، إلى أن جاء أرسطو وقال بأنّ الاعتدال ليس خياراً ثانوياً بل ضرورةً وجوديّة، إذ إنَّ أيَّ فضيلةٍ إذا تجاوزت حدّها تحولت إلى نقيضها. والتاريخ شاهد على أنّ أعظم العقول سقطت حين فقدت قدرتها على التوازن. نابليون بونابارت الذي قاد جيوشه بعبقرية العارفِ المُدرِك، انتهى في منفاه لأنّ طموحهُ تجاوز حدود الممكن، وسقراط الذي جعل البحث عن الحقيقة مشروع حياته، واجه الموت لأن صِدقهُ هدد أسس مجتمعه، وحتى فان غوغ، الذي سعى خلف كينونة الجمال، وجد نفسه مُمزقاً بين جنون الإبداع وعجز الواقع عن احتواء رؤيته.

 وسط هذا الاختلال وقف هيغل واضحاً واثقاً كنبي، ليقولَ بأنّ التاريخ ليس صراعاً بين الخير والشر، بل بين الفكرة وحدودها، إذ أن كل فكرة تبلغ ذروتها تحمل في طياتها شرط فنائها، مُغالطاً ديكارت الذي قال “أنا أفكر إذن أنا موجود” وكأنّهُ لم يُدرك أن العقلانية التي دعا إليها قد تتحول إلى جمودٍ إذا فقدت قدرتها على التخلُّقِ ضمن إطار الممكن.

غير أن المسألة لا تقتصر على الأفراد، قد يكون مُحِقاً سلافوي جيجك حين أشار إلى أنّ أكثر اللحظات راديكاليّةً في التاريخ هي أيضاً أكثرُها استبداداً، لأن الثورات التي تبدأ كتحررٍ غير مشروط تنتهي غالباً إلى أنظمةٍ أشدّ قسوةً وديكتاتوريةً. كأنّهُ بذلك نحى نحوَ شميت حين تنبّأ بأنَّ كُلِّ سلطةٍ تنمو معها مقاومةٌ داخليّة ٌ تُهدِّد وجودها، وهايدغر حيثُ نبّهَ إلى أنّ التطور رغم قُدرته على تحرير الإنسان من قيود الطبيعة، يؤسس أيضاً لعبوديته داخل منظومةٍ لا يستطيع الفِكاك منها.

إن جوهر الإشكال ليس في الخير أو الشر بحد ذاتهما، بل في استحالة الفصل بينهما. إنهما متداخلان مثل غروبٍ هنا لشروقٍ هُناك، لذا فإن كلَّ محاولةٍ لبلوغ الخير الأعظم دون وعيٍ بحدوده، لن تقود إلا إلى شرًّ محتوم. وإذا كان هرقليطس قد قال “كل شيء في صيرورة”، فإن ما لم يقله هو أن الصيرورة ذاتها لا يُمكنُ أن تستمَّر إلى الأبد دون أن تُعيد خلق فوضاها الخاصة.

الإنسان هو الاعتدال، ليس مجرد اعتدالٍ ميكانيكيٍ بين قوتين متضادتين، بل هو وعي دائم بالحافة التي نقفُ إلى يمينها والأُخرى التي نقفُ على يسارها، هو كمن يمشي على حبل رفيع بين قمتين، لا يجب أن يثق كثيراً بقدميه بل بوعيه المستمر لإمكانية العبث والسير إلى غير ما اشتهى. هذا هو قدر الإنسان أن يسعى نحو الأعلى ويتخيلُ القاع الذي قد يكون سائراً إليه.

Visited 38 times, 38 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث