فن التفاوض وشروط الربح والخسارة في الأزمات الدولية

فن التفاوض وشروط الربح والخسارة في الأزمات الدولية

محمود الزاهد

تعد المفاوضات من أفضل الوسائل التي تستعين بها الدول لتحقيق أهدافها المختلفة في السياسة الخارجية، وهذا يرجع تحديدا إلى قيمة التأثير العالية التي تحدثها هذه الأداة في هذا المجال ومدى ارتباطها بالوسائل الدبلوماسية السلمية الأخرى والتي تسعى من خلالها الدول إلى تأمين مصالحها القومية، وتمثل هذه المصالح دافعا أساسيا للدول لإقامة علاقات تعاون تضمن للأطراف الحصول عليها والربح.

من جانب آخر تعتبر المفاوضات أفضل السبل لاجتناب خيار الحرب او ربما تسويته، لذلك جاء التأكيد على مفهوم السلم وإرتباطه أساسا بسعي الدول الجاد لتوظيف هذه الوسيلة كطريقة للتعامل فيما بينها، وبذلك تكون للمفاوضات قيمة عليا، لا غنى للدول عنها وعن فن وأسلوب التفاوض في الازمات الدولية.

يؤكد أستاذ العلاقات الدولية خالد العزي في حديث لـــ “السؤال الآن” حول أهمية المفاوضات في العصر الحديث في تخفيف حدة النزاعات في العالم؟ ولماذا لم تؤت ثمارها قبل اندلاع الحرب الأوكرانية ــــ الروسية؟ أن “التفاوض في العلاقات الدولية هو أساس العلاقات السياسية،  وهو نوع من سماع مشكلات ومخاوف  وهواجس الآخر،  وبالتالي حصر القضية في كيفية ايجاد الحلول عبر العلاقات المباشرة في الأزمة والتوصل الى تشعيب المشكلة والبدء بحل البنود التي تم التوقف امامها، وبالتالي يأخذ التفاوض جولات كثيرة وعلى المفاوضين أن يكون لهم باع طويل في هذه الممارسة  وخبرات عالية في عملية التفاهم والتوصل الى حلول والاستماع الى الطرف الاخر، ويجب على من يرسل الى التفاوض أن يتمكن من امتلاك هذا الفن  الدبلوماسي. 

فالتفاوض هو علم وفن يتطلب الهدوء والسيطرة على الأعصاب وكيفية السيطرة على الآخر واستيعابه والاستماع لما يحاول ارساله من ناحية ومن ناحية أخرى فهم رسالة الآخر لنقلها كاملة الى المعنيين لمناقشتها والتباحث بأمورها، ووضع خطوط التحدث بها لاحقا.

ويضيف: “لذلك يكون المفاوض هو كما حال قطعة الاسفنج التي تمتص صدمة الاخر وهنا تلعب الاعتبارات الكثيرة في شخصية المفاوضين الذين يمتلكون الخبرات والحنكات السياسية والدبلوماسية وفنون اللغة والتزود بالمعلومات والقوانين الدولية”، ميرا إلى أن “للتفاوض اشكال عديدة متبع ومتعارف عليها في عالم الدبلوماسية، يمكن ان يكون مباشر وهو الأنجح، وهنا يمكن تشكيل وفد مسؤول للتفاوض وقد يحمل الصلاحيات الكاملة ضمن الحدود المطلوب طرقها. وهناك شكل آخر في التفاوض حيث يكون التفاوض على  المضمون وليس على الشكل البروتوكولي، أي عبر وسيط وهو تفاوض عبر شخص آخر يضمن التفاوض بين الطرفين لأنهم لا يريدون ان يلتقوا ولا يريدون التفاوض المباشر كما حصل في ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل حيث كان الوسيط أميركي”.

 اما في أوكرانيا فيرى العزي إنها “كانت تأخذ شكلين، الأول من طرف الرؤساء والوزراء الدول المعنية الذين شاهدناهم لمدة شهرين يأتون الى موسكو لدرجة أصبحت موسكو محج الدول الذين يريدون تبريد الازمة وليس تصعيدها، اما الثاني، فهو أثناء اندلاع  الحرب بين الدولتين روسيا وأوكرانيا، أخذت المفاوضات أوجه مختلفة، في مينسك عاصمة روسيا البيضاء أو بواسطة أنقرة عاصمة تركيا او عبر التواصل بواسطة الامم المتحدة ووكالة الذرة النووية أو بواسطة  الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان نفسه حيث لا تزال المفاوضات مستمرة منذ تأمين عقد اتفاق الحبوب بين الطرفين”.

وردا على سؤال حول أسباب فشل التفاوض مع أوكرانيا، يقول العزي: “التفاوض كان قضية سياسة، حاولت روسيا من خلالها تغيير المفاهيم الدولية عبر الدخول الى أوكرانيا، وكانت ترى ان الغرب مقسم وتريد زيادة الشرخ بينه وبين فأوكرانيا بالنسبة لها دولة فاسدة ولا يمكنها ان تواجه الجيش الروسي الثاني عالميا. لذلك كان الروسي يحاول تثبيت معادلة جديدة ان روسيا قوة عالمية،  وبسبب المواقف الامريكية غير الواضحة وضعت روسيا  شروطها القاسية على الناتو لكي ينقذها وبالتالي اوكرانيا اليوم، ترفض التفاوض قبل انسحاب روسيا من اراضيها وروسيا ترفض التفاوض لإبقاء الوضع على ما هو عليه حتى تخرج بماء الوجه من حربها مغ أوكرانيا بعد فشل العملية العسكرية المستمرة حوالي العام”.

وبرأيه أن “عملية التفاوض بين الطرفين لم تأخذ طبيعتها العادية كأزمة يجب حلها بين الطرفين، بل حاولت روسيا فرض أمر واقع من خلال عملية عسكرية ارادت من خلالها تغيير النظام الأوكراني من الداخل والتي يسمح لها في تغيير المعادلات الدولية لكن بعد سنة من استمرار الحرب، وعجز الروس عن تحقيق الأهداف لابد من القول انه لا بديل للتفاوض، وإنهاء الحرب اليوم قبل الغد، ولكن الطرفين باتوا يعلمون بانه يجب تعديل أوراق كل طرف قبل الجلوس على طاولة المفاوضات، وهي اورق كثير يجب التفاوض عليها لإعادة نوع من العلاقات حتى لو تخللها نوع من الجفاف”.

وحول مجريات عمليات التفاوض السياسي، وكيف تميل غالبا للطرف الأقوى نفوذا، يجيب العزي: “في العادة القوي هو الذي يفرض شروطه على الضعيف في اي نزاع يحصل، وهذا بات متعارفا عليه لدى كل العالم وهنا الخلل في عملية المفاهيم التفاوضية التي  لا تقوم على المبادئ والمفاهيم النظرية والعلمية التي يبنى عليها مفهوم التفاوض وحل النزاعات. فالتفاوض دوما يكون على أساس أن القوي هو الذي يخرج بدون خسارة في عملية التفاوض ويتم الاستجابة له بسبب المصالح الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية وربما الآلة العسكرية هي من تحقق المصالح للقوي. المثال:  اوكرانيا، الجميع يحاول النظر إلى ان روسيا مظلومة بسبب العقوبات، وبسبب التسليح الغربي المقدم لها وبالوقت ذاته الجميع يحاول ان لا ينظر إلى أن روسيا هي من أخلت بالقانون الدولي، وأنها حاولت استخدام شريعة الغاب بسبب تفوقها العسكري، واللوجستي، واجتياحها ارض أوكرانيا، ويمكن تطبيق هذا المثال على العدو الاسرائيلي الذي يحاول خرق الحدود ويهدد الدولة اللبنانية وهنا الازدواجية بان يكون الانسان مع الظالم  من جهة، ومن جهة اخرى ضد الضحية، لذلك يجب ان نقول ان القانون الدولي هو الأساس في عملية التفاوض بغض النظر من تحب ومن تكره، لان النظرية موحدة في تطبيق القوانين والوقوف بوجه الخرق الواضح للقوانين الدولية”.

وعن تقويمه لعملية التفاوض التي جرت في قضية ترسيم الحدود البرية والبحرية في لبنان، يؤكد العزي على إنه في أي عملية تفاوضية لا بد يجب الاجابة عن الاسئلة التالية:

ــــ مدى استعداد الأطراف وتحضيرها للعملية التفاوض، مما  يتطلب سلوك تفاوضي واضح من خلال استراتيجية  ذات اهداف قد تتحقق او لا،  كذلك يشكل مدى انسجام فريق التفاوض اللبناني وتأثير (الانسجام من عدمه) على سير العملية التفاوضية؟

ــــ  كيفية التفاوض، من شارك فيه وبرعاية من (هل ثمة طرف ثالث؟). بالإضافة الى النقاط التفصيلية التالية: أوراق القوة والضعف لكل من الطرفين؟

ـــ هل تحققت شروط التفاوض (المصداقية والثقة والموضوعية والمرونة) في تلك المفاوضات؟

ـــ  مضمون التفاوض والهدف التفاوضي (تفاوض يقوم على أساس المنافع المتبادلة والمصلحة الفردية او ما يسمى التفاوض التوزيعي؟).

ــــ هل حقق لبنان المصلحة التي يتوخاها بحسب علم التفاوض ومن كان الرابح ومن الخاسر؟

ويضيف: “التفاوض اللبناني في ترسيم الحدود كان حسب المثال الذي اعطيناه بالبداية بان طبيعة التفاوض كانت غير مباشرة وكان الوسيط الامريكي هو من يدير عملية التفاوض. بالطبع كان هناك غبن في التفاوض بحق لبنان نتيجة الضغط الذي مورس على لبنان من  اميركا،  وبالتالي كانت مصالح ايرانية امريكية فوق كل اعتبار  تهدف الى انهاء المشكلة  من اجل فتح جدار في عملية التفاوض الامريكي ــــ الإيراني النووي وكان الهدف الامريكي  في عملية التفاوض السريع استخراج الغاز وضخه ونقله لأوروبا عبر اسرائيل  نتيجة ازمة الطاقة التي أحدثتها الحرب الروسية ـــ الاوكرانية، وبالتالي لبنان كان مجبرا في هذه العملية ولم يحصل على حدوده في الخط 29 المطلوب كما أفادت لجنة الترسيم بوزارة الدفاع اللبناني، لكن اعتمد الخط 23 في عملية التفاوض حيث بات لبنان الخاسر الاكبر في هذه العملية ولم يستطع الوصول لا للخط 29 ولا الى ترسيم مزارع شبعا كي ننتهي من العملية التفاوضية دون تجزيئها، ولم نستطع معرفة ما في داخل  البحر للبنان من ثروات.

وعن عملية التفاوض المستمرة بين لبنان وصندوق النقد الدولي يرى العزي أن “العملية التفاوضية غير متكافئة، لان الاختلاف داخل لبنان كان واضح بالأرقام من خلال تقارير البنك المركزي ومجلس الوزراء ولجنة المال والموازنة، وهذا يدل على ارتباك لبنان فعلي في عملية التفاوض. الفريق الذي يتفاوض قد يكون غير كفوء غير مجهز بالمعلومات والوثائق التي يحاول أن يتعامل معها مع الفريق الدولي وبنفس الوقت هناك مطالب من البنك الدولي. لبنان لا يريد البدء  فيها  ويتقاعس عن تنفيذها مثل ضبط الحدود والمعابر، الإرشاد في النفقات، عدم التنظيف العشوائي مثل شراء ذمم من السياسيين، عدم الوضوح في رؤية واستراتيجية خدماتية موجودة من الوزارة لكي يكون للطرف اللبناني استراتيجية فاعلة في عملية التفاوض ما بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي. وصندوق النقد الدولي ليس مؤسسة خيرية، وإنما هناك مؤسسة دولية لها ضوابط قد تفيد البلد بكثير من الأمور اذا تم وضع استراتيجية واضحة  للانقاذ وطلب المساعدة منه  او لا تفيد بحال عدم وجدو الاستراتيجية التي تؤمن الحماية الوطنية بالتعاون مع المؤسسات الدولية”.

ويتابع: “ليس كل ما يطلبه الصندوق الدولي ملزم لنا لتنفيذه ولكن نحن ملزمون بتقديم خطة اقتصادية إنقاذية واضحة وهذه هي المشكلة قد لا نستطيع ان نجد مصداقية بيننا وبين الصندوق وقد تكون المفاوضات بخبر كان ولن تثمر هذه المفاوضات بظل غياب الارقام الحديثة ومحاربة الفساد الواضح من خلال تنفيذ شروط سريعة ومن خلال خطة سريعة: ماذا يريد لبنان من صندوق النقد الدولي؟ وليس العكس”.

شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *