عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (1-4) *

عبد الرحيم التوراني
تغيير السفينة أم صنع أمواج جديدة!
رحل عبد الرحمان اليوسفي وغاب عن دنيانا فجر يوم الجمعة 28 ماي الأخير، لم يكن موتًا مفاجئًا، بسبب التقدم في العمر وبسبب العياء والمرض، فقليلون من المقربين من يعرفون أن عبد الرحمان اليوسفي ظل يتنفس برئة واحدة على مدى 65 سنة، منذ بلوغه الثلاثين من عمره. ولم يصب بأمراض الشيخوخة التي تقضي على الذاكرة، بل بقي متماسكا واعيًا إلى آخر نفس. وفي النهاية فإن “كل نفس ذائقة الموت”.
لقد خلف رحيله حزنًا جارفًا لدى مختلف الأوساط والفئات الجماهيرية والشعبية في المغرب. نعاه القصر الملكي، وتأثرت لرحيله أطياف اليسار واليمين، كما رثاه المدافعون عن حقوق الإنسان والديمقراطيون، هنا وفي الخارج.
أما بعض الظلاميين، فما بدر منهم من تدنيس وعبث بالنصب التذكاري في شارع عبد الرحمان اليوسفي بمدينة طنجة، مسقط رأسه، وما بدر من عتاتهم، من كلمات لا تليق أمام رهبة الموت، حسب تعاليم كل الأديان والمعتقدات، فلا يمكن اعتباره إلا سلوكا منتظرا من التكفيريين القتلة، مع عدم استبعاد “يد خفية” تكون حركتهم عن بعد، تحريك الدمى من خلف الستار. ولا يستبعد أن تكون هناك جهة ما، قد لا ترغب في أي شخص مهما بلغت وطنيته وإخلاصه ووفاؤه للوطن وللملك، أن يعتلي عرش القلوب. ولا تود رؤية أي أحد يحظى بكل هذا الحب والتعاطف والاحترام الكبير. كما حدث مع العديدين ممن قضوا وضحوا بالغالي والنفيس وبأرواحهم، من كافحوا من أجل الاستقلال والحرية، وأجل تقدم البلاد وخيرها، الذين تمت إزاحتهم ومحو ذكرهم ودفنهم برصاص النسيان.. وكأنهم لم يكونوا.
هروب اليوسفي مع الفقيه البصري!
لكن هذا التعاطف المثير مع الراحل، وهو الآن أمام التاريخ، لم يعد يهمه لا الهجاء ولا المديح. لا يجب أن يثني الأحياء أن يتكلموا بعيون نقدية لبعض مواقف الرجل، ولما أقدم عليه من خطوات، بعضها كان للأسف مخيبًا للآمالِ الكبيرة، أو هو قابل للأخذ والرَّد على أية حال.
عرف عبد الرحمان اليوسفي الزعامة والقيادة منذ شبابه الأول، وساهم بقسط كبير في حركة المقاومة المغربية، من أجل إنهاء حكم الحماية الاستعمارية. وبعد الاستقلال أصبح رئيسا للمجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير.
كان أحد منظمي “مؤتمر طنجة” في أبريل 1958، الذي جمع قادة الحركة الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب. كما عرف اليوسفي ضمن العاملين على حشد الدعم لاستقلال الجزائر.
في لحظة انشقاق حزب الاستقلال بـتأسيس”الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال” (25 يناير 1959)، ثم الإعلان عن قيام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (6 سبتمبر 1959). كان عبد الرحمان اليوسفي حاضرا، مع المهدي بنبركة والفقيه محمد البصري وعبد الله ابراهيم والمحجوب بن الصديق، أما عبد الرحيم بوعبيد فقد تأخر في التحاقه بالحزب الجديد.
وإن كان زعيم حزب الاستقلال الراحل امحمد بوستة، قد تحدث في استجواب مصور معه، على أن عبد الرحمان اليوسفي هو أيضا ظل فترة مترددا في الذهاب مع المنشقين، وكان يرغب في الاستمرار بحزب علال الفاسي.
اعتقل اليوسفي في ديسمبر 1959 مع الفقيه البصري مدير جريدة “التحرير”، بتهمة التحريض على “العنف والنيل من الأمن الوطني للدولة والأمن العام”، ثم أفرج عنه بعد أسبوعين بسبب وضعه الصحي السيئ، فيما بقي الفقيه البصري لأكثر من ستة أشهر في المعتقل دون محاكمة، قبل أن يتدخل وزير الاقتصاد والمالية، في حكومة عبد الله ابراهيم، لدى ولي العهد آنذاك مولاي الحسن للمطالبة بإطلاق سراحه، وكان الوزير هو عبد الرحيم بوعبيد.
ثم اعتقل اليوسفي مرة أخرى في يوليوز عام 1963 مع جميع أعضاء اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المجتمعة بمدينة الدار البيضاء، في ملف ما يعرف بـ”مؤامرة يوليوز 1963″، وصدر ضده حكم بالسجن مدة سنتين مع وقف التنفيذ، قبل العفو عنه عام 1965.
في الانتخابات التشريعية لسنة 1963 لم يحالف النجاح مرشح الاتحاد في طنجة، بينما فاز كل أعضاء الأمانة العامة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. يؤكد اليوسفي أنه فاز بالمقعد النيابي، لكن السلطات عمدت إلى إسقاطه بالتزوير. ما جعله ينأى بنفسه عن الترشيح في أي استحقاق انتخابي بعدها.
إثر عملية اختطاف المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965، توجه عبد الرحمان اليوسفي في نوفمبر عام 1966 إلى باريس للإدلاء بشهادته كطرف مدني في محاكمة مختطفي المهدي بنبركة، ونظرا للدور الذي قام به في تنسيق الدفاع، طلبت منه قيادة الحزب البقاء في فرنسا، إلى أن تنفرج الأمور، فإذا به يظل لمدة 16 عاما في اللجوء السياسي.
وغادر بعده مباشرة الفقيه محمد البصري المغرب، في سيارة صغيرة عبر مدينة سبته المحتلة، وكان بجانبه صحفي مراكشي من جريدة “التحرير”. اشتهر بزاويته المكتوبة بالعامِّية تحت عنوان “حديث المعركة”، بتوقيع “ولد جامع الفنا”، واسمه الحقيقي عبد الله رشد.
وذلك بعد التأكد من ترصد مخابرات “الكاب وان” بقيادة الكولونيل محمد أوفقير والكولونيل أحمد الدليمي ومحمد العشعاشي للفقيه.
في فرنسا اجتمع الرجلان (الفقيه واليوسفي) لينشغلا بالعمل في صفوف الاتحاديين الفارين من بطش الحسن الثاني، سيقومان بتنظيم المهاجرين المغاربة بفرنسا وبلدان أوربا الغربية. واصبح اسم اليوسفي واسم الفقيه مطلوبان للعدالة المغربية ومستهدفان من قبل مخابرات النظام.
صار الفقيه مع اليوسفي مقربان من قبل نظامي البعث في دمشق وبغداد، ومن النظام الناصري في مصر، ومن أنظمة راديكالية أخرى عبر العالم. واشتهر اليوسفي أكثر بين منظمات ومنتديات حقوق الإنسان وهيئات المحامين في البلاد العربية والعالم.
في محاكمة سياسية سجلت انتهاكات صارخة لأبسط ضمانات المحاكمة العادلة، عرفت في التاريخ بـ “محاكمة مراكش الكبرى” (1971)، توبع فيها 193 اتحاديا بتهم محاولة قلب النظام، وتوبع البصري واليوسفي غيابيا، وطالب المدعي العام إصدار حكم بالإعدام في حقهما مع المغتربين المناضل أحمد بنجلون والمناضل السعيد بوالنعيلات وآخرين. لكن المحكمة أقرت في الأخير خمسة أحكام بالإعدام، حكم واحد منها حضوريا في حق محمد أجار المعروف بـ”السعيد بوالنعيلات”، وأربعة غيابيا في حق الفقيه البصري، وعبد الفتاح سباطة، والحسين المانوزي، والفقيه الفيكيكي “الأعور”.
ثم صدر حكم بالعفو عن اليوسفي في 20 غشت 1980، وهو التاريخ الذي يصادف العيد الوطني “ثورة الملك والشعب”، المخلد لذكرى نفي محمد الخامس من طرف سلطات الحماية الفرنسية.
أما الفقيه فقد صدر العفو عنه في بداية التسعينيات، لكنه رفض العودة مطالبا بأن يشمل العفو جميع المنفيين والمغتربين السياسيين، وخاطب بنفس الإجابة مبعوث المخابرات الاتحادي السابق البشير الفيكيكي، وبعده مبعوث الملك ووزيره في الداخلية إدريس البصري، لما استقبله في أكبر فنادق العاصمة الفرنسية وأشهرها، فندق “كريون”، وكان الجواب هو: “سأكون آخر العائدين”، وقد كشف الفقيه عن هذه اللقاءت في حوار مهم أجراه معه الاتحادي السابق حميد برادة، ونشرته أسبوعية “جون أفريك” الفرنسية، وكان الحوار موضوع غلافٍ لأحد أعداد المجلة الباريسية التي وزعت في المغرب.
“صوت التحرير” من إذاعة طرابلس
أعاد عبد الرحمان اليوسفي نسج العلاقات الدولية التي كان يتولاها المهدي بنبركة مع الحركات الديمقراطية والثورية في العالم، خاصة مع أعضاء “مؤتمر القارات الثلاث”، من نظام فيديل كاسترو في كوبا، إلى نظام البعث في المشرق العربي، ونظام العقيد الليبي معمر القدافي. وبرع محمد البصري أكثر من عبد الرحمان اليوسفي في العلاقات العربية، ما هيأه ليصبح من كبار دعاة القومية العربية رغم أصله الأمازيغي، شأنه في ذلك شأن المفكر الكبير محمد عابد الجابري، الذي لم يتكلم العربية إلا بعد تجاوزه سن السابعة من عمره، كما يروي في سيرته “حفريات” (دار النشر المغربية، 2004).
وبعدما كان اليوسفي هو الموجه والمسؤول الأول عن إذاعة “صوت التحرير” التي كانت تبث من ليبيا لمواجهة الحسن الثاني، وأصبح عدد المغاربة الذين يتابعونها يتزايد باستمرار، رغم التشويش الكبيرعليها. سيأتي يوم من سنة 1974، ليطلب فيه عبد الرحمان اليوسفي من ابراهيم أوشلح توقيف العمل بالإذاعة وإغلاقها، و”تفريق الجقلة” كما يقول العامَّة، من دون نقاش، مرجئا تفسير وشرح الأسباب. حتى “الاجتماع التاريخي في الجزائر” الذي التأم بعد أسابيع. إثرها بدأت معالم انفراج سياسي تتضح في المغرب، توازت مع بداية إعادة قضية مغربية الصحراء إلى الواجهة. بدأت بإطلاق سراح عمر بنجلون ومحمد اليازغي مع مناضلين اتحاديين آخرين. وأخذ الخلاف يظهر إلى السطح بين تيار “اتحاديي الخارج”، ممثلا في أصحاب الفقيه البصري، وتيار المقربين من السي عبد الرحمان اليوسفي المتوافق مع اتحاديي فرع الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد.
هكذا سيجتمع عبد الرحيم بوعبيد مع عمر بنجلون ومحمد اليازغي ومحمد الحبابي ومحمد الحلوي وآخرين، في سبتمبر من سنة 1974 ليقرروا استئناف نشاط الحزب، والاستعداد لعقد مؤتمر وطني. مؤتمر ينهي حالة الغموض الإيديولوجي للاتحاد من جهة، ويضع من جهة أخرى حدًّا للقطيعة بين من سيطلق عليهم وصف “البلانكيين” بزعامة الفقيه البصري، وبين من اختاروا “تكريس النضال الديمقراطي كخيار استراتيجي”.
ولأن ظروف السرية والمنفى لم تسمح بلقاء البصري باليوسفي، فقد بادر الفقيه البصري بإرسال رسالة إلى من يستعدون في الرباط “للتطبيع مع نظام الحسن الثاني”، وتم توجيه الرسالة في الأول عبر البريد العادي إلى عنوان مقر الحزب في 262 شارع تمارة، (شارع الحسن الثاني حاليا)، ثم جاء بها لاحقا مناضل وسلمها يدًا بيد إلى المعنيين بالأمر. وكانت رسالة موجهة للمؤتمر المزمع عقده. وهذا المناضل كان طالبا يتابع دراسته في الجزائر، واسمه مصطفى فجري سليل العائلة الاتحادية المعروفة، وكان زميلًا لي في المرحلة الثانوية، وقد صار عضوا بهيأة المحامين في الدار البيضاء، وتوفي سنة 2016.
لكن عندما انعقد المؤتمر الوطني الذي أعطيت له صفة “الاستثنائي”، واختير له تاريخ يحمل دلالة ورمزية كبيرة، توافق إعلان وثيقة الاستقلال عام 1944، تم إخفاء رسالة الفقيه البصري وإهمالها، وسيفاجؤ المؤتمرون برسالة ثانية، رسالة صوتية، هرَّبها طالب اتحادي يدرس الاقتصاد بجامعة تولوز بفرنسا، وكان مسؤولا بفيدرالية الحزب بأوروبا الغربية، رفقة طارق القباج (رئيس بلدية أغادير سابقا)، وخالد عليوة (الوزير السابق)، وموح المباركي (الوزير السابق وعامل تطوان، وحاليا مدير وكالة الشرق (وكالة الإنعاش والتنمية بجهة الشرق).
اسم حامل الرسالة هو المرحوم محمد ليدام، أما مرسلها وباعثها فكان عبد الرحمان اليوسفي. (يتبع)
_________________________________________________________________________
* مقال سبق نشره بزاوية “رأي” في موقع “لكم 2″، في شهر يونيو 2020