الداعية الجمركي
هذا كان حال أوروبا القريبة منّا. فكيف هو حالنا؟
لنتذكّر، لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين، شيئا من وقائع تاريخنا. تُجمع مصادر ومراجع تاريخ الفكر السياسي الإسلامي أنّ أسلافنا، ومن ضمنهم مفكرونا السياسيون، واجهوا المفاهيم السياسية الإغريقية، ووقفوا منها لأسباب، موقف الرفض. وهاهي الآن نفس المفاهيم (المواطن، القانون، المؤسسات، الانتخاب، مسؤولية الحاكم…) التي وجدت في نهضة أوربا الحديثة امتدادا لها، تواجهنا اليوم، كما واجهت أجدادنا بالأمس، فهل نخطئ حركة التاريخ مرة أخرى، ونرفضها بانتفاخ طاووسي أجوف، بـاسم أصالة موهومة، و”هوية” لا هوية لها؟
لقد كُتب الكثير والكثير حول “الهوية” و”الخصوصية” و”التراث” و”الأصالة”، وارتفعت أصوات متعددة، وحركات دعوية مختلفة تحذّرنا من ضياع ذواتنا في غياهب “الأفكار الدخيلة”، وتنذرنا من دسائس الغرب الكافر المتوجس غيلة على أصالتنا الأصيلة. وحتّى حينما تعتدل هذه الأصوات في غيّها، وتليّن شيئا ما في مواقفها، فإنّها تؤكّد على ضرورة تصفية هذه “الأفكار الغربية” لنلتقط منها “الإيجابي” الذي لا يناقض أصالتنا! وندع جانبا “سلبياتها” اللاأخلاقية… الخ
وأنت تقرأ مجمل هذه المواقف، سواء فاه بها داعية إسلامي لا يُشقّ لعلمه غبار، أو جاءت على لسان حزب متسلّح بالإسلام، تخال هؤلاء، وكأنهم أصبحوا نوعا جديدا من “الجمارك” الواقفة، وقفة رجل واحد، عند الحدود مع “الغرب”، تصدر أوامرها المطاعة بما يدخل وما لا يدخل من سلع ثقافية، متربّصة عند كلّ بوّابات هذه الحدود لتغربل لنا الحلال من الحرام، وما يصلح لأمور دنيانا وآخرتنا وما لا يصلح لهما. غير أن هذه “الجمارك” الواهمة تنسى أن وراء كل مراقبة، عند الحدود أو داخلها، أشياء كثيرة تنفلت من الضبط، خاصّة إذا كان الأمر يخصّ عقول الناس وحاجاتهم اليومية.
ولعلّ أبرز نموذج عن هذه “الجمارك” الحديثة النّشأة، ما نشاهده اليوم، هنا والآن، عند دعاة “الحركات الإسلامية”، متطرّفيها ومعتدليها. فهم يرفضون ولا يقنعون، ينتقدون ولا يطرحون بديلا، يُطنبون في موضوع الدولة الإسلامية و”إحياء الخلافة” متشبثين بالعموميات ولا يخصّصون، يركّبون جملا ولا يفيدون، يستهجنون الحضارة المادية، وهم عن خلق أبسط الآلات، دون خبرة الغرب “الكافر”، عاجزون، يشنّون حربا شعواء ضد كل تجديد فكري، ولا يقدرون، دون اللجوء المواري إلى “الأفكار الدخيلة” على إيجاد حلول لأتفه المشاكل الاجتماعية اليومية، فبالأحرى مشاكل الاقتصاد والسياسة. وحتى حينما يعتدل بعضهم، ولا يرى ضررا في الأخذ ببعض التراث السياسي الحديث، تراه يحاول إقناعك (في الحقيقة إقناع نفسه) بأن كل ما أخذه من ثمار المدنية الحديثة موجود أصلا في تراثه الإسلامي: فالديمقراطية ليست سوى نقلا عن مبادئ “الشورى”! و”دستور المدينة” (على فرض أنّ هذه الوثيقة تستحق اسم الدستور) سبق كل دساتير العالم، وحقوق المواطنة متضمّنة في “واجبات الخليفة”، وما للرعية عليه من حقوق! كما أنّ “حقوق الإنسان” سبق لـ”عمر بن الخطاب” أن أقرّها وطبّقها قبل “إعلاناتها” منذ زمان و زمان!، و”الغزالي” سبق “ديكارت”، و”ماركس” نقل عن “ابن خلدون”… وقس على ذلك من المهاترات والأباطيل التي ينطبق عليها قول المرحوم زكي نجيب محمود “سبقناهم من زمان وزمان!” (أنظر كتابه السيء الحظ “تجديد الفكر العربي”)
لا يمكن لهذه الهلوسات الفكرية والسياسية، وما تحفل به من لخبطة في المفاهيم وبلبلة في التفكير أن تفتح للمجتمع أفقا، أو تشرع للسياسة أبوابا.