الكتابة بوصفها شكلا للكفاح الإنساني في رواية “أيتام الجبل” (1-2)

لحسن أوزين
“وجدت نفسي أغرق في تلك الأوراق، كنت وأنا أتوغل في ذلك العالم المجنون أزداد مرارة وحقدا وأزداد اقتناعا أيضا أن هذا العار الذي حملناه معنا فترة طويلة. يجب أن ينتهي وأن يزول.
وقد زادت دهشتي حين قرأت الورقة الأولى. وها قد عرفت ولا يمكنني أن أعيش اليوم كما لو أنني لم أعرف.
كيف أستطيع أن أبقى بعد ذلك صامتا كشيطان أخرس أو أن أبقى عاقلا كما لو أني أقرأ كتابا أصفر أو أستعيد حلما قديما خابيا.
إذا تحول الانسان الى شاهد أخرس الى شاهدة قبر الى شيء عقيم فعندئذ يفقد مبرراته كلها.”
عبد الرحمن منيف
في الرواية الجديد” أيتام الجبال” للطبيبة والكاتبة المبدعة الخلاقة نجاة عبد الصمد، يجد القارئ نفسه أمام رواية موجعة نازفة حارقة، مفعمة بقوة الإرادة والرغبة الحقيقية في التحدي وبناء الذات، وتأسيس الهوية السردية البديلة للنظام الأبوي البطريركي، ومستلزماته القهرية البنيوية الثقافية والاجتماعية والدينية، العطنة والفاسدة، والمتجاوزة الصلاحية، الى حد أنه طلعت ريحتها.
لقد أدى تحكم الكاتبة في صنعة الكتابة وآلياتها المسنودة والمدعمة برؤى فكرية عميقة في الرصد والتناول والتحليل والبناء الفني للمتن والمبنى، أو للقصة والخطاب، الى خلق رواية صادقة في متعتها وآلامها، في إصرارها، من منطلق الحلم الذي انبلج، في عمق الذات الساردة، على النهوض والاستمرار في خوض التحدي، ومواجهة العوائق الاجتماعية، و الاكراهات المجتمعية والضغوطات الاعتقادية للجهل المقدس. فعلت كل هذا رغبة في عيش الولادة من جديد خارج الصناديق المجتمعية الاجتماعية والثقافية والذهنية والدينية الجاهزة في صورتها الأقرب الى القوانين الحتمية الطبيعية، في وجه الرجال والنساء بشكل قهري مضاعف عشرات المرات. وهي رواية وراوية ساحرة أيضا في عزمها على التمتع بحق الكينونة والصيرورة، وإثبات الذات والعمل بالجهد والكفاح الصارم على تحقيقها. وتشكيل هويتها النقدية والنقضية للبناء الاجتماعي الثقافي والديني الأبوي والاستبدادي والطائفي والجندري.
هكذا كان للكتابة لعبتها الفنية الخاصة. ولنسيجها الأدبي شكله الخاص في قدرتهما الإبداعية على إعادة صياغة الواقع في لغته وخطابه الأبوي الذكوري. وتفكيك أعرافه وتقاليده، ومسلماته الاجتماعية والدينية. وخلخلة تصوراته ومعتقداته المؤسسة غالبا على الجهل المقدس، المانع للقيم الإنسانية الحقيقية، تجاه أقرب الناس إلينا، في الحب والحرية والكرامة والعدالة، والإخاء والمساواة…
رواية تشهد على الذات والمجتمع والواقع والتاريخ والثقافة. وهي صادقة فنيا، حقيقية أدبيا في قدرتها ككتابة على الجمع بين الذاتي والموضوعي، بين الفردي والجماعي والمجتمعي. تلامس وتكشف وتعري أغلب القذارة والتشوهات والبشاعة والفظاعات التي نتستر عليها باسم الاستقامة الصراطية المشحونة بالقهر والخوف والإرهاب. وباسم الفضيلة ومكارم الاخلاق، المسكونة بالحقد والضغينة والكراهية، والعزل والنبذ الى حد الوأد الصريح و الرمزي، داخل الجدران، ومن خلال اللباس المقرف المقزز، و الباعث على الحزن والتجنب والغثيان. أو من خلال المقاطعة الدينية والاجتماعية التي يتعرض لها من حاول التفكير والعيش خارج الكيتو. وصولا الى القتل السلطوي القهري المخبأ تحت رداء الشرف.
والجميل الساحر الخلاب في الرواية أيضا، يتمثل في اشتغالها إبداعيا، بتوسط رمزي يجمع بين عمق اللغة وقوة الرؤى الفكرية، في التأسيس لحرقة الأسئلة التي تطال الجهل المقدس الذي تم تسييجه إلهيا، من خلال فكر بشري حال بين جماعة الأجاويد الدروز وبين الحياة بمعانيها الإنسانية في الحرية والحب والمعاملة والعدالة والعناية والكرامة، بين الأبناء والبنات، والآباء والأمهات، وسط الجماعة والمجتمع…
وفي هذا الاتجاه تؤسس الرواية لمراجعة نقدية جذرية للخطاب والفكر والنص الديني، الذي ضيق الخناق على الناس، وشل إرادتهم، وحنط عقولهم. وقبلوا بمعانقة التشوهات النفسية والعاطفية والعقلية والقيمية، والانتصار للعبودية المختارة التي تلبست قناع خير أمة. وتكريس القهر والهدر والتخلف والموات الأبدي في التقاليد والأعراف والاعتقادات، والطقوس والممارسات والعلاقات والدلالات…
بجرأة عيون نسوية تقوض الرواية أسس التشوهات والانغلاقات التي طالت النفس والعقل والقلب واللسان. وحكمت على أجيال وأجيال باليتم والانبطاح والعماء الفكري والعقلي والديني والعاطفي والإنساني.
كل هذا يأتي من لغة وشكل فني للكتابة متمرسة في منطق اشتغالها، في صورة أقرب الى نهر جارف، للبداهات، والمسلمات، والرؤى والأفكار والدلالات والعلاقات الاجتماعية والدينية والجندرية، التي تطاولت مع قرون الزمن، حتى تلبست وجه القداسة، ومنطق الطبيعة. الشيء الذي حال بين الناس ومبدأ التناقض المجتمعي في التأسيس للواقع الاجتماعي التاريخي، للانتظام الاجتماعي الإنساني بتعبير ابن خلدون.
كما نثير الانتباه الى أن المستوى الرائع الفاتن كذلك في الرواية، أنها قاربت بشكل فني، بتوسط من أدوات الأدب، العمق الانثروبولوجي والسوسيولوجي للمجتمع السوري الدرزي، في ثقافته وعقائده الدينية، وفي تصوراته ومعتقداته، وفي علاقات الاجتماعية البينية ومع الاخر، مجتمعا ودولة.
أولا: قدر سيرة سبيل أن تواصل السفر في بناء الذات و صناعة المصير
” الحالم بلا كلل، لا يلحظ أن مغامرته الكبرى، منذ ولد حلمه بها، بدأت”.
موسكو، مطار تشيريميتيفو، هبوط طائرة سورية، تحمل مائة وخمسين طالبا 149 شابا، وأنا..
كيف للغتي أن تسترخي، أن تبطئ الخطى، وقلبي يفور؟
كنت في الطائرة جنب الشباك، بكى الشابان على يميني لحظة الإقلاع، ولم يبتل لي جفن، أنا الشريدة كابن آوى. ليت لي رفاه دمعة، أشتري بها مددا أو فرجا. لست خائفة، صرت على الضفة الأخرى من الخوف، كما كاتب مخدوع بشبهة اكتمال روايته. مشغولة باستيعاب أم الأمر حدث أنني أطير، مشلوحة بين الغيوم، وملامح دمشق تغيم، تتبدد.”9
تتحدث الرواية عن بنت سورية درزية من جماعة الأجاويد، ولدت لكي تكون وتصير، تبعا لإرادتها القوية ورغبتها الحقيقية في الكينونة وتأسيس مشروعها الوجودي. واجهت منذ صغرها الكثير من التحديات والعوائق والموانع والمحذورات والمحظورات التقليدية والدينية والمجتمعية، في الأسرة والمدرسة والمجتمع. في الثقافة والعلاقات الاجتماعية والدينية. في التصورات والمعتقدات الدينية والمجتمعية. لكنها في كل منعرج ومحطة ومرحلة من حياتها لم تيأس ولم تستسلم. ولم تقبل بالتوقف والرجوع الى الوراء. لغتها واضحة، وفكرها وهاج منير، وأهدافها محددة ودقيقة. هي أن تواصل سيرها.
مع العلم أنها تنتمي الى إحدى أسر جماعة الأجاويد أبا عن جد. وهي جماعة دينية متمركزة حول ذاتها، ومنغلقة اجتماعيا واعتقاديا وعقائديا. مانعة للحب والعطف والحنان مع أبنائها، وخاصة مع البنات. أبوية ذكورية التفكير، سلطوية قهرية للميولات والتطلعات والطموحات التي يمكن أن يفكر فيها الأبناء.
النساء في وضعية دونية تبخيسية تحقيرية وعبودية، الى حد ما. ففي ظل هذا الواقع بكل مواصفاته القهرية عاشت البنت سبيل حسن رافع. من أم مغيبة الوجود الإنساني العاطفي تجاه بناتها. ومن أب أحد شيوخ الأجاويد المقنع بالالتزام الديني، في صورة أقرب الى الوسواس القهري المنضبط لجدلية الشيخ والمريد. جدلية مشحونة بالقهر والسلطوية. الأب ليس سلطويا بالمطلق، لكنه غارق في الرضوخ لسطوة الجماعة وتعاليمها المانعة للتقدير والحب اللامشروط للأبناء والبنات.
في وسط هذه الأسرة المشبعة بالاختلالات والتناقضات النفسية والاعتقادية والعاطفية والاجتماعية، نشأت سبيل بجانب أم معذبة مجتمعيا وثقافيا بمركزية وقيمة الذكورة المتسلطة، التي حمّلتها عبء ضرورة أن تنجب ولدا. وكانت الولادات المتتالية للبنات التسعة عكس منطق ورغبة المجتمع والثقافة والجماعة الدينية الأبوية الذكورية.
ومن حسنات الصدف أن أسرة سبيل وجدت نفسها مضطرة للانتقال من درب الحجل، والاستقرار في السويداء. فشاركت البنات في بناء البيت ورعاية الماشية، مع القيام ببعض الأنشطة الزراعية. هذا يعني كفاحهن الوجودي الاجتماعي رغم النظرة السلبية والنبذ العاطفي، ودونية التقدير التي مارسها الوالدين معا في حقهن. الشيء الذي راكم في نفسية البنات كما هائلا من الجراحات العميقة، والألم والعذاب وفقر الدم العاطفي الإنساني. والحرمان الأسري من علاقات صحية مع الأم والأب.
ولحسن حظ البنات أنهن دخلن المدرسة، وفرضن وجودهن بالمثابرة والاجتهاد. وبفضل تفوقهن خاصة البنت سبيل، نلن مكانة مرموقة في عيون الأستاذات، والجهات الرسمية المكلفة بالتسيير للمؤسسات المدرسية. وبسبب هذا التفوق ودعم الأطر التربوية، استطاعت سبيل أن تشق طريقها لطلب العلم. وتتخطى التقاليد والعادات المجتمعية والقواعد الدينية، التي تفرض عائلات الأجاويد، الواقفين في وجه طموحات وتطلعات بناتهم. من أجل نيل الشهادات المدرسية والثانوية والجامعية. هكذا استطاعت سبيل بفضل تفوقها والدعم الذي أحاطها أن تنتهك المحظور، وتخرق قواعد الأجاويد الأبوية. و تمضي في طريقها نحو حلم احتضنته في جوفها الحي منذ صغرها.
لم يكن مسارها الدراسي والاجتماعي والمجتمعي، في البيت والمدرسة سهلا وخاليا من التحديات والآلام القهرية. لكنها كانت مجتهدة وصبورة وعازمة على تحقيق أهدافها، مهما كانت المساومات والتنازلات والترضيات التي وجدت نفسها تتبعها، وتقدمها مقابل الاستمرار في الدراسة. لهذا عانت الكثير من الخيبات والانكسارات والاحباطات. لكنها كانت تنهض بسرعة بإرادة قوية من أجل الوصول الى تحقيق ذاتها وبناء مصيرها. والتحكم في وجودها الذاتي، في مجتمع أبوي ذكوري، مسيج بالفكر القروسطي، والممارسات الدينية المتخلفة، والمانعة للحرية والكرامة والقيمة الإنسانية.
ورغم مختلف المعاناة والعذابات والآلام، والنبذ والاقصاء الاجتماعي والنفسي. والحرمان القيمي والعاطفي والعلائقي، في البيت و المدرسة والمحيط المجتمعي، فقد استطاعت البنات النجاح وتحقيق المراتب الأولى. والتفوق بامتياز أهل سبيل لحضور مهرجانات داخل البلد وخارجه في الاتحاد السوفياتي. فبناء على الفاعلية والتفوق وفرض الوجود داخل المدرسة وفي الثانوية، نالت سبيل الاعتراف والتقدير والحب من طرف الأطر التربوية. الشيء الذي عزز من ثقتها في نفسها وقوى إرادتها في خلخلة وزلزلة القيم الاجتماعية والثقافية الابوية الذكورية، والدينية لجماعة الأجاويد.
هكذا كانت تنتهك، وتخرق المحذور والمحظور، وتتجرأ على التابوهات. وتعري المسكوت عنه في التاريخ النسوي الموؤود. وتمنح لكتابتها هوية سردية بعيون نسوية. واضعة أرضية صلبة للخرق والتجاوز للمألوف القهري السلطوي. كاشفة عن نبض إنساني غيبه النظام الاجتماعي السياسي التاريخي، وساهم في ترسيخه وتكريسه الموروث الثقافي والديني.
لذلك لم يكن غريبا أن تواصل سبيل سيرتها، سفرها ورحلتها في الحياة، حيث التحقت بفضل تفوقها بالبعثة الطلابية المتجهة الى الاتحاد السوفياتي، لدراسة الطب. وهناك عاشت حياتها بكامل العنفوان الشبابي في الاجتهاد والمعرفة وطلب العلم. ونسج علاقات رفاقية وعاطفية، دون خوف من الرقابة الذاتية والمجتمعية. تم هذا داخل أجواء من الحرية والكرامة والتحكم في زمام المصير، فارضة الاعتراف بها، وبكفاحها الدراسي، هناك.
وقد امتد هذا التقدير والاعتراف أيضا، داخل جماعة الدروز، والمجتمع ككل. حتى الأب وجد نفسها، من حيث لا يحتسب، مجبرا الاعتراف بابنته. وهو الذي اعتبرها لعنة وعاصية، ومغضوب عليها. بل وتنكر لها بعظمة لسانه. فقد خيرها بين الخنوع والسمع والطاعة، أو الغضب والسخط والنكران. فقد خاض معها منذ طفولتها صراعا فظيعا خاليا من العناق والعاطفة والحب والتقدير…
” لا أزال على سفر، ولا انتهاء للسفر، يسافر الانسان للرزق أو للمجد أو للكرامة أو للمعرفة. ارتحال إرادي الى درب غير الذي سلكه من قبل. لا يتوقف ولا ينتهي يجازف معه بطمأنينته، يتخلى عنها بلا أسف، قاصدا غده وحده.
في كل أسفاري كان لي صاحب لا يفارق، كتاب ودفتر.
أسير الى غدي في رأسي ذاكرتي ولغتي وشهادتي، وفي صدري حبي وحناني ورأفتي. لا ينبغي أم يُحجب الحب، ولا الحنان عن أحد، ولا أن يُمنح ناقصا. وأن يعمر القلب به من قبل أن يرتديه الوجه واللسان.”390
ثانيا: الشخصي سياسي
جمالية الرواية تكمن في انطلاقها من سيرة ذاتية وتجربة شخصية لفتاة سورية من الطائفة الدرزية. عانت كثيرا وتألمت بصمت وذكاء،، وواجهت بصبر وعقلانية المحذورات والمحظورات والاكراهات، والقواعد الاجتماعية والعرفية والدينية، بتفاؤل الإرادة، وثقة عالية في النفس، واطمئنان كبير في التغلب على المحن. والعبور الى الضفة الآمنة لمواصلة السير في اتجاه تحقيق حلم النجاح. والتخلص من كل المتاريس النفسية والمجتمعية والعقائدية لشيوخ تجاوزهم التاريخ في لحظته الحضارية.
هكذا يتجلى بوضوح أن ما هو شخصي في حقيقته الاجتماعية التاريخية، هو سياسي في مستوياته البنيوية المؤسسة للبنى الاجتماعية الثقافية والاقتصادية والقيمية والأخلاقية والدينية. لذلك لم تخنق الرواية نفسها فنيا في تجربة شخصية معزولة عن الأطر الاجتماعية والثقافية. بل كشفت بجرأة جمالية شائقة عمق البناء الاجتماعي السياسي الثقافي الذي يشكل الفرد منذ ولادته. متحكما في مسارات حياته، ومهيمنا في تحديد اختياراته وخياراته الممكنة. يحدث هذا عبر التنشئة الاجتماعية الثقافية والدينية التي يتعرض لها الفرد، حسب طبيعته البيولوجية الجنسية. وذلك تبعا لجدلية القبول والرضى، والغضب والسخط والإنكار، الأبوي الذكوري.
لهذا اتسعت تجربة سبيل حسن رافع للتعبير عن مختلف أشكال القهر والهدر التي تعاني منها النساء. مُسلطة الضوء على المسكوت عنه في العلاقات الاجتماعية والجندرية بالأساس. كاشفة عن كم هائل من الحقارات والعاهات والتشوهات، النفسية والوجدانية العاطفية والعقلية، التي تطال النساء لكونهن إناث.
والجميل في سيرة سبيل الذاتية، وفي تجربتها الشخصية، أن عزمها وإصرارها على انتزاع حق التعلم، والتحكم في زمام مصيرها، سمح لها بكشف وتعرية الجذور الاجتماعية الثقافية السياسية والدينية، لما هو شخصي. وفي الوقت نفسه استطاعت من خلال، تفوقها واجتهادها وكفاحها وحضورها الفاعل والنشط والحيوي دراسيا وثقافيا في الوسط التعليمي، أن تحرر وجودها من لعنة القطيع. والتأسيس لسيرورة ولادة الفرد ككائن اجتماعي مستقل. هكذا تفتح الرواية آفاقا جميلة ممتعة لكيفية بناء الهوية الذاتية وإثبات الذات، وإعلان ولادة الفرد. فأن تكون فردا يعني أن تعيش بشكل أو بآخر الآلام والعذابات والمخاضات المرعبة والرهيبة التي عاشتها سبيل. هذا يعني أن تكون فردا، ذاتا فاعلة مستقلة، وأن تريد و تكون وتصير، لا بد من دفع الثمن الذي يمكن أن يجعلك إنسانا، وليس رأسا في حظيرة القطيع.
ومن جهة أخرى تهمس الرواية بلطف في آذاننا: النسوية ليست ترفا فكريا، أو مفهوما في السوق السوداء للمواد المهربة. بل كفاح ونضال صعب مع الذات والمجتمع والثقافة…
ثالثا: خلخلة وتقويض الأساس الاجتماعي الثقافي للعلاقات الجندرية
“نص المتعة: ذلك الذي يضعك في حالة ضياع، ذلك الذي يُتعب، فإنه يجعل القاعدة التاريخية والثقافية والسيكولوجية للقارئ تترنح، ويزعزع كذلك ثبات أذواقه، وقيمه وذكرياته، ويؤزم علاقته باللغة.” رولان بارت
ما يستعصي على التعبير، هو ما تأتي عليه الرواية بلغة فنية جذابة، تبدو بسيطة ولكنها من نوع السهل الممتنع. بصبر وكفاح جدي متواصل، قائم على إرادة لا تعرف الهزيمة، فرغم التهميش والنبذ العاطفي والاجتماعي داخل الأسرة وخارجها، لم تلجأ سبيل برفقة أختها اشتياق الى اليأس والعزلة والقبول بالأمر الواقع، على أنها مجرد أنثى غير مرغوب فيها. وليس لها أي معنى وقيمة في نظر الأسرة والمجتمع، وداخل مختلف العلائق الاجتماعية. فقد أثبتت لنفسها قدرتها على الفعل الخلاق بعيدا عن الأبعاد السلبية التي تصم سيكولوجية الإنسان المقهور والمهدور. وضد النظرة الدونية التبخيسية الاحتقارية، المشبعة بالنقص والإحباط والتهميش، اشتغلت سبيل على نفسها برغبة الطفولة الجامحة في بناء الهوية الشخصية وإثبات الذات. وانتزاع التشجيع والدعم، والتقدير والمحبة من قبل الأطر التربوية، وبعض أفراد العائلة كالخالة بستان والعم نجيب والجدة مهجة، كأقدم نسوية يجهلها التاريخ الأبوي الرسمي. كما قامت بتكذيب أو تفنيد بالمعنى البوبري(كارل بوبر) بديهيات البناء الاجتماعي الثقافي الذي يفرض أوصاف وأحكام وتصنيفات غاية في الوصم السيء للبنت منذ ولادتها. كوصمها بناقصة عقل ودين، وعالة على أسرتها ومجتمعها. كما أنها مصدر للفتنة والمشاكل القيمية والأخلاقية. الشيء الذي يستلزم حبسها بين الجداران، و من خلال، مختلف أشكال الحجاب التي تعزلها عن الحياة الطبيعية والاجتماعية. ضد هذا المنطق الثقافي الاجتماعي، الأبوي الذكوري، منحت سبيل معنى وقيمة لحياتها ووجودها، وهي تشهد تفوقها الدراسي والثقافي. وكفاءتها الأخلاقية والفكرية في تقويض الحواجز والقواعد والمسوغات الاجتماعية والدينية والثقافية، التي تحرم وتمنع النساء من حرية بناء هويتهن الذاتية، واستقلالهن الشخصي الإنساني في الاختيار والتقرير والفعل والممارسة، بعيدا عن الوصاية الأخلاقية والاجتماعية الأبوية الذكورية.
بفضل تفوقها وصلابة إرادتها داست على قواعد العزل والتحريم، عبر حضورها الاجتماعي والثقافي الوازن. وأيضا من خلال السفر الى مدن سورية للمشاركة بجدارة واستحقاق في اللقاءات، والمهرجانات الأدبية و الثقافية. والاسهام في الأندية الشبابية، في النقاش الثقافي السياسي الاجتماعي. هكذا بواسطة حضورها الحي والفاعل، كنمط تفكير وأسلوب وجودي في الحياة الأسرية والمدرسية، وفي المجتمع. كانت تصارع القواعد والمسلمات التمييزية الدينية، بمضامينها السياسية الاجتماعية، والثقافية الأبوية الذكورية. تنجز هذا، وهي تخلخل وتحاول تقويض أساس شرعية وسلطوية النظام الأبوي الذكوري. الذي يتستر إيديولوجيا وراء هابيتوس الطبيعي في توزيع السلطة والمواقع الاجتماعية والثروة، والمكانة المجتمعية، والثقافية والعلمية، والقيمة الإنسانية…
يمكن القول إن البنت سبيل استغلت شقوق المجتمع، والممرات الآمنة التي فرضتها التحولات التاريخية، والتغيرات السوسيولوجية في مجتمعها الصغير. المنخرط في وحدة التاريخ العالمي التي فرضها التراكم الرأسمالي. وما أفرزه من تناقضات وصراعات وحروب كولونيالية وامبريالية، وحركات تحرر وتصفية الوجود الاستعماري. من داخل تلك الشقوق عبرت سبيل، وعبدت مساراتها بالكفاح والاجتهاد المعرفي والثقافي والدراسي. فاستطاعت تحقيق ذاتها وقلب الأسس الاجتماعية الثقافية للعلاقات الجندرية الأبوية الذكورية. وتمسكت بحسن وتمام الحال نفسيا، رغم التشوهات العاطفية والحرمان من الحب والتقدير والاعتراف الأسري. لا الأب أبا ولا الأم أما.
رابعا: تشريح فظاعات الاستبداد الديني والاجتماعي
- الطفولة المهدورة والحرمان العاطفي
عاشت سبيل برفقة أخواتها في ظل والدين بيولوجين، لا أقل ولا أكثر. فحرمت البنات من الحب الأسري المعنوي، وتجلياته المختلفة من القبلة الى العناق، مرورا بكلمات التقدير وتعزيز الوجود والكينونة والنمو النفسي العقلي والوجداني والاجتماعي. لا شيء من هذا كله حصل في كل المسارات، ومراحل العمر. لاشيء غير الغربة والخيبة والحرمان والتشوهات التي اكتسحت الأعماق النفسية. ناشرة حالات من الألم المزمن في تجاويف القلب، وطبقات الذاكرة المثقلة بالهدر لأجمل مرحلة في عمر الإنسان: الطفولة و المراهقة والشباب.
ترافق سبيل حرقة نازفة موجعة تحرق القلب والذاكرة باستمرار. رغبة مكبوتة تعتلي منصة الروح والجسد، والعقل وكل الجوارح، وتعلن فقدانا رهيبا للحب والتقدير اللامشروط. هكذا عاشت سبيل حسن رافع ألمها الفظيع في والد عجز أن يكون أبا حقيقيا في الحب والعناية والاهتمام…، ظل مصرا أن يكون والدا بيولوجيا قاهرا جافا شاحبا، كالصحراء الحارقة القاتلة لأي اخضرار بهيج، أو نبع ماء باعث على الحب والحياة. فكان مصدرا للنار الحارقة في قلب ابنته، وهي تحلم بسراب قبلة أو عناق، أو تلامس جسدي أبوي مفعم بالحب والاعتبار والتقدير والمحبة…
هذا التشوه الروحي والنفسي ترسب في أعماق نفسية سبيل، وحال دون حق إنساني في حمايتها من هدر لا يكف عن التداعي والانفجار باستمرار.
والشيء نفسه عاشته مع أمها التي ظلت قابعة بعيدا غارقة في منحدر الوالدة، دون أن تقوى على أن تكون أما بمعنى الكلمة، لما تحمله الأم من دلالات إيجابية. لم تقو الأم على تخطي سقف الوالدة الواطئ الأقرب الى الإنجاب الحيواني. بل أفظع من ذلك لأن الحيوانات تحرص وتحرس نطفتها، وتعتني بها قدر الإمكان.
- الموات الأبدي للدين القهري
بناء على تلك التشوهات، والجفاء والتصحر الحارق، المشحون بالهجير العاطفي. و بالنكران والسخط العارم، من طرف الوالد الشيخ حسن، والوالدة غزالة. تقوم سبيل بعملية تشريح للأسس والقواعد الدينية والاجتماعية العاجزة عن تمرير الحب والحنان والعاطفة الإنسانية من أب وأم تجاه بناتهما. أي دين وأية قيم وتعاليم دينية تنتصر لعبادة المكانة والمقام الديني، في نظر الجماعة، في الوقت لذي تعاني هذه القيم والتعاليم من تصحر رهيب الى حد المحرقة في علاقة الوالدين ببناتهما؟
لذلك تدخل سبيل في مراجعة نقدية للأسس العفنة التي تزرع الحقد والضغينة والكراهية. في الوقت الذي يعتقد الشيخ حسن وجماعته من الأجاويد أنهم خير جماعة وأمة بين الناس. تفتح سبيل دفتر الحساب العسير تجاه مرجعيات دينية وقيمية، تزور التجربة الوجودية لأبنائها وبناتها. وتتمترس وراء النفاق الأخلاقي والديني والاجتماعي.
سبيل تستثمر ثقافتها الأدبية والعلمية وتجربتها في الحياة. وتحفر عميقا في الطبقات والبنى التحتية الانثروبولوجية والسوسيولوجية والنفسية، لنشأة وتكون وتطور السيرورة التاريخية لجماعة الأجاويد. وتتفحص برؤية نقدية كل الموروث الثقافي والاجتماعي والديني، المانع لولادة الإنسان بالمعنى الحديث المتعارف عليه في القيم الكونية الإنسانية عبر التاريخ البشري. الإنسان القائم على الحب والحنان والرأفة…
كما لو أن سبيل تقول بصراحة ووضوح، والوضوح هو المطلوب هنا والآن: الدين والمعتقدات والأفكار…، التي لا تعترف بالإنسان أولا، دون أي تمييز لغوي ديني إثني طائفي…، ليست سوى تحكم سلطوي قهري استبدادي، طغياني فظيع…
________________________________________________________________________________________________