فاطمة المرنيسي: المقاربة التاريخية بوصفها إثراء للسوسيولوجية

فاطمة المرنيسي: المقاربة التاريخية بوصفها إثراء للسوسيولوجية

لحسن أوزين

         وأنت تقرأ كتب فاطمة المرنيسي هناك متعة ولذة حقيقية وانفتاح للفكر والوعي بولادة شجيرات جديدة في التشبيك العصبي محفزة وناقدة ومتوترة ورافضة لكل الإجابات الجاهزة كما تمارس شكا معرفيا وأخلاقيا بالمعنى العلمي لبناء المعرفة والفكر والثقافة في كل ما يسمى عفويا وتلقائيا تراث وتقاليد إسلامية بنوع من البداهة الأقرب إلى المورثات الجينية التي لا يقبلها إطلاقا الفكر العلمي والنقدي الحديث في بنائه للمعرفة والعلم وهذه التقاليد تعبر ببساطة عن وجهة نظر محددة انتصرت بفعل القوة والإخضاع والهدم للنظام الثقافي المؤسس للاختلاف والمعارضة والتعدد ضدا على العنف الأعمى المؤدي إلى التقهقر والانحطاط على كل الأصعدة. هكذا انتصرت ثقافة الحروب الأهلية التي بلغت اليوم أوج ازدهارها العسكري التكنولوجي معلنة أفق الإبادة المفتوح النهاية بعيدا عن أسلوب الحوار و الإقناع والتفاعل المنمي للذات والأخر كتعدد وتنوع دينامي وحيوي ومخصب ومثري للهوية المتطورة.

في كتابات المرنيسي تكتشف التشويه الذي طال تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ظهور الوحي في حضن امرأة والنبي يقاوم ذكورة البداوة المشحونة بالعنف وبالدافع الجنسي والرغبة في التملك والتسلط لذلك تمت معارضة أغلب مشاريعه التغييرية خاصة على مستوى علاقة الإسلام بالمرأة، وقد عبر الكثير منهم عن هذه المعارضة ومن بينهم عمر بن الخطاب عن عقلية الذكورة كقيم اجتماعية وثقافية تعلي من شأن الذكر الشيء الذي جعل من الصعب عليها ان تستوعب القيم الإسلامية في نظرتها للمرأة في الزواج والطلاق والإرث وفي كل الحقوق والواجبات الدينية والدنيوية. وإزاء المضمون الجديد للذكورة المختلفة والمنبوذة التي مثلها النبي وأهل المدينة في علاقتهم بالنساء كان بعض المسلمين وعلى رأسهم عمر ينظرون بازدراء وتذمر إلى القيمة الاعتبارية والإنسانية التي ضمنتها القيم والمبادئ والأسس الإسلامية بالنظر إلى الظروف والشروط التاريخية الاجتماعية والثقافية في تلك المرحلة. والقيم الجديدة تمثلت في حرص النبي على ربط ومد الجسور بين عالم المرأة وعالم الرجل من منطلق الأخوة والمحبة والمساواة. هكذا نشأ وتبلور مفهوم جديد للفضاء العام والمجال الاجتماعي الذي تتأسس فيه علاقات اجتماعية جديدة من الاحترام والأخوة والندية والرغبة في الوجود والحضور للنساء وقد برزت وتجلت هذه التصورات والمعتقدات لمفهوم التدين الإسلامي في ما يسمى المجال “وباختصار يمكن القول إن الفن المعماري النبوي كان حيزا فيه المسافة بين الحياة العامة والخاصة معدومة وبحيث لم تكن الأعتاب الطبيعية تشكل عقبات إلا فيما نذر كانت هندسة معمارية ينفتح المنزل على مستوى واحد وبسهولة على الجامع وذلك سوف يلعب دورا حاسما في حياة النساء وعلاقتهن بالسياسة هذا التنافذ (التأثير المتبادل) المكاني بين المنزل والجامع سوف تكون له نتيجتان لم يعتقد الإسلام الحديث الرسمي أنه من المستحسن الأخذ بهما أو أنه لم يواجههما الأولى هي أن هذه المعادلة بين الخاص والعام سوف تشجع النساء على صياغة مطالب سياسية وبخاصة معارضة الامتيازات الذكورية المتعلقة بالإرث وحق حمل السلاح والثانية المتفرعة عن الأولى هي أن الحجاب الذي قدم لنا أنه صادر عن الإرادة النبوية قد فرض من قبل عمر بن الخطاب الناطق الرسمي باسم المقاومة الذكورية لمطالب النساء ولم يسلم النبي بذلك إلا في أوج كارثة عسكرية وهي فترة كانت الأزمات الاقتصادية والسياسية تمزق المدينة من كل جانب وتدعها هشة وغير يقينية في صراعات الأحزاب الضارية” .7

هذه الرؤية المجالية لجدلية الانفتاح بين المسجد والبيت وبين العام والخاص وبين الرجل والمرأة هي التي اعتبرت ذكورة منبوذة مرفوضة لذلك تم اختلاق الكثير من الأحاديث التي تبخس المرأة حقها الإنساني مما سهل التعامل معها كسلعة تباع وتشترى. فقد تحايل الفقهاء و القضاة و المحدثون والكثير من العلماء والكتاب في تسييد صورة العداء ضد المرأة وهم بذلك ينقلبون على المكتسبات الإنسانية التي تخدم الرجل والمرأة معا وتحقق الانسجام بين الجنس والسلطة والمقدس. لكن العقلية العصابية كانت تجهل ثورة النساء في خلق مجتمع جديد يسوده التفاهم والتواصل والمساواة والحب “العصاب الناجم عن الحافز الجنسي غير المحقق وحده هو أمر لا يمكن تخيله. فهو ينجم دوما عن إخفاق الجهد الفردي المبذول لجعل الجنس والحب وشهوة السلطة في انسجام …لكن الجنس عند مستوى ثقافي معين لا يمكن إشباعه إن لم تشبع أيضا متطلبات الأنا وخاصة متطلبات الحب.”8

هكذا يحفل تراث القدماء والمحدثين بتضخيم الحافز الجنسي عند الذكر إلى درجة أثارت الفكر الغربي الاستشراقي مما قدم صورة سلبية عن المجتمعات العربية والإسلامية في سلوكها الثقافي والحضاري وذلك العصاب هو بسبب عدم وعي وعيش أولئك المتحاملين على المرأة تجربة الحب كعلاقة إنسانية كما نسوا أن النبي كان عاشقا “سأل الصحابي عمرو بن العاص الرسول(ص)
– من هو الشخص الذي تحبه أكثر في العالم
– إنها عائشة أجاب الرسول
وهنا وقف الصحابي عمرو بن العاص والمحارب المجرب وقف مذهولا من المفاجأة التي ظهرت له بأن هذا الذي يحتل المكانة الأولى في قلب الرئيس ليس رجلا . كيف لا يكون المحاربون هم من يتصدرون هذه المكانة …في جزيرة عربية حيث كانت القوة تهيمن وحيث كان السيف هو الملك فإن هذا النبي الذي كان يؤكد علنا إيثاره النساء على الرجال كان على أهبة تمرير رسالة غير مألوفة وغير عادية حسبما يبدو”9

لقد حورب مفهوم المجال الإسلامي الذي كانت تحكمه جدلية الانفتاح وتكسير الحواجز والموانع بين عالم الرجال وعالم النساء فانبرت أقلام ضيقة العقل والقلب قديما وحديثا إلى محاصرة المرأة وخنقها في مجال الحريم حيث وضعت أحاديث ليس فقط ضد وجودها في المسجد بل حرم خروجها واعتبرت شرا وفتنة وفوضى “لاشيء يفسر التخلي عن نهج الرسول (ص) أكثر من الموقف تجاه دخول النساء إلى المساجد” 10 فمن الإمام البخاري مرورا بالإمام النسائي والحلقة تضيق على المرأة إلى أن نصل (بعد ثلاثة قرون من ذلك ابن الجوزي الإمام الحنبلي الذي يقول “وهذا الخروج إلى المسجد مباح لها فان خافت أن تفتن برؤيتها فلتصل في بيتها” ) 11
ألا يمكن اعتبار هذا التراث القديم والحديث والمعاصر الذي اختزل تعاليم الإسلام في نشر ثقافة معاداة المرأة هو نوع من النبذ والرفض للمضمون الجديد للذكورة الذي أتى به الإسلام حيث كان القران الكريم واضحا وحاسما (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)

“من يحتاج إلى الكثير من النساء لا يمكن في الحقيقة أن يقدرهن حق قدرهن أو أن يكون معهن في حب ولعلكم تتوقعون أن رجلا يتمتع بحظوة كثيرة من النساء والفتيات لا بد أن يكون صديقا للجنس اللطيف ومقرا بالجميل على كل ما تلقاه من عاطفة وحقيقة الأمر أن معظم هؤلاء الدونجوانات أشخاص يكرهون النساء وهذه سمة توضح أيضا الانتصار على النساء من هذا الطراز أكثر أهمية من الإشباع الجنسي ولعل من الأفضل القول إن إشباع هذه الرغبة المحددة يبدو لهم نوعا من اللذة العظمى التي تشتق من الجنس”12

فكيف يمكننا الحديث عن التساكن والمودة والمحبة بين الرجال والنساء. إن هذا التعدد المرتبط تاريخيا بالقهر والاستبداد يجهل حقا الدور الكبير الذي قامت به النساء على مستوى التطور الانفعالي للحب عبر التاريخ البشري. لكن وضعا مثل وضعنا المعادي للمرأة إلى درجة التبخيس والتحقير والحذر والشك في قيمتها الإنسانية واعتبار اي بروز لها في المجتمع نهاية الساعة يجعل من الصعب تحقيق الانسجام بين السلطة والجنس والمقدس فما الذي يمكن ان يقدمه كائن إنساني نزل قهرا إلى المستوى الوجودي النباتي أو أكثر من ذلك حيث “يكتب الغزالي في فصل بعنوان (ذكر سير النساء وعاداتهن) اعلم أن النساء على عشرة أصناف وصفة كل واحدة تشبه بعض الحيوانات فالأولى كالخنزيرة والثانية كالقردة والثالثة كالكلبة والرابعة كالحية والخامسة كالبغلة والسادسة كالعقرب والسابعة كالفأرة والثامنة كالطير والتاسعة كالثعلب والعاشرة كالغنمة”13 إن انتشار مثل هذه الأفكار يؤدي إلى حالة نفسية وجدانية معرفية اجتماعية كارثية لأنها تخلق حالة من النبذ تجاه أية ذكورة تؤمن بالقيمة الإنسانية للمرأة كما أن هذا الوضع يدمرّ قيم التساكن والمودة والرحمة والعشق الخلاق ويؤدي إلى اضطرابات نفسية وانفعالية واجتماعية وتصدعات بين الرجل والمرأة وفي حق الأطفال الذين تشوه أعماقهم وتفرغ من ابسط حس إنساني كما تنتحر الحياة في دواخلهم مخلفة شاهدة قبر تعلن رعب موتهم الوشيك أشلاء على قارعة الطريق “إن التطور الانفعالي للحب يعيقه ضعف الثقة في النفس والنفور من الذات ومشاعر الإثم والإحساس بانعدام الشأن… والاستنتاج واضح تماما ليست المصاعب الجنسية سوى تعبيرات واضحة عن مصاعب أخرى عن شر خفي. إن كون بعض الرجال والنساء عنينين وباردات وكونهم منحرفين جنسيا ولا يستطيعون أداء وظائفهم الجنسية هي مجرد تظاهرات لإخفاقهم وإخفاقهن في محاولة توحيد الجنس وشهوة السلطة والعاطفة وإلحاحهم على حاجاتهم الجنسية لا يعني سوى إنهم لا يدركون تلك النواقص الأخرى وان صراعهم الانفعالي أو كفاحهم العاطفي يبقى غير واع” 14

وفي سياق هذا الفشل الذريع في فهم المشروع النبوي تطورت نزوة التسلط والاستبداد ليس فقط في حجب النساء بل أيضا في لجوء الخليفة إلى مؤسسة الحجابة إذ اعتبرت العامة شرا خطيرا ينبغي حجبه وإقصاؤه من المجال العام السياسي وبالتالي فان هذا الهجوم استهدف مشروع ذكورة متفتحة ومنفتحة وقادرة على احتضان التطور الانفعالي للحب مما يسمح بالحديث عن روحانية النساء في مجال عام بسعة الحرية وتحرر الإرادة.

وهناك الكثير من الأسماء التي استهدفت باعتبارها ذكورات منبوذة نذكر منها على سبيل المثال الخليفة يزيد الثاني الذي تحامل عليه المؤرخون والعلماء بسبب حبه للجارية حبابة ومارسوا في حقه كما هائلا من التعتيم ضدا على تجربته في الحكم وكان محط سخرية لاذعة لكن لحسن الحظ نجد أبا الفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني” يرد الاعتبار ليزيد الثاني وكذلك لحبابة “ذكر حبابة ضمن الفنانين الذين ساهموا في ازدهار الشعر والغناء حيث اعتبرها شاعرة وعازفة موهوبة واعتبر يزيدا رجلا يتوفر على ذوق فني متقدم أهله لكي يقدرها وذلك عكس تأويل المسعودي والطبري اللذين تبنيا وجهة نظر السلطة ووصفا حبابة كمنحرفة وعدوة لله ودينه”15
وهناك العشرات من الذكورات المنبوذة في القديم والحديث وفي وقتنا المعاصر مثل قاسم أمين، الطاهر الحداد، وبورقيبة وغيرهم من الأسماء التي تجرأت على فضح التلاعب بسلطة المقدس قصد جعل المقدس سلطتهم من خلال التسييج الديني لوجود وحضور المرأة والعامة او الشعب. فهي سلطة تعبر عن ممارسة سياسية ثقافية اجتماعية تسلطية استبدادية استجابة لنزوة القهر والتملك وعنف الجنس وشهوة التسلط .

تبين لنا المقاربة التاريخية الجوانب المجهولة في الغالب من تاريخنا المتعدد والمختلف سياسيا وفكريا وثقافيا ودينيا و المختلف أيضا مجتمعيا وجغرافيا وزمنيا حسب المراحل التاريخية هدا التاريخ المنسي الذي حجب بأشكال مختلفة من الحجاب قصد تأبيد صورة نمطية واحدة ووحيدة كأنها الحقيقة المطلقة الجاهزة الناجزة والنهائية وقد تم تسييجها إلهيا بوضع الأحاديث وتكريس فهم وقراءة وتأويل واحد وما عداه باطل وكفر في علاقة السلطة و المقدس والجنس والحقيقة ومرر كل هذا العبء والشر التاريخي كسلاح فعال إلى قلب المسلم كتصورات ومعتقدات دينية لخوض حرب العنف التبادلي بين الإخوة الأشقاء في صورة عصبيات طائفية ومذهبية متقاتلة. وساهمت في نجاح ذلك التمرير عملية التلقين في التنشئة المجتمعية وفي البرامج المدرسية والحلقات الدينية إلى درجة صار فيها ذلك الشر جزء عضويا داخليا في نفسية ووعي الرجل والمرأة وصارت في الغالب المرأة مثل السجان الحازم ضد نفسها في نوع من الهدر الذاتي الخطير والمستعصي على التغيير لان الذي والتي في مصلحتها التغيير صارت هي الأداة المقاومة والعقبة الصعبة في وجه التغيير وضد مصلحتها في تحرر إرادتها وتقرير مصيرها
“تاريخ النساء في الإسلام هو تاريخ محكوم عليه بان يغيب عن الخطاب الرسمي شـأنه في ذلك كشأن تاريخ الفلاحين والفقراء”16

 التناول السوسيولوجي يبقى عاجزا وحده عن الإحاطة بمختلف الجوانب المتعلقة، بحركة التطور التاريخي للبنيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، والسيرورات الخاصة بالديناميات والممارسات والتحولات الاجتماعية السياسية التاريخية. لهذا في غياب المقاربة التاريخية، فإن بعض الأبحاث والدراسات، تضل ناقصة وبعيدة عن التحليل الدقيق، و الشامل العميق للكثير من المعطيات التي تواصل صمتها في الذاكرة التاريخية المبتورة والمقموعة بركام من بديهيات التغلب الأبوي الذكوري، أو التسلط السياسي، والقهر الديني.

هوامش
7 فاطمة المرنيسي الحريم السياسي ص 142
8 ثيودور رايك سيكولوجيا العلاقات الجنسية ترجمة ثائر ديب دار المدى ط1 س2005 ص93
9 فاطمة المرنيسي الحريم السياسي ص 86
10 فاطمة المرنيسي سلطنات منسيات ص 120
11 المرجع نفسه ص 122
12 ثيودور رايك سيكولوجيا العلاقات الجنسية ص 199
13معجب الزهراني مقاربات حواريةط1 س 2012ص159
14 ثيودور رايك سيكولوجيا العلاقات الجنسية ص 96
15 فاطمة المرنيسي سلطانات منسيات ص 59
16 المرجع نفسه 127

Visited 7 times, 7 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي