نزاع الصحراء، طبيعته وخلفياته ومضاعفاته (2-2)
عبد السلام البوسرغيني
عندما يعيد التاريخ نفسه ويكرر نفس الأحداث
إن ما يحدث اليوم بشأن قضية الصحراء ونحن في منتصف سنة 2022، يكرر ماعشناه من أحداث وقعت سنة 1975، ويدفعنا ذلك إلى القول: إن التاريخ أعاد نفسه، وبصفة تكاد تكون متطابقة لما حدث من قبل. فالأطراف المتورطة في نزاع الصحراء هي نفسها، وإن كانت المواجهة محصورة في المغرب والجزائر، ولا يتعدى تورط إسبانيا دور المساند. مرة لهذا الطرف، ومرة أخرى للطرف الآخر، حسب ما تقتضيه مصالحها وما يضمنه لها حسب الظروف، مطبقين نصيحة الزعيم البريطاني المشهور ونستون تشيرشيل القائلة “في السياسة ليس هناك صديق دائم ولا عدو دائم، ولكن هناك مصالح دائمة”. كذلك فإن ما قابلت به إسبانيا إنذار وتهديد الجزائريين في الفترة الأخيرة، هو نفس التجاهل الذي قوبل به المسعى الجزائري، الذي قام به وفد هام يرأسه ضابط برتبة جنرال يدعى المدغري إذا لم تخني الذاكرة.
كان المسعى الجزائري الذي بذل على عهد الرئيس الراحل هواري بومدين لدى إسبانيا، يستهدف الحيلولة دون التوصل إلى تفاهم مع المغرب، بدت معالمه نتيجة الضغط الذي مارسه المغرب بواسطة المسيرة الخضراء، التي أتاحت لحوالي 350 ألف مواطن مغربي ذكورا وإناثا، الزحف نحو الصحراء، متجاوزين حدود المستعمرة الإسبانية بهدف تحريرها. ولم يكن هذا المسعى الجزائري قد حال دون التوصل إلى اتفاقية مدريد الموقعة يوم 14 نوفمبر 1975، لتطوى تلك الصفحة السوداء من تاريخ الاستعمارالفرنسي والإسباني، الذي قسم التراب المغربي أجزاء متناثرة، شمالا وجنوبا عبر المملكة، ومع ذلك لم يفقد المغرب شخصيته كدولة معترف بها دوليا. وبمقتضى تلك الاتفاقية تسلم المغرب وموريتانيا إدارة الصحراء الغربية، كل في الجزء الذي نابه، وبسط المغرب سيادته على إقليم العيون الساقية الحمراء شمالا، وتسلمت موريتانيا السيادة على إقليم الداخلة وادي الذهب. فما الذي جعل إسبانيا تتجاهل إنذارالجزائر سنة 1975؟
بالرجوع إلى الأوضاع السياسية السائدة في تلك السنة، وما اكتنفها من أحداث وتحولات، يتبين أن القادة الأسبان فوجئوا بمشكل الصحراء وهم في وضع سياسي وانتقالي دقيق وخطير. فقد كان قائدهم الجنرال فرنكو في حالة احتضار، وحدث أن اغتيل الرجل القوي الذي كان يرأس الحكومة، ولكن من حسن حظ إسبانيا أن وجدت في الأمير خوان كارلوس، الذي عينه فرنكو ليتسلم الحكم كملك، ذلك الرجل الحكيم الذي أخذ بزمام أمور البلاد، وتحلى بقدر كبير من الشجاعة والجرأة وحسم في أمرين هامين:
أولاهما، الأخذ بزمام الحكم كملك وكقائد أعلى للجيش.
وثانيهما، معالجة المشكل الصحراوي الطارئ والخطير بالنسبة للأمن الداخلي والخارجي لإسبانيا.
ولقد كان تدخل خوان كارلوس حاسما وسريعا في معالجة مشكل الصحراء، فبالإضافة إلى القيام بزيارة مفاجئة للصحراء لتفقد الجيش والاطمئنان على روح الامتثال التي يجب أن تسود صفوفه في تلك الفترة الدقيقة، اتجه إلى التفاوض المباشر مع المرحوم الملك الحسن الثاني الذي تجمعه به صداقة شخصية، وسرعان ما توصلا معا إلى تفاهم يضمن لإسبانيا مصالحها المتمثلة في المحافظة على حرية ممارسة الصيد البحري في الشواطئ الصحراوية، وحقها في استغلال منجم الفوسفاط المكتشف حديثا، وضمان أمن وسلامة جزر الكناري المتاخمة للشواطئ الصحراوية بصفتها جزء من التراب الاسباني. ومقابل ذلك تتخلى أسبانيا عن استعمارها للصحراء. ويمكن القول بأن الرجلان تجنبا إثارة مشكل مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين، اللتين تتشبث بهما إسبانيا كجزء من ترابها لمرور قرون متعددة على خضوعهما للسيادة الإسبانية، وذلك لكون الملك الحسن الثاني يحتفظ برأي خاص حول طرق معالجة مشكل المدينتين، يربطه باستراجية التحكم في مضيق جبل طارق مع الوجود البريطاني في الضفة الشمالية للمضيق.
وفي نظري فإن اتفاقية 14 نوفمبر 1975 لم تكن بمثابة حلف يصعب التخلص منه، وبما يفرضه التحالف عادة، بمعنى أن مراعاة مصالح إسبانيا وما قد يطرأ من مستجدات قد يجعل مدريد تغير موقفها وتنحاز إلى الأطروحة الجزائرية، وهذا ما حدث بالفعل، عندما استعمل الجزائريون ما كان لديهم من أوراق لابتزاز إسبانيا، وأهم هذه الأوراق استعمال منظمة البوليساريو كأداة للضغط عليها. فلقد تم تزويد رجال هذه المنظمة بكل الإمكانيات والمعدات لضرب المصالح الإسبانية وبدأ تنظيم الهجوم على بواخر الصيد الاسبانية، واختطاف بحارتها واستعمالهم كرهائن لكسب المال، ولحمل إسبانيا عل تغيير موفقها من شريك للمغرب إلى حليف للجزائر، واستعمل قادتها أيضا سلاح المصالح الاقتصادية. ولقد كان الاتفاق على تزويد إسبانيا بالغاز الجزائري حاسما في التغييرالطارئ على السياسة الأسبانية إزاء قضية الصحراء، ليصل البلدان سنة 2002 إلى إبرام معاهدة تحالف، ذهبت إلى حد إقرار تعاون بين الجيشين الجزائري والإسباني وتنظيم مناورات مشتركة بينهما.
وكان قادة الجزائر مساندين لاسبانيا التي اصطدمت مع المغرب، حول جزيرة ليلى التي لا تبعد عن شاطئ المغرب سوى ببضع مآت من الأمتار، قد أدى إلى تعزيز ذلك التحالف، ومن خلال هذا الموقف الجزائري، يبدو مدى ما يمكن أن يذهب إليه قادة الجزائر في التنكر للمبادئ التي يعلنون تشبثهم بها، وكانوا كأنهم يقولون: فلتذهب المبادئ المثلى إلى الجحيم، إذا كان أي إجراء أو قرار يسيئ إلى المغرب الذي يعتبرونه عدوا كلاسيكيا، كما قال الجنرال شنقريحة، وهو يتحدث باسم الجيش الشعبي الجزائري.
لقد بدا في ذلك الحين، وكان الإسبانيون أصبحوا يلعبون على الحبلين، خصوصا منذ أن فقدوا حرية التمتع بالصيد البحري سنة 1983، عندما فرض عليهم المغرب إبرام أول اتفاقية في هذا الميدان، إعتمادا على ما يمنحه له ميثاق البحار الأممي من حقوق في بسط سيادته على شواطئه. وكما قال لي المرحوم بنسالم الصميلي وزير الصيد البحر في ذلك الحين، فإن المغرب بهذه الاتفاقية تمكن من تحرير مجاله البحري، بعد أن كان قد حرر مجاله الترابي في اليابسة سنة 1976. مرت أربعون سنة حقق المغرب خلالها الكثير من المكاسب المادية والمعنوية، في مقابل خسارة الجزائر لكثير مما كانت تحسبه سلاحها الأساسي، كالاعترافات بالكيان الصحراوي الوهمي وقبوله عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية، ثم بالإتحاد الإفريقي ، لقد بدأت تتفكك من مدة تلك الاعترافات، مثلما أصبح تقريرمصير ما يسمونه بالشعب الصحراوي في مهب الريح، بعد كل ما تحقق في الصحراء، محل النزاع من تغيير وتطور وتشييد وتعمير وعمران، ومع ما أنجزه المغرب في الميدان العسكري لتحصين صحرائه المسترجعة والموحدة.
ولأن المغرب اليوم لم يعد هو مغرب الأمس، كما لا يفتأ المسؤولون المغاربة يرددون هذه العبارة، شعورا منهم بما حققوه من مكاسب، ولأنه أصبح معززا بتحالفات دلوماسية وعسكرية، وبالإعتراف له بسيادته على الصحراء الغربية، كان أهمها اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، وبما تحقق له من إشعاع ونفوذ سياسي واقتصادي، خصوصا في القارتين الاروبية والإفريقية، جعله يتوفر على ما يصطلح عليه بالقوى الناعمة.
لكل ذلك أصبح المغرب يفرض حتى على الدول ذات النفوذ احترام إرادته، والتعامل معه على أساس المساواة، ويطالب الدول والمنظمات بالخروج من مناطق الظل، فيما يخص سيادته على صحرائه. وفي هذا الإطار طرح علاقته مع إسبانيا ودخل معها في أزمة دبلوماسية، انتهت يوم 18 مارس2022 بإعلان إسبانيا رسميا، وعلى الملأ عن كون مخطط المغرب لتسوية نزاع الصحراء هو “الأساس الأكثرجدية وواقعية ومصداقية”، بل لقد ذهب رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، في رسالته إلى الملك محمد السادس، إلى ربط ضمان سيادة المغرب على وحدته الترابية بسيادة إسبانيا على وحدتها الترابية.
لم يحدث هذا الإنعطاف في الموقف الإسباني بطرق إرتجالية أو عفوية أواعتباطية، بل إن حكومة بيدرو سانشيزأخذت قبل إتخاذ قرارها التاريخي من الوقت ما يكفي لدراسة الأزمة من كل جوانبها، وأسندت مهمة إعدادالتقرير الذي سيبنى عليه موقف الدولة الإسبانية إلى لجنة من كبار شخصيات البلاد من السياسيين والاقتصاديين والخبراء المتمرسين، وقد أعدوا تقريرا من أربعمائة صفحة تضمنت ما يكفي من الخلاصات والإستنتاجات. وهكذا وكما قال وزير الخارجية الإسباني خوسي ماريا أسنار “فإن العلاقات الدولية لا تقوم على التخمين أو التكهنات، إذ المطلوب في عالم الدبلوماسية هو الحقائق والحقائق فقط. أستطيع أن أفكر في كل شيء أريد يقول أسنار، ولكن القرار يخضع لسياسة الدولة”. وبهذا التصريح يقدم لنا درسا يمين في الدبلوماسية على القادة الجزائريين أن يستوعبوه.
وعلى عكس ما حصل في إسبانيا، فقد عالج القادة الجزائريون الوضع الطارئ الذي باغثهم بكثير من الارتجال والنرفزة، واتهموا الاسبان بالخيانة وبالتنكر لتعهداتهم. وقد سارعوا في اليوم الموالي لرسالة بيدرو سانشيز إلى الملك محمد السادس إلى سحب أو استدعاء السفير الجزائري في مدريد، وحتى وإن كانوا أعطوا لأنفسهم بعد ذلك قرابة ثلاثة أشهر لاتخاذ قرار معاقبة إسبانيا، فإنهم عندما أعلنوا عن إلغاء معاهدتهم معها وفرضوا حظرا على التعاون التجاري وإيقاف المعاملات المالية مع إسبانيا، تبين أنهم خرقوا معاهدة الشراكة مع الاتحاد الأروبي، فاستحقوا التوبيخ والإنذار، فحاولوا التنصل مما أعلنوا عنه، وأعلنوا عن تراجع مهين للدولة الجزائرية.
وبالنظرإلى السياسة التي اتبعها القادة المغاربة في مواجهتهم للأزمة الجديدة، وفي معالجتهم لقضية الصحراء، فقد أبانوا عن حنكة دبلوماسية، وبدوا أقواء كما فعلواخلال أحداث 1975، عندما تمكنوا من تحرير الصحراء.
إن ما حدث أخيرا بشأن قضية الصحراء، يفرض طرح السؤال المحرج بالنسبة للجزائريين، إذ كيف يمكن لهم أن يقدموا البوليساريو كطرف أساسي في نزاع الصحراء، وهم الطرف الأساسي الذي يتحرك في كل اتجاه عندما تثار قضية هذا النزاع ، ويعبئون إمكانياتهم، بل ودبلوماسيتهم لمواجهة ومحاصرة المغرب، ومنذ سبع وأربعين سنة وبلا هوادة؟
الدار البيضاء 23 حزيران 2022