كفى من الأوهام!
عزالدين العلام
لسنا في حاجة إلى جهد استثنائي لندرك أنّ حضارة الإسلام كانت محكومة بالتاريخ والجغرافيا كباقي الحضارات، وأنها لم تكن أبدا نقية واستثنائية كما يتصوّرها بعض المتوهمين. وما أسهل أن نستوعب أنّ الدولة الإسلامية التي يتحدّث عنها البعض، بشيء غير قليل من التبجح والانتفاخ الفارغ، لم تكن منذ بدئها غير استنبات لدولة “فارس” وأجهزتها، واستطالة لدولة الشرق القديمة، وأنّ تاريخها لم يكن في حقيقته غير تاريخ السلطنات الدنيوية التي عرفها العالم العربي – الإسلامي ولا يزال، وأنها كانت تقوم على القهر والعصبية، وليس على مبادئ دينية مفترضة. يكفي أن يستقرئ المرء تاريخ المسلمين ودولهم، ليرى كيف كانوا في صراع لم يهدأ، واقتتال لم يفتر، حول السلطة وغنائمها منذ وفاة الرسول، وكيف كانوا، بعضهم لبعض، أعداء ألذاء لا يحبّون لإخوانهم في الدين ما يحبّون لأنفسهم.
يكفي أن نقرأ ابن خلدون وغيره، لندرك أنّ الغرب الإسلامي ظل لفترة طويلة تحت رحمة الشرق، وأنّ دخوله الإسلام، كما أوضح صاحب “المقدّمة”، لم يكن أمرا هينا كما تدّعي بعض كتب التاريخ الحديثة. ويكفي الرجوع إلى الجاحظ وغيره لندرك أيضا كيف أن الجنس العربي ليس سوى عنصر واحد من بين عناصر حضارة إسلامية متعددة الثقافات، ومختلطة الأجناس. ويكفي استقراء ما دوّنه فقهاء وأدباء العصور المرابطية والموحدية والمرينية من نصائح سياسية، وما رووه من دسائس البلاطات السلطانية، لتتّضح لنا صافية صورة الاستبداد السياسي في أبشع أشكاله خلاف ما يتحدّث عنه البعض من تاريخ حافل بمفاخر العدل وأمجاد الإنصاف. ويكفي استقصاء أدبيات مغرب القرن التاسع عشر السياسية، لنرى ضيق الأفق حاضرا بلحمه ودمه، مقارنة مع ما كان يجري وقتها في الضفة الأخرى من البحر المتوسط، ولننفض عنّا كل كلام مريض عن كوننا “خير أمة أخرجت للناس”، ولولانا لظل العالم المسكين كله يتيما تائها يعمه في ضلال مبين.
كم يبدون اليوم بؤساء، هؤلاء الدعاة والوعاظ المتأسلمين، في هلوساتهم الخطابية حول الدين والمجتمع، وهذيانهم حول قيام الدولة الدينية، وهي وهم لا يستقيم مع معطيات التاريخ الإسلامي نفسه الذي يقدمها لنا كائنا دنيويا بطبيعتها، ومجال صراع لا دخل فيه للإله ولا لحسن النوايا. أبان ذلك ابن خلدون، وقبله معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف الثقفي والحاكم بأمر الله، وأثبت التاريخ القريب ذلك في مواجهة “آيات الله” في إيران، و”الطالبان” في أفغانستان، و”داعش” في بلاد ما بين المهرين…
آن الأوان لنتخلّص من كثير من الأوهام التي سكنتنا مع مرور الزمان وكأنّها حقائق مقدسة لا يشوبها باطل. وفي مقدمتها تعاملنا مع “الإسلام” شعوريا أو لاشعوريا، وكأنه الدين الواحد الأوحد الذي شهده التاريخ، وهو اعتقاد لم ينتج عنه، كما تأكّد اليوم، غير نفي اختلاف الثقافات ونسبية التاريخ، وسيادة التعصب الديني الأعمى.
لا أدري مثلا كيف يطنب البعض في الحديث عن العدل في الإسلام، وتاريخ الدول المتعاقبة فوق الرقعة العربية – الإسلامية يؤكد سيادة الجور في كل أطواره. ولا أدري ما سرّ تباهى بعض الجهلة بمبدأ الشورى، وسبْقنا في هذا الباب لديمقراطية الغرب، متناسين أن الحكم في الإسلام كما أوضح فقهائه “لا يستقيم بالشركاء” وأنه “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا”، وأنّ التاريخ الإسلامي، من ألفه إلى يائه، هو تاريخ استبداد خلفائه وملوكه وسلاطينه. ولا أفهم كيف يتحدث الكثير، بشيء غبر قليل من الإسهال، عن الرحمة والتسامح في الإسلام، في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع التي لا ترتفع أن العنف كان عنصرا ملازما لتاريخ الإسلام ومحركا له، بدءا من اغتيال ثلاثة خلفاء “راشدين” في فترة وجيزة، يسمونها “عصرا ذهبيا”، إلى قطع الرؤوس “متى أبنعت وحان قطافها”، إلى دسائس البلاطات والتفنن في أشكال العقاب والتعذيب، مرورا بمحن بعض الفقهاء والكتّاب وإحراق الكتب وغير ذلك من الوقائع التي لا علاقة لها بالتسامح (وهو بالمناسبة مفهوم حديث) غير الخير والإحسان. فعلا، لا أدري لم يتعامل المسلمون مع ما كان ينبغي أن يكون وكأنه كان فعلا!