استبداد السلطة السياسية: مقاربة سيكولوجيّة

استبداد السلطة السياسية: مقاربة سيكولوجيّة

د. سيلفا بلوط

يحاكي استبداد السلطة السياسيّة تسلّط الشخصية النرجسيّة المَرضيّة من حيث حصارها لضحيّتها، وعزلها، واستنزاف طاقتها على المستويات كافة: النفسيّ، والإنفعاليّ، والإجتماعيّ، والإقتصاديّ

 وقبل تناول الشبه القائم بين السلطة الاستبدادية والمنحرف النرجسيّ، لا بدّ لنا من التعرّض لهذه الأخير، ولو بإيجاز سريع، لكي يُصار إلى توضيح أكبر للمقاربة السيكولوجيّة لهذه السلطة.

ممّا لا شكّ فيه، تعدّ الشخصيّة النرجسيّة المنحرفة شخصية مضطربة ومتسلّطة، ويعود السبب في ذلك إلى امتلاكها لأنا ضعيف من الزاوية التحليلية، يمتلك النرجسيّ المنحرف “أنا” ضعيفاً نتيجة علاقات مضطربة اختبرها في طفولته مع أمه التي إمّا بالغت في الخوف عليه أو على العكس أهملته، ولذلك يلجأ إلى الابتزاز والتسلّط في علاقاته  كافة سواء كانت زوجيّة أو عاطفيّة أو مهنيّة أو اجتماعيّة… من أجل التعويض عن الشعور الكدِر بضعفه. كما يعمد إلى تمويه تسلّطه بزيّ الديمقراطية ضارباً بعرض الحائط حاجيات المحيطين به على المستويات كافة. كذلك الأمر بالنسبة إلى السلطة الإستبداديّة، فهي تشعر بالضعف، وتخاف هذا الشعور، فتعوّض عنه عبر الإطباق على شعبها والتنكيل به على المستويات كافة: الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافي… ولكي تحمي نفسها، أيضاً، تجاهر بديمقراطيّتها المزيّفة.

 في البدء، تسعى السلطة الاستبداديّة إلى تطويق شعبها عبر إفقاره لتبقيه مرتَهناً لها وملتصِقاً بها. بمعنى آخر، كلما نجحت في إفقاره، كلّما استجداها أكثر للحصول على أدنى حقوقه المتمثّلة في الحاجات الأساسيّة  (الطعام ، الدواء…) وعجز عن التفلّت من براثنها. وهذا ما يفعله المنحرف النرجسيّ، تماماً، إذ يختار ضحية معينة، ويعمل على ابتزازها و إيهامها بأنها بحاجة إليه دائماً، فتشعر بالعجز عن الإبتعاد عنه.  وتسمّى هذه العملية بأواليّة اللصق collage

ويأتي العزل، بعد عملية اللصق، ليعزّز استغلال السلطة لشعبها. إذ تعمد إلى عزل كلّ شريحة أو فئة عن الأخرى المختلفة دينيّا، أو إيديولوجيّاً، أو سياسيّاً.. عبر التعبئة الدين- سياسيّة وذلك للتحكّم بها أكثر، ولاستغلالها من أجل مكاسب مرتبطة بمصالح رجالها الخاصة أو بأجندات خارجيّة معينة. ويعود السبب وراء هذا العزل إلى الخوف من العيش المشترك باعتباره يحرّر الفئات المعزولة ويدفعها إلى تبادل المصالح، فتنتفي حاجتها للسلطة.  ولا يخفى، أيضاً، من أن هذا التحرّر  يُضعف هذه السلطة، لأن الانفتاح على الآخرين يُبرز فشلها ، فيتبدّى نفاقها. وتتبدّى أوالية العزل بقوة عند النرجسيّ المنحرف الذي يلجأ إلى إبعاد ضحيّته عن أصدقائها وزملائها والمحيطين بهدف التحكّم بها أكثر، وإخضاعها.                             .

 أما بالنسبة إلى الأواليّة الأخيرة التي تستخدمها السلطة الاستبداديّة للإطباق كليّاً على شعبها، فتتمثّل في الاستنزاف بعد أن يتمّ عزل كلّ فئة على حدة، تعمد إلى “تفريغ” المواطنين من كلّ طاقاتهم وإنهاكهم على الصعد كافة وأبرزها المعيشيّة، فتجعل “اللهث” خلف لقمة عيشهم شاغلهم الوحيد. بمعنى أنها تعمل على امتصاص طاقاتهم النفسيّة والمعنويّة، فتلقي بهم في “بئر” من العجز، إن جاز التعبير، ومن ثم تدفعهم إلى الإستسلام للوضع الكدِر والتكيّف معه. وكأنها تخلق لديهم الميل إلى الخنوع والتسليم بالأمر الواقع… ولا يخفى، من أن هذه السلطة تستمدّ قوتها من استنزاف طاقات شعبها،  وتوظيفها لحماية نفسها. وممّا لا شكّ فيه أن المنحرف النرجسيّ “يبدع” في استنزاف طاقات ضحيّته ليستمدّ القوة، وليحمي نفسه من الشعور بالألم الذي ينتج أناه العاجز والضعيف

خلاصة القول يبدو أن لكلّ سلطة مستبدّة، مهما كانت طبيعتها دينيّة أو عسكريّة، نرجسيّتها “المرضيّة” التي تحميها من ضعفها، فتعمد إلى تعزيزها عبر إضعاف طاقات مواطنيها وتوظيفها من أجل الحفاظ على تماسكها “الهشّ.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. سيلفا بلوط

باحثة متخصصة في علم النفس