العالم: إلى اليسار دُرْ..!؟

العالم: إلى اليسار  دُرْ..!؟

محمود القيسي

على وسادة الشر إبليس المُعظَّم

الذي يُهدهد طوِيلاً أرواحنا المسحورة..

تُبخّر تماما على يد هذا الكيميائي العليم.

هو الشيطان الذي يُمسك بالخيوط التي تُحرّكنا!..

وننحدر كل يومٍ خطوة إلى الجحيم..

لكن بين الوحوش العاوية، والنابحة، والمُزمجرة والزاحفة..

هناك ما هو أكثر بشاعة، وفظاظة، وقذارة!..

ويمكنه أن يُحيل الأرض إلى أطلال

ويبتلع في إِحدى تثاؤباته العالم…!

تشارلز بودلير

 

يسير العالم في عصر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي فى عجالة لاهثة نحو نهايته الحتمية. لقد أصبح هذا العالم  يرى كوابيساً كأنه يسقط عن مساره الكوني، فيستيقظ مذعورًا، وتمر عليه فترة حتى يدرك أين هو.. هو أسير أجهزته الخليوية الذكية المحمولة حيث لا توجد أبواب للخروج.. والخروج هو الدخول!.. توقعت إحدى أهم المواقع الإعلامية (اليمينية) في العالم.. أو بالأحرى إحدى أهم المواقع الليبرالية تاريخياً.. أو النيوليبرالية اليمينية “الجديدة” في الحقيقة.. توقعات “إيكونوميست” الجديدة للعام الجديد 2023: السياسة العالمية ستتجه أكثر إلى اليسار في عام 2023.. موقع “إيكونوميست” يتحدث في مقال مفصل عن احتمالية اتجاه السياسة العامة أكثر إلى اليسار أو اليسار الوسط في العام 2023. كما ذكر موقع إيكونوميست أن السياسة العالمية تتغير باستمرار مع تغير العالم. ففي العام 1945، قرر الأوروبيون أن على الدولة أن تنشئ اقتصاداً حديثاً ودولة رفاهية أوسع بعد الحرب. وفي العام 1979 أدت مضاعفة أسعار النفط إلى التحول بعيداً عن التعاون المرن بين الدولة وقطاع الأعمال الخاصة، وبالتالي بات هناك دور أكبر للأعمال والمشاريع الخاصة – القطاع الخاص. وفي سؤال هل سيكون  هناك تحول آخر في العام 2023؟  عدّد الموقع بعض التحولات التي حدثت عام 2022، والتي شملت انتهاء عقد أسعار الفائدة المنخفضة، وارتفاع أسعار الطاقة، وحدوث التضخم العالمي، إضافةً إلى الحرب في أوروبا بالتزامن مع جائحة كورونا.

“كذب المنجمون ولو صدقوا”.. في حين كذب المنجمون أو لم يكذبون، هناك مقاربة تثير الشكوك في عمل المنجمون والدول الغربية والشرقية الكبرى.. وقادة الفكر، وقادة الأجهزة العالمية، والصحف، والمواقع، ومراكز الدراسات والأبحاث والتوثيق.. أجهزة المعلومات وأدواتها التكنولوجية الذكية العابرة لكل شيء واي شيء.. هل أصبح المنجمون ورموزهم في العصر الحديث وما بعد الحديث يعملون على أجندات القوى السياسية العالمية والاقليمية والمحلية في تصدير ومصادرة الرأي العام الذي أصبح يجتر المعلومات من خلال “الصورة” والتنجيم والتكنولوجيا الذكية؟!… ام هو عالم تكنولوجيا الالكترونيات الذكية ومعلوماتها الذكية – الكمية الموجهة ونوعية من يعيش و يعتاش على (ثقافة) التنجيم السياسي والاقتصادي والمالي في مناسبات الرعب المعرفي سنوياً وشهرياً ويومياً على مدار الساعة والمناعة الفكرية المجتمعية التي أصبحت تحت الصفر!؟.. والتي تعتبر الساعات الأخيرة من كل عام وقتا مناسبا للسياسيين والاقتصاديين والمنجمين والمطبلين لنشر توقعاتهم عبر مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي وجميع وسائط عالم ما بعد الحداثة من الثورات إلى الارهاب إلى غضب الطبيعة والبيئة الملوثة والأمراض البيولوجية المتحولة والمتحورة والمتطورة والمتعددة.. إلى الأحداث الغريبة والمُفاجئة التي ستُرعب الكثيرين إلى المُشكلات الاقتصادية التي ستغمر العالم عما قريب وثقافة الحروب المتجولة حول عالم ما بعد الحداثة أو ما بعد التنبؤات والتنجيم وقراءة “كف” العالم وطالعه وفنجان القهوة السادة!؟

كما لفت موقع الإيكونوميست إلى أنّ “هذه الاتجاهات تنذر بتحولات سياسية واسعة في البلدان الغنية، ومن المتوقع أن تتحرك السياسة إلى اليسار، كرد فعل على حكومات يمين الوسط، التي هيمنت على الديمقراطيات الغنية خلال العقد الماضي”، مضيفاً أن هذا ما بدأ بالحدوث. كما تابع الموقع أنّه يمكن الاستدلال على ذلك من لقاء مجموعة الدول السبع الذي حصل مؤخراً في بافاريا، حيث اجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع 5 قادة آخرين (جميعهم من يسار الوسط): كندا – فرنسا – إيطاليا – ألمانيا – اليابان. وأوضح الموقع أنّ “هذا تحول عن اجتماع قادة الدول السبع في العام 2010، مع سلف بايدن باراك أوباما، حيث كانوا عندها من التيار اليميني أو يمين الوسط”. يضاف إلى هذه النقاط، وفق الموقع، نقطة الرأي العام الذي يبدو، وكأنه يتجه إلى اليسار في الديمقراطيات الغنية. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، انخفضت نسبة المستجيبين للاستطلاعات التي أجراها مركز “بيو” للأبحاث، والذين قالوا إنّ البنوك كان لها تأثير إيجابي على الاقتصاد من 49% في عام 2019، إلى 40% بعد 3 سنوات. وختم المقال: “يبدو هذا بعيداً كل البعد عن اعتقاد الثمانينيات، بأن المشاريع الخاصة ستحل العديد من مشاكل العالم”. في حين ينام اليسار “الثوري” القديم في مستودعات أرشيف الدول والأحزاب “التقليدية” المنتهية الصلاحية التاريخية لعل “الله” رغم خلافهم معه يحدث بعد ذلك أمرا.. إذا إستجاب لصلوات ودعاء الفيلسوف السلوفاكي الماركسي سلافوي ججك..!

طالما أن عامة الناس كما يقول نعوم تشومسكي لا يعلمون أو غير مبالين أو تم تحويلهم إلى النزعة الاستهلاكية أو الكراهية والإنشغال بإقصاء بعضهم البعض…. عندها يمكن للأقوياء أن يفعلوا ما يحلو لهم، وسوف يُترك أولئك الباقون على قيد الحياة للتفكير في نتائج واقعهم…!؟ تجدد الخلاف بين حكومة الولايات المتحدة الامريكية الإمبريالية من جانب، وحكومة (تيك توك) الإمبريالية الحديثة من الجانب الأخر.. حيث أعتقد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بعد معلومات وثيقة: إن “تيك توك” يثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي على صعيد الولايات المتحدة والعالم.. قال رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، كريستوفر راي، إنه “قلق للغاية” بشأن تهديد الأمن القومي المتصور الذي يشكله تطبيق “تيك توك” الامبريالي ههها.. هذا، وأكد كريستوفر راي لأعضاء لجنة الأمن الداخلي في مجلس النواب أنه “يمكن استخدام التطبيق المملوك للصين بعدة طرق لتهديد أمن المستخدمين، أو حتى التأثير على طريقة تصويتهم أو إدراكهم لقضايا معينة”، مشددا على أن “المكتب لديه مخاوف تتعلق بالأمن القومي بسبب تيك توك”. وأوضح أن هذه المخاوف تشمل “إمكانية أن تستخدم الحكومة الصينية هذا التطبيق للتحكم في جمع البيانات وملايين المستخدمين، أو التحكم في خوارزمية التوصية، والتي يمكن استخدامها لعمليات التأثير إذا اختاروا ذلك. أو للتحكم في البرامج الموجودة على ملايين الأجهزة، مما يمنحها الفرصة لإمكانية اختراق الأجهزة الشخصية تقنيا”.

وقال متحدث باسم “تيك توك” إن الشركة تجري مناقشات مع المنظمين والحكومة الأمريكية في محاولة لتخفيف المخاوف بشأن تأثيرها والبيانات التي تتعامل معها، مضيفا: “كما أوضح المدير راي في ملاحظاته، فإن مدخلات مكتب التحقيقات الفيدرالي يتم النظر فيها كجزء من مفاوضاتنا الجارية مع الحكومة الأمريكية”. وأِشار إلى أنه “بينما لا يمكننا التعليق على تفاصيل تلك المناقشات السرية، نحن على ثقة من أننا نسير على طريق الإرضاء الكامل لجميع مخاوف الأمن القومي الأمريكية المعقولة”. يذكر أنه في عام 2019، منع الجيش الأمريكي والبحرية الأمريكية المجندين من تنزيل واستخدام “تيك توك” بسبب مخاوف أمنية، بينما وصفته وزارة الدفاع بأنه “ينطوي على مخاطر محتملة مرتبطة باستخدامه”. ألعالم يسير في عصر التكنولوجيا الاصطناعية الذكية فى عجالة لاهثة نحو نهايته الحتمية. نعم، لقد أصبح هذا العالم  يرى كوابيساً كأنه يسقط عن مساره الكوني!؟ نعم، يستيقظ هذا العالم مذعورًا وتمر عليه فترة حتى يدرك أين هو!؟ نعم، لقد أصبح هذا العالم أسير أجهزته الخليوية الذكية المحمولة حيث لا توجد أبواب للخروج!؟.. والخروج هو الدخول!؟… نعم، نحن في عصر انظمة ما بعد بعد الحداثة والتي تخشى معها دولة بحجم ولايات الانكل سام المتحدة “تطبيق” بحجم وعمر التيك توك الافتراضي.. والبقية تأتي.. افتراضيًا!؟؟

منذ نشوء مفهومَي “اليسار” و”اليمين” تاريخياً لم يعد أمام عالم أو “حضارة” ما بعد الحداثة سوى التأقلم مع عالم متعدد الأقطاب والحضارات واللغات والثقافات أو أننا سنعيش عالمًا أشد اضطرابًا (في حال أصرت العواصم الكبرى) ستحكمه الفوضى والحروب الجوالة والموت المتعدد من الهويات إلى اللغات إلى الديانات إلى المعتقدات إلى الأيديولوجيات إلى التكنولوجيات إلى الثقافات إلى الحضارات إلى التاريخ إلى الجغرافيا إلى السياسية.. يعترف معظم المؤرخين والمفكرين والمراجع بصعوبة الإتفاق على تعريف عام شامل لمفهوم اليسار، لأنه يتفاوت من مجتمع إلى آخر ومن فترة تاريخية إلى أُخرى.. ويقدم الكثير من النخب الفكرية أمثلة صارخة كيف أنه، في الولايات المتحدة مثلاً، تُطلق تسمية “الليبرالية” على يساريي الحزب الديمقراطي وعلى اليساريين عمومًا (ربما في مواجهة اليمين المحافظ)، بينما في معظم دول أوروبا، توضع “الليبرالية” و “اليسار” على طرفيَ نقيض، وخصوصاً “الليبرالية الجديدة”، وهو ما يقود إلى القول إن للمصطلح، فضلاً عن مدلوله التاريخي، مدلولاً زمانيًا ومكانيًا ومجتمعيًا يتغيير ويتبدل مع تطور الظروف الزمكانية تاريخيًا.. لم تعد مفاهيم اليمين واليسار القديمة صالحة للتداول سوى في مكتبات التاريخ و رفوفه المكدسة فوق الأرض.. وتحتها.. أو على رفوف الأحزاب الشيوعيه الكلاسيكية وما تبقى منها!؟

العلوم السياسة وفنونها وقوانينها الأساسية المُقوننة مثل لعبة الشطرنج.. كل الخطط والتكتيكات والاستراتيجيات والكواليس والتراجع والتقدم والمناورات والتشويش والترهيب والترغيب والهروب إلى الوراء والهروب إلى الامام… مسموحة ومباحة، بشرط أن لا “تصل” إلى نقطة “الصفر”.. وإن لا يقال لك “كش”.. كش ملك، أو كش رئيس، أو وزير أو نائب أو حزب أو زعيم.. شهد مصطلح اليسارية واليسار واليساريين في معظم المراجع اللغوية والسياسية والاقتصادية والفلسفية والواقعية تاريخيًا تغيرات أستخدامها لأول مرة في فرنسا للتعبير عن التيار المعارض للأرستقراطية ورجال الدين حيث أن أستعمال المصطلح في الوقت الحاضر مختلف عن الاستعمال الأصلي. بالرغم من شيوع أستعمال مصطلح اليسارية لكنه لا يوجد إجماع على التعريف الدقيق لليسار واليمين السياسي ولكن هناك العديد من الآراء المختلفة عن ماهية اليسار السياسي ومنها: (النتيجة العادلة) تمثـل سياسة اليمين.. بينما (الوسيلة العادلة) تمثل سياسة اليسار.. ومن الأمثلة هنا أعتبار اليمين نشر الديمقراطية (نتيجة عادلة) بإستعمال القوة أو الاحتلال (وسيلة غير عادلة) أمراً مقبولا.. بينما يصر اليسار على إتباع الوسائل العادلة لتحقيق الغايات العادلة.. رفض عدم المساواة الناتجة من التجارة والسوق الحرة هي سياسة اليسار واعتبار الفرق في الثروة الناتجة من التجارة الحرة امرا مقبولا هي قناعة اليمين.. التركيز على المساواة هو اليسار والتركيز على الحرية هو اليمين (تعبير غير دقيق)!؟!…

أعتقد الفيلسوف اليوناني هيراقليتوس، فيلسوف الصيرورة والنار في عصر ما قبل سقراط أن النار هي الجوهر الأول، ومنها نشأ الكون. كما كتب بأسلوب غامض يغلب عليه طابع الحزن.. ولذا، عُرف بالفيلسوف الباكي. تأثر بأفكاره كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو. في حين أكدَّ فيلسوف النار الباكي الذي أعتقد أيضًا إن نار الله لطيفة على مبدأ الصراع بين قوى متضادة وبالتالي أنَّ السكون الذي يقعُ عليه النظرُ في الأشياء ليس إلا مظهراً خادعاً. ونحى سقراط بأسباب الفروق بين الناس على التربية مؤمناً بالتساوي في المواهب بين الجميع. وكان أفلاطون منظراً لمفهوم التفاوت الأصلي الإلهي بين البشر ورأى بأنَّ المعرفة ليست إلا من حظوة الصفوة. بالمقابل رفض أرسطو فرضية سلفه عن المعرفة جاعلاً منها حقاً للجميع لكن استمرَ في مناصرته لنظام الرق ظناً منه بأنَّ بعض البشر مجبولون بجينات العبودية..!؟ وهكذا يتموقع الفلاسفة على رقعة الفكر بناءً على نظرتهم لمفهوم الهوية البشرية. لايكتفي الفلاسفة والمفكرين ودور الدراسات والبحوث والمعرفة بالحث عن أطياف اليسار واليمين في الفلسفة الكلاسيكية بل ينتقلون إلى عصر الأنوار مُتابعون بوادر اليسار لدى كل من ديكارت وكانط وجون لوك من اجل {استجلاء دور المعقتدات الدينية} وتطويعها لحماية النظام القائم الذي لاتعكسُ سياسته سوى مصالح الأقلية فالدين على الرغم من قيمه السامية قد يضيف خوفاً إلى خوف في مناخ موبوء بالطغيان. كما يعود الفلاسفة والمفكرين والنخب أكثر من ذلك إلى قراءات متباينة لنظريات أساطين الفكر الإقتصادي آدم سميث وريكاردو جيرمي بنثام. ما تتناوله تلك النخب ليس سرداً للأفكار والتنظيرات  فحسب إنما رصدُ للحراكات الثورية مُستكشفة دوافعها الموضوعية منها ثورة القرامطة في العهد العباسي وثورة جراتشوس بابوف، واسمه الحقيقي فرانسوا نويل بابوف الذي كان يطالب بالغاء الملكية الخاصة في فرنسا القرن الثامن عشر مُقتنعاً بأنها شر البلية.

هذا قبل التحول إلى دراسة مفهوم العدالة الاجتماعية لدى ماركس وفلسفته المبنية على المادية الجدلية والمادية التاريخية.. وضرورة البحث في نظريات أقطاب الإشتراكية الطوباوية وأنَّ تنطلق جميع المقاربات لمفاهيم ومفردات الفلسفة الماركسية من عقلية نقدية مرنة وهي أنَّ البروليتاريا لم تَعُد كما تَمثَّلها ماركس وأتباعهُ القوة الأساس من قوى التغيير الاجتماعي بعد انفتاح المُجتمعات على المهن الإدارية والرمزية الجديدة هذا ناهيك عن الثورة الرقمية التي غيرت الأمزجة وزادت من قيمة المظهر كما أنَّ المضاربات والظواهر التي عجنت شكل الاقتصاد العالمي قد لاتُفسر على ضوء ماجاد به عقل ماركس. ربما لم يخطر بفكر صاحب “رأس المال” بأنَّ التعليم سيكون عاملاً لتعميق الشرخ الاجتماعي لأنَّ هذه القيمة الرمزية توفرها قوة المال كما هي تتحول تالياً لمصدر اكتساب الثروة في سوق العمل. أصبح من المهم في إعادة تعريف مفهومي ثنائية اليمين واليسار هو الربط بين الأفكار والمعاينة للواقع والواقعية الأمر الذي يزيدُ من حيوية آلية البحث والاستقراء وقطع الطريق على التنميط والاختزال إذ لايصحُ اقتصار اليسار على الفكر الماركسي فقط.كما أنَّ استبدال عدد من اليساريين قبعاتهم بربطة العنق ليس حجة ضد الفلسفة اليسارية ولايطمس تاريخاً من فتوحاتها الفكرية الكبيرة في الشكل والمضمون. ويبقى (السؤال المركزي) الذي يجبُ أن يعاد طرحه باستمرار متى يمكن الحديث (الواقعي) عن مرحلة مابعد الرأسمالية؟ ولماذا لم يشخ هذا النظامُ (واقعيًا) حتى ألان؟!.. قد يكون السرُ يكمنُ فيما يقولهُ الفيلسوف الفرنسي دلوز بأنَّ كل ما هو سلبي بالنسبة إلى المُجتمعات السابقة صار عنصر إيجاب مع الرأسمالية.. كما أنها لاتمتلكُ جذوراً.. وهي سيرورة تحرر دائم.. تحرر دائم من الموطن.

لم يكن من قبيل الصدفة أن يخصص عالم الإجتماع الفرنسي الكبير بيار بورديو دروسه في “كوليدج دي فرانس”، أرقى معاهد الأكاديمية في فرنسا قبل عشرين سنة للبحث المتعمق في موضوع الدولة – راجع كتابة “عن الدولة” والذي صدر عام 2012 عن دار النشر SEUIL الفرنسية. إختار بورديو موضوع الدولة نظراً لأهمية إستشراق مستقبلها في عصر العولمة – أي بمعنى آخر، إعادة تشكيل الدولة في عالم مفتوح، نظراً لأهمية بل إدراك وفهم منطق التغيرات العالمية التي بسطت رواقها على مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، بحكم العديد من الثورات العلمية و التكنولوجية و المعلوماتية. كما أعتقد إن هذه الثورات النوعية في تطورها يجب ان يدفعنا إلى إعادة إكتشاف العالم، بمعنى إعادة صياغة المفاهيم السياسية والاقتصادية والثقافية في ضوء نماذج نوعية جديدة في شكلها و مضمونها.. هذه النماذج القيمية تمت صياغتها في ضوء إستخلاص الخبرة من أحداث القرن العشرين من ناحية، وصعود نماذج معرفية و علمية أخرى، أبرزها التحول من نظريات “الحداثة” الغربية التي كانت وراء التقدم الإنساني إلى نظريات “ما بعد الحداثة” التي إعتبرت لأسباب شتى إن الحداثة، بصفتها مشروعاً حضارياً غربياً، مرحلة وصلت إلى منتهاها و نهايتها. وإن التكيف الفكري مع المتغيرات الجديدة واستيعابها، مسألة حاسمة في حيوية العقل السياسي المعاصر في المراجعة الشاملة. بعبارة موجزة، لقد دفعت هذه الثورات العلمية الجديدة في تطورها الخارق المفكرين بل نخبتهم إلى العمل الجاد على إعادة إختراع العالم! أي ضرورة صياغته بصورة جديدة في ضوء التغيرات الكبرى التي حدثت، و في مقدمتها أفول أو كما ذكرنا سابقاً “موت” الدولة المعاصرة ( أي الدولة الوستفالية ، نسبة إلى معاهدة و ستفاليا الشهيرة ، التي صدرت في العام 1648 ) وولادة الدولة “الجديدة”.. الدولة “الافتراضية”.. 

هذا العالم الافتراضي، بكل تجريد وواقعية، أصبح حقيقة قائمة في متناول الجميع، إنها تكنولوجيا الإنسان وأيديولوجيته الاقتراضية الجديدة من جهة، في تطور خارق للآلة و التي بدأت و بدون أدنى شك تحفر قبره و قبرها بسرعة تطورها من الجهة الأخرى.. والتي هي أسرع بكثير من حاجاتنا لها في تراكمها الكمي، والحقيقة المرعبة في تحولاتها النوعية.. و نوعية تراكمها في سلبية تراكمية مفرطة، سلبية الإحتمالات المفتوحة على كل الاحتمالات، إنها (السلاح الجديد) في إنتاج المكر و الجشع و التغول الراسمالي، في أقصى سرعته والتي أصبحت في متناول أيدي أطفال الزمن الإفتراضي – أطفالنا.. أجيال المستقبل، بمقاييس جد تقنية وحدود مطلقة في نسبيتها!؟.. إنه عصر الآلة الأكثر تطوراً و تباعداً في مقاييس غير مسبوقة بالقياس إلى القدرات المسبوقة.. عصر إختفاء الملامح و التفاصيل.. عصر الإغتراب الذاتي و الموضوعي و بكل موضوعية.. عصر التباعد الإجتماعي بكل أشكاله و أنواعه الاجتماعية.. رغم تقارب المسافات، ورغم الأنفاس المسموعة في التقارب المكاني أي في المكان نفسه افتراضياً!؟… لخص سيغموند فرويد في كتابه “قلق أو توعك الحضارة ” قبل أكثر من ثمانين سنة، تأملاته، حول ما كان يسميه “مصير الحضارة” والذي رسم فيه صورة للتوازن الشديد الهشاشة الذي بات الكائن الإنساني يجد نفسه فيه في تلك المرحلة التاريخية الأكثر هشاشة. أصبح هذا الفرد الكائن إلى يومنا هذا في مواجهة حضارة افتراضية تدفعه إلى موته الذاتي والموضوعي افتراضياً بدلاً من أن تدفعه إلى الحياة الواقعية افتراضياً في أقل تقدير افتراضي!؟..

هكذا أجاب بعض الشعراء والأدباء عندما سًئلوا عن كوابيس عالم ما بعد الحداثة.. عالم القوة الذكية وتكنولوجيا الآلة الحاكمة.. عصر الاغتراب الإنساني الذاتي والاغتراب الموضوعي: محمود درويش: لا شيءَ يُعجبُني أُريدُ أَنْ أبكي! لوركا: أريدُ أنْ انامَ قليلًا قليلًا دقيقة.. أو قرن! بوكوفسكي: كلُّ ما أريدُ فعله هو أن أذهبَ إلى الفراشِ، أغلق عينيَّ، وأنامَ إلى الابد!.. خلال استلامها جائزة نوبل، وبروح فكاهية ساخرة قالت الشاعرة البولندية الكبيرة ڤيسواڤا شيمبورسكا: “وحدهم الجلادون والدكتاتوريون والمأفونون ومتملقو الجماهير يعرفون، لكنهم يعرفون مرة واحدة إلى الأبد”. تمتاز قصائدها باستحضارها القضايا الفلسفية والوجودية، إضافة إلى تبني مشروعها الشعري التأمل في بواطن الأشياء حيث كتبت في إحدى أهم قصائدها “لا شيء يحدث مرتين ولن يحدث. لهذا السبب ولدنا بدون مهارة وسنموت بدون ممارسة. حتى لو كنا التلاميذ الأكثر بلادة في مدرسة العالم, فلنْ نُعيدَ درسَ أيّ شتاء، ولا أيّ صيف. ما من يوم سيُكرّر نفسَه لا توجد ليلتان متماثلتان ولا قبلتان متساويتان ولا نظرتان في الأعين متطابقتان. أمس، حينما اسمك ردده أحدٌ على مسمعي شعرتُ كما لو أن وردة قُذفتْ في غرفتي من نافذة مشرعة. اليومَ ونحن معا, أدرتُ وجهي للحائط.. الوردةُ؟ كيف تبدو الوردة؟ هل هي زهر؟ أو ربما حجر؟ لماذا أنت أيتها الساعة السيئة تضطربين بحذر لا داعي له؟ أنت موجودة – إذن ينبغي أن تنقضي. ستنقضي – وهذا شيء جميل. مبتسمين, نصف متعانقين نحاول البحث عن الوئام, رغم كوننا مختلفين عن بعضنا كقطرتين من الماء.. الماء الزلال”.

<

p style=”text-align: justify;”> 

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني