ثورات الربيع العربي.. إيهام بالديموقراطية وكنس الديكتاتورية

أحمد بلحاج آية وارهام
لا شك أن وصف هذه الثورات بالربيع العربي لا يصدقه إلا من يُصدِّق أن للدجاجة أسنانا ، أولا يصدقه إلا الدجاج على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف. فنحن لا نرى ربيعًا، وإنما نرى قحولة ومحقًا وتهافتا على الكراسي، وتصفية حسابات سياسية وعشائرية وقَبَلِيَّة وطائفية ومذهبية وحزبية، وحالة المواطن العربي تحت أُوَّارِ كل هذا تنحدر إلى الأسوأ، والحريات والحقوق تنكمش وتتقلصُ بذريعة تأمين استقرار الدولة وحمايتها من الإرهاب، ولا أفظع هناك من إرهاب الدولة.
إن الاسم هو حامل الهوية ومرآة أوصافها. وهذا الذي أُطلق على الأحداث العاصفة التي اجتاحت العالم العربي في العام المنصرم ليس هو من الذات بماهي هوية، وإنما هو من ذات أخرى. فقد أشار به الغرب في وسائل إعلامه ليُوهِمَ الجميع بأن هذه الثورات ديموقراطية وعلمانية، وأنها ستزيل بلامِرية الديكتاتوريات التي حكمت قسما كبيرًا من المنطقة بحكم اقتداءِ خطواتها بخطوات النموذج الأوربي، ومن ثمة وسمها بهذا الميسم الخاص به.
فالمصطلح له أصلُُ أوروبي، فهو يستحضر روابط بينه وبين “ربيع الأوطان” سنة 1848 م، و “ربيع براغ” سنة 1968 م، وربيع أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين، حيث بزغت الثورات الشعبية باسم الديموقراطية العلمانية، وسعت إلى الإطاحة بأنظمة مستبدة حكمت لعقود. وهكذا تغيرت ملامح الكثير من الأشياء في يوغوسلافيا، وبولندا، ورومانيا، وحتى في الشيلي.
ووفقًا لهذا التذكير فإن الغرب لا يريد بوصف “الربيع العربي” إلا القول بأن هذه الثورات مماثلةُُ بل مستنسخة للتجربة الأوروبية. والواقع أن هذا لم تثبت صحته في أي جانب من الجوانب، إذ كل ما قيل لا يعدو أن يكون تسويقا عالميا لمكونات مزيفة لم تترجم قط إلى واقع سياسي ديموقراطي سليم. فقد عزز استخدام هذا المصطلح بدلالاته الغربية وتطلعاته العلمانية المقترنة بالتركيز الإعلامي على الصفات الميثيولوجية تقريبا، وعلى تأثير الفايسبوك والتويتر، لصياغة صورة عالمية خاطئة، ونموذج مزيف للتماثل ما بين الشرق والغرب.
وليس أدل على هذا من كون الأنظمة الأمبريالية تدَّعي وتتظاهر بدعم الثورات العربية الراهنة، ولكنها في الباطن تعمل خلف الكواليس لإجهاضها وضربها، وذلك بإنهاء خدمات أنظمة مستبدة، انتفت الحاجة إليها، وإحلالِ أخرى مكانها تحمل أقنعة التغيير، لا جوهره الحقيقي.
ومقارنة بسيطة لِهَذَا الذي يسمَّى بالربيع العربي بربيع براغ ستوضح لنا الصورة، فثوارت طلاب الجامعات سنة 1968م في فرنسا كانت حُمَّى وعي محيط Insider بإشكاليات واقعه، عمَّت المدن الغربية، وكان عرَّابُها الفيلسوف هربرت ماركوز (1898 م –1979 م )، صاحبُ “النظرية النقدية” التي تنفي المؤسسات الاجتماعية السياسية، ومؤلف كتاب “الإنسان ذو البُعد الواحد” الصادر سنة 1964 م، حيث كان ربيع براغ ثمرة من ثمارها؛ إذ في تلك السنة قرر دُوبْتْشِيكْ زعيم الحزب الشيوعي في تْشِيكُوسْلُوفَاكْيَا أن يغير النهج السياسي للبلاد جذريا، فاشترك ممثلو الأحزاب والحركات الأخرى في إدارة الدولة، وأُلغيت الرقابة، وأُطلِق مصطلح “ربيع براغ” على الشهور السبعة التي جرت فيها تلك التحولات.
لكن قيادة الاتحاد السوفياتي آنذاك قابلتها بِرَد فعل سلبي وغزو عسكري.
وقد فهم الرئيس الفرنسي شارل دوغل من أحداث 1968 م مغزاها، فقدّم استقالته من رئاسة الجموهرية سنة 1969 م. غير أن الحكام العرب لم يفهموا الرسالة من هذا الذي دُعي بالربيع العربي، فعَمُوا وصَمُّوا، وظلوا معاندين لتيارات التاريخ الجارفة، إمَّا بالمراوغة والمكابرة أو بالتواطؤات المشيئة، وإمَّا بالقوة العسكرية الماحقة إسوة بالنظام السوفياتي في براغ.
وحتى لو سايرنا منطق القائلين بأن هذا الذي حدث هو ربيع عربي، فأين سنضع الانتهاكات الوحشية التي انصبت فيه على أرواح الناس وكرامتهم وإنسانيتهم؟ وأين سنضع تكميمَ الإعلام المعارض وتصفيتَه؟!. فالذين تولوا الحكم في الدول التي وقعت فيها هذه “الثورات” بادروا إلى تكبيل الأصوات الصارخة ضد ممارساتهم المشتعلة عُتوا وفسادًا. وهنا لا أمنع النفس من التنويه بالراحل دوغول، فقد كانت صحيفة “لو كنار أنشينه le canard enchainé” تنتقده طيلة ممارسته الحكم، ومع ذلك لم يثبت عنه أبدًا أنه اشتكى منها، أو صادرها، أوجرها إلى القضاء، بل إنه كان ينزعج إذا فتحها في يوم ما ولم يجد فيها نقدا موجها إليه. هذا هو المعيار بين الحكم الديموقراطي المواكب لسيادة القانون، والحكم الاستبدادي المواكب لسيادة القوة والقداسة.
إن الثورات غايتها تحقيقُ الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وضمانُ حقوق الإنسان وكرامته، وحدوثُ حالة من التوافق بين مكونات المجتمع، وكل هذه الغايات لا تنتج بين عشية وضحاها، وإنما بعد أعوام. فالثورات كفسائل النخل لا تُعطي التمر إلا بعد مدة طويلة، والوطن العربي لم تُرسمْ فيه بعد مثل هذه الأمور عن جَدٍّ، وكيف ستُرسَم ونحن نُلْفِي فيه – بعد هذا الربيع المزعوم وقبله – أثرياء ينفق الفرد الواحد منهم 16 مليونا في ليلة واحدة، وغالبية مواطنيه يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم! أي ربيع، وأي تغيير هذا الذي يُراد لنا الحديث عنه؟
التاريخ الحق للربيع تكتبه دماء شهداء الحرية وشهداء الفكر، لا قراصنة الثورات. والموقف في بلاد الثورات العربية لم يصل إلى حدِّ الخطر على الدولة ككيان، وذلك لعدة أسباب؛ منها:
أولا: أن الحركة الشبابية فرضت مُسلَّماتها المتمثلة في الحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة.
ثانيا: أن بعض الحركات الإسلامية السياسية صارت تتخلى تدريجيا عن مُسلَّماتها السابقة.
ثالثا: أن الأحزاب السياسية أدركت تخلفها عما يعتمل في صدر المجتمع، وأن القوى الاجتماعية مستنفرة كلها، ومتفاعلة مع العلمية التغيرية، ولا يستطيع فريق أن يفرض سطوته.
فالنضال مازال مستمرا في البلدان العربية إلى أن تترسخ الدولة المدنية، وتفرض مبادئها وممارساتها كدولة للحرية والمواطنة والعدالة. وإلى ذلك الحين فإن حالة المواطن المقهور في ظل هذه الفورات أشبهُ بحالة من يجلس تحت شجرة منتظرًا أن تسقط عليه ثمارها وبركاتها دون أن يهز جذعها، لكونه مشلول الإرادة، ولكون فضائه أشبه بقلعة كَافْكَا.
وكلنا يعلم أن ثورات البشر هي التي تصنع عادة ثورات في المعرفة والحساسية، وبخاصة في الآداب والفنون. فانفصام الممارسة الإبداعية عن الفضاء السياسي الاجتماعي ما هو إلا نوعُُ من الهروب إلى الأمام، وطلبُُ للسلامة من سيف السلطة المستبدة. فالإنسان العربي عاش آلافَ الأعوام من أمطار القهر والحزن والتَّرَحِ، ألا يحق له اليوم أن يعيش سنوات من أمطار الحرية والفرح والكرامة؟
لم يترك استمرارُ الأزمات والنكوصات العربية وتناسخهما المستقبَلي للعقل فسحةَ أمل في العثور على مَخرج من هذه المعضلة الأعقدِ من ذنَبِ الضبّ.