الفقّاصَة “الباسبُور” و”الأوَاني البُندقيّة” ومُوشّح شَمْس العَشيّة

الفقّاصَة “الباسبُور” و”الأوَاني البُندقيّة” ومُوشّح شَمْس العَشيّة

د . محمّد محمّد خطابي

    عندما كنت مقيماً بأرخبيل الخالدات أو جزر الكناري أواسط التسعينيات من القرن الفارط.. ذهبتُ ذاتَ مساء إبّانئذٍ رفقة بعض الأصدقاء المغاربة الذين جاءوا لزيارة هذه الجزر الساحرة المحظوظة التي يقطنها سكّان من ذوي الأصول، والآثال،والأعراق، والأجناس،والإثنيات والسِّحن الأمازيغية لمغربية القحّة، ذهبنا لنتعشّى فى مطعم إيطالي فى الثغر السياحي الجميل الشهير الكائن في جنوب جزيرة “غران كناريا” المُسمّى “الشاطئ الإنجليزي ماسْ بالوماس”، وكان هذا المطعم معروفاً بإعداد بعض الأطباق  التقليدية والمقبلات القديمة الإيطالية المتوارثة كقواسم مُشتركة بين ثقافات البلدان الواقعة على السّواحل المحاذية لضفاف البحر الأبيض المتوسّط  (بحرنا) على وجه الخصوص.

    ما زلتُ أتذكّر جيّداً عندما قدّم لنا النادل الإيطالي الظريف – في انتظار الأطباق الرئيسية التي وقع اختيارنا عليها- خبزاً منفوشاً ومنفوخاً حديث الخروج من الفرن مع صنفٍ من الجبن الإيطالي الشهير عالمياً يسمّى  Queso parmesano كان هذا النوع من الجبن الإيطالي مرشوشاً بزيت الزيتون الإيطالي الحرّ المعروف بجودته العالمية العالية.. عندئذٍ، سألتُ النادل: ما اسم هذا النّوع من الخبزعندكم..؟ أو كيف تسمّونه فى إيطاليا..؟ فكانت دهشتي، ودهشة من كان يرافقني في تلك الأمسية اللطيفة كبيرة فى تلك اللحظة عندما أخبرني أنه يُسمّى عندهم  fugàssa  /La focaccia / focacha/ (فوكّاتشة).. (فوكاسّة) (فقاصة). فقلت لأصدقائي على الفور هذا الاسم يذكّرني بـ: (فقاصة) أو (فقاقص) تطوان العامرة الفيحاء حيث رأيتُ النور عند قدومي لهذا العالم (كما تشتهر بعض المدن المغربية الأخرى المجاورة بإعداد هذه الفقاصة العجيبة)، بل هذا الاسم قريب فى النطق والمبنىَ والمعنىَ من (الفقاصة)، ولابدّ أن هذا التأثير التثاقفي واللغوي المشترك  ينحدر من  البلدان المغاربية، أو العربية، أو بالأحرى من الأندلس أو العكس!..

   لا غرو، ولا عجب فالأندلسيّون كانت لهم صلة وثقى بإيطاليا  وبسائر البلدان الاوربية الأخرى كما هو معروف، وكانت التأثيرات فى مختلف المجالات متبادلة بينها وبين مختلف البلدان القريبة الواقعة على تخوم الأندلس والبحر الأبيض المتوسّط بشكلٍ عام ، وكانت (فرق الطروبادور) الموسيقيّة الأندلسية التي يؤكّد شيخ المستشرقين الاسبان الرّاحل “إميليو غارسيا غوميس” أنّ هذه الكلمة تحريف للكلمة العربية المكوّنة من شقّيْن وهي (دور الطرب) التي كانت تجوب العديد من المناطق الإيطاية وجنوب فرنسا منذ القرون الوسطى، ولا ينبغي أن يعزب عن ذهننا أن الأندلسييّن قد تغنّوا فى أشعارهم، وأزجالهم ، وأغانيهم، وخرْجاتهم، وموشّحاتهم حتى بـ (الأواني البندقية!) أيّ بالأواني الزجاجيّة أو البلّوريّة الشّهيرة التي كانت تُصنع بمهارة فائقة  فى مدينة فينيسيا أو البندقية الإيطالية المعروفة (وهي بلدة الرحّالة الإيطالي الشهير “ماركو بولو” الذي بذّه وتجاوزه فى المسافات والقرون، وفى الأرقام القياسية رحّالتنا الطنجاوي الذائع الصّيت عالمياً ابن بطّوطة حسب معظم الدارسين والمنشورات، والمجلاّت العلمية المتخصّصة بما فيها ناشيونال جيوغرافيك).

    ولنا في الأندلس الفيحاء شاهدٌ جليّ واضح على (الاواني البندقية) فى أغنية (شمس العشيّة) الأندلسيّة التي تعتبر من أشهر وأجمل الاغاني الأندلسية التي حفظناها عن ظهر قلب منذ نعومة اظفارنا في طفولتنا البعيدة وهي ما زالت منتشرة بيننا  انتشاراً واسعاً حتى يومنا هذا، إقرأوا، أو غنّوا، وأطربُوا معي:

   شَمْسُ العَشِي قَدْ غَرَّبَتْ وَاسْتَعْبَرَتْ ** عَيْنِي مِنَ الفُرْقَا ** عَلَى الشَّفَقْ قَدْ سَطَّرَتْ حِينَ غُيِّبَتْ * زَادَ العَشِيقْ شوقا ** حَتَّى الطُّيُورْ قَدْ غَرَّدَتْ وَتَرَنَّمَتْ ** تَرْثِي عَلَى الوَرْقَا ** يَا شَمْسَ العَشِيَّة ** أمْهِلْ لا تَغِبْ بِالَّلهِ رِفْقَا ** هَيَّجْتِ مَا بِيَ ** حَتَّى زِدْتَنِي فِي القَلْبِ شَوْقَا ** تَرَفَّقْ عَلَيَّ ** إنِّي فِي الـمَلِيحْ قَدْ زِدْتُ عِشْقَا ** فِي الوَادِي الـمُذَهَّبْ ** وَوَجْهُ الـملِيح مِثل الثُّرَيَّا ** وَالسَّاقِي المُؤدَّبْ ** يَسْقِي بِالأوَانِي البُنْدُقِيَّة ** صَفِّفُوا القِطَعْ وَزِيدُوا نَغْنَمُ هَذَا العَشِيَّة ** كُلُّنَا كَأسُوا فِي يَدُو يَغْتَنِمْ سَاعَة هَنِيَّة **  إلخ.

   هذا المقطع من أغنية الموشّح الأندلسي الشهيرمن أغنية  شمس العشيّة  الجميلة ترد فيه  – كما يلاحظ القرّاء الكرام- عبارة (الأواني البندقية) مع تناول كؤوس الشّاي المُنعنع أوإحتساء أكؤس شرابٍ  مُرّ، مرفوقاً بطعامٍ مُزّ، وكيف لا  ومصحوبةً بـ”الفقاقص” الشهية التي ليس لها مثيل ولا نظير والتي يُطلق عليها الخلاّن فى تطّاون الحمامة البيضاء  مجازاً بـ: (الباسبور) أو (الجواز)،  إذ علمنا أنه من عادتهم عندما تسأل الزوجة زوجَها على حين غرّة: أين كنتَ حتىّ هذه الساعة المتأخّرة من الليل..؟ فكان يجيب على الفور: كنّا فى عُرس (الفرَح أو البوجة ديال أحد الأصدقاء) ويدخل الزّوج السّاهر كما يدخل أصدقاؤه فى الهزيع الأخير من الليل إلى دورهم ومنازلهم  وهم يختالون، ويترنّحون، ويتهادون، ويتمايلون فى مشيتهم وهم يحملون (الفقاصة) التي غالباً ما كانت  بالفعل وما تزال تُقدَّم وتوزَّع فى الأعراس على الحاضرين، وهذه الفقاصة (الجواز) تبيح وتجيز وتسمح لهم  جميعاً الدخول إلى  بيوتهم في أمان وكأنّهم يحملون جوازاً أو باسبوراً!.

    شكراً لصديقيّ الأديب الأريب الأستاذ فريد بنقدور على تذكيري بهذه (الذكرىَ- الطريفة) بواسطة موضوعه الشيّق عن (رفقاقص)!! كما يسمّيها وينطقها بالرّيفيّة فى تدوينته على الصّفحات الوارفة الوضّاءة  لـ”نادي قدماء تلاميذ معهد أبي  يعقوب البادسي بمدينة الحسيمة” العامرة حيث أوحى لنا بهذا المقال عن الفقّاصَة “الباسبُور”، و”الأواني البندقيّة”، ومُوشّح شمس العشيّة.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا