المرأة مدخل إلى الحرية والتحرر من خلال أعمال مصطفى حجازي (1/3)
لحسن أوزين
ليس من السهل أن نتحدث عن المرأة كمدخل أساسي للحرية والتحرر بلغة ذكورية غارقة في البطريركية. إنها لغة الكراهية والحقد والقهر والاستغلال والهدر… أي كل ما يمس الإنسان في قيمته، اعتباره، حريته، كرامته وإنسانيته. والخطير في الأمر أنها لغة ميتافيزيقية مشبعة بالقداسة الدينية إلى درجة تجعل كل شيء في حياة الإنسان منزلا كالوحي، بصيغ وتراكيب لغوية تمنع وتسطو على حق الإنسان في امتلاك لغته، وفي سكون كينونته إليها عوض أن تسكنه كما تسكن “الأشباح” المنازل المهجورة. لذلك لم يكن هشام شرابي مخطئا حين بدأ نقده في كتابه “النقد الحضاري” بإشكالية نقد اللغة التي تندس فيها بنية علاقات القهر والهذر والبنية البطريركية، كوسيلة تحدد نمط تفكيرنا ورؤيتنا للذات والعالم، وتتحكم في المنظور بإملاء قهري استلابي لكيفية النظر والتحليل لقضايا وإشكاليات الفكر والواقع، وهذا ما يعيق إنتاج وعي نقدي علمي يتوخى التغيير ويسعى إلى إحداثه.
أولا التلازم البنيوي بين بنيات القهر والهدر والبنية البطريركية
رغم أن بنيات علاقات القهر والهدر هي بنيات فوقية نفسية، أسسها اللاشعور الثقافي الجماعي والمخيال الاجتماعي، إلا أنها في مجتمعات التخلف ذات التسلط الاستبدادي العصبي الأصولي تشتغل كعلاقات إنتاج مادية، تطابق وتوافق البنية البطركية ذات الجبة الدينية، حيث الجمع بين الأب الزعيم والولي بقداسته ومعجزاته وكراماته وبغضبه المدمر لكل شيء، إذ لا تزال تسود القبيلة والعشيرة والعصبية والقرابة كسلسلة نسب أبوي، ليس بمعناه البيولوجي ولكن كنظام أحادي وحيد وعمودي للعلاقات الاجتماعية، ينظم ويتحكم في مختلف الوظائف والأدوار، ويحدد المواقع والمكانات والمراتب الاجتماعية. و”هكذا فبينما تعتبر القرابة فوقية من وجهة نظر المادية الكلاسيكية، فإنها في المجتمعات القبلية تشكل الأساس الذي تقوم عليه بنيتها، ففي هذه المجتمعات نجد أن علاقات القرابة التي تقوم بين الأب والابن وبين الزوج والزوجة وبين الإخوة هي علاقات الإنتاج الرئيسية. إنها علاقات قانونية وسياسية ودينية. إن الدين هو عبادة الأجداد والتنظيم السياسي يقوم على سلسلة النسب، والإنتاج يتم في دائرة المحيط العائلي الذي يقوم على الانتساب إلى الأب”. (1) وبذلك نفترض أن بنيات علاقات القهر والهدر الاستبدادية العصبية والأصولية ما كان لها أن تكون وتسود وتسيطر لولا وجود حاضنتها الأساس، وهي البنية البطركية بمعنى أن وجودها واستمرارها رهين بمدى تأبيد وترسيخ البنية البطركية. وأن أي تغيير جذري حقيقي لايرمي إلى تقويض البنية البطركية المسيجة إلهيا فهو تغيير فاشل لا أفق له، وبالتالي يستحيل أن يكون مستقبله هو الحرية والتحرر المجتمعي. فغالبا ما اهتمت الحركات السياسية من أحزاب ومنظمات في العالم العربي والإسلامي بإشكالية التخلف، دون أن تدرك البنية الأساس التي تعيد إنتاج نفسها بهضمها لكل تغيير أو تنمية أو برامج للتطوير والنهوض، وحتى عندما تطرح قضية المرأة، كمدخل للوعي بطبيعة وأفاق التغيير والمشروع المجتمعي التحرري الإنساني المراد تحقيقه فإن تلك القضية تطرح بشكل خجول ومحتشم، كقشور لفظية أو كواجهة حداثية في القول دون الفعل، في الوقت الذي لا يمكن حل هذا التناقض المأزقي للتلازم البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطركية إلا على المستوى السياسي، أي أن قضية تحرر المرأة هي قضية مجتمع ككل، سياسية مندمجة ومتمفصلة بالحل السياسي الشامل لتغيير مجتمعات التخلف. فواقع مجتمعات الاستبداد العصبي الأصولي هو واقع تسوده وتؤطره وتهيكله القيم الذكورية الثقافية والاجتماعية، فالنقص، الدونية، الخنوع، الاتكالية والقصور العقلي… وباقي الخصائص العقلية والنفسية والانفعالية لمجتمعات التخلف التي ناقشها حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور، هي من إنتاج البنية البطركية المحصنة دينيا فيما يشبه التنزيل أي الوحي. ويسهم الرجل كضحية مستلبة لسطوة النظام الأبوي في غرس وتكريس تلك البنية البطركية، من خلال قهره وهدره لكيان وقيمة وكرامة المرأة، بإسقاط عليها كل القيم الذكورية الأبوية التي أشرنا إليها، بالإضافة إلى وصمها بالعورة والعيب والعار والشر…”الرجل كتعبير عن نظام التلسط في المجتمع يشكو في الحقيقة من ثمار ما صنعت يداه اجتماعيا، ومن آثار إسقاطاته اللاواعية في أن معا. وبذلك التنكر يتحرر من مسؤوليته ويتجنب تفجر القلق الشديد الذي لابد عاصف بكيانه لو لم يتهرب من عاره بهذا الشكل. تلكم هي في نظرنا أقصى حالات الغبن والاستغلال اللذان يصيبان المرأة باعتبارها أكثر العناصر قهرا في المجتمع. حيثما وجد قهر واستغلال لابد أن يصيب المرأة منهما القسط الأوفر، وحيثما وجدت الحاجة إلى حشر كائن ما في وضعية المهانة لابد أن يقع الاختيار على المرأة، ولكن الواقع أن طبيعة المرأة لا علاقة لها بهذا القهر. فالفروق البيولوجية والتشريحية بين الرجل والمرأة لا تبرر مطلقا ما فرض على كيانها من تبخيس، ولا تقدم أي سند طبيعي فعلي لما يلحق بها من غبن”. (2) وبذلك يتبين لنا أن علاقات القهر والهدر ما كان لها أن تستمر إلا من خلال البنية البطركية، كصنم سياسي يجد فيه مثلث الموت الاستبدادي العصبي الأصولي سيطرته وهيمنته، وبالتالي فإن ما تعيشه المرأة من قهر وهدر لا علاقة له بطبيعة المرأة، بل هو نتاج ذلك التلازم البنيوي الذي تحدثنا عنه. “وهكذا فنحن لسنا مطلقا بصدد كيان وخصائص بيولوجية، لسنا بصدد ما تشيع تسميته بطبيعة المرأة… إننا بصدد وضعية تفرض عليها ومكانة تعطى لها. تناط بالمرأة وظائف اجتماعية علائقية ولاواعية محددة تتلخص في ضرورة حصر المهانة وإسقاط الاضطراب على كائن معين كي يستقيم الأمر للآخرين (الرجل والمتسلط). ذلك هو لب وضعية القهر الذي تخضع له المرأة، أي تحويلها إلى أداة لخدمة أغراض المتسلط والى محط لتناقضات المجتمع”. (3) نحن إزاء نوع من التكامل أو التحالف التوافقي بين علاقات القهر والهدر والسلطة البطركية، هذا التحالف لا يستثني أيضا الرجل في القهر والهدر، إذ يحشره في وهم سلطة الذكورة كعلاقات اجتماعية مرضية، خاصة على مستوى الصحة النفسية، “وحتى دفاعات المرأة تذهب جلها في اتجاه مرضي لأنها وليدة علاقة مرضية بين الرجل والمرأة علاقة التسلط والقهر”. (4) وهي علاقات لا تحمل أية معافاة أو خصوبة وإثراء نفسي معرفي اجتماعي، مما يؤدي إلى هدر متبادل يؤثر سلبيا على مناعة الإنسان والمجتمع والوطن بمؤسساته وطاقاته. وقد يخلق- الهدر- أشكالا من الوعي الخاطئ والمضلل، مثلا حينما تسقط المرأة في النمذجة الاجتماعية الذكورية، من خلال سعيها إلى تقليد ما تعتقد أنه تحرر الرجل، وهذا ما يغيب الوعي الحقيقي بخطورة البنية البطركية التي تتجاوز “الرجل” في مفهومه البيولوجي دون إدراك اللاوعي الثقافي الاجتماعي. “المقصود باللاوعي هو ذلك المخزون الثقافي المتوارث الذي يوجه الميول والرؤى ويحدد السلوكات بشكل عفوي. انه يمثل قوة قولبة الرؤية والموقف ودافع السلوك تماما كما يفعل اللاوعي النزوي الفردي”. (5) هكذا يتبين لنا حجم الخسارة الإنسانية التي يعيشها الإنسان المقهور والمهدور سواء كان رجلا، امرأة أو طفلا. صحيح أن هناك نوع من التفاوت في عيش فقدان القيمة والكرامة والتقدير والاعتبار. والمرأة حين تستهدف ظلما وغبنا وقهرا وهدرا في إطار علاقات القهر والهدر، فإن ذلك يعني الشكل السياسي الوحيد الذي يمكن التلازم البنيوي السابق من الاستمرار والديمومة. حيث لا قهر ولا هدر إلا من خلال صنمية البنية البطركية المسيجة إلهيا بالشريعة البشرية، وبذلك يستطيع هذا الشكل السياسي المتمثل في مثلث الموت الاستبدادي العصبي الأصولي أن يكون و يأخذ صفة التنزيل غير المخلوق، “الشيء الأكيد هو أن المرأة توضع دوما في المكانة الأكثر إجحافا وقهرا وتنكرا لكيانها. ذلك هو السبيل الوحيد أمام الرجل المقهور والمستغل كي يكون”. (6) لذلك يلعب النظام الأبوي لعبته الخسيسة في دفع الرجل إلى ممارسة تسلطه وقهره المزدوج في حق المرأة، كما أنه مدفوع إلى إحكام سيطرته على المرأة، بدافع الخوف من رؤية عريه وانكشاف حقيقته التي لا أساس لها سوى التسلط البطركي. هكذا هو – الرجل – مسكون بخوف مواجهة ومجابهة تأرجحه بين واقع أنوثته التي يفرضها عليه التسلط البطركي، وهوام الذكورة والرجولة كنمذجة اجتماعية لتماهيه بالمتسلط المستبد، “إنه يخشى إذا أفلتت المرأة من سلطته أن يجد نفسه أمام امتحان عسير لذكورته التي ارتبطت لسوء حظه بالتسلط”. (7) لكن كسر هذا الترابط البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطركية لا يمكن أن يتم إلا بالتعاون الكامل بين الرجل والمرأة، ابتداء بالتغلب على ذواتهما أولا قبل خوض أي معركة مفتوحة ضد قوى تلك البنى، ممثلة في مثلث الموت الاستبدادي العصبي الأصولي. صحيح أن هناك تعثرا في الوصول إلى تحقيق مثل هذا التعاون، كضرورة نظرية وتاريخية، نتيجة الترسبات النفسية والاجتماعية والثقافية المحصنة بالأقنعة الدينية للتفكير البشري، ذي الخصائص اللاعقلية عند الإمام والولي والفقيه، وهذا ما أنتج ذلك التلازم البنيوي، كما عقد من مهام التغيير والتحرر الحقيقي الذي يحتاج إلى جرأة اكبر من قبل الرجال في مساعدة المرأة على كسب تحرر الكل الاجتماعي. “لكن كلا منهما مازال أسير قيود تكبله من الداخل وفي أساس بنيته الشخصية، وتحتاج للتخلص منها إلى مغالبة شديدة للنفس. فالمرأة تريد أن تنطلق ولكنها لا تجرؤ على طرح قضيتها جذريا. والحق يقال أن الرجل لا يشجعها على هذا الطرح الذي يضعه هو في المقام الأول موضع التساؤل، ولا بد أن يدفع به إلى إعادة النظر بوضعيته وأسلوب علاقته”. (8) وذلك هو المدخل الجريء والضروري لتحقيق علاقة إنسانية بينهما تغير بشكل ثوري البنية البطركية الأساس للقهر والهدر اللذين يمارسهما مثلث الموت. وفي التكامل والتعاون بين الرجل والمرأة تسقط العلاقات الاجتماعية القديمة المسؤولة عن واقع التخلف في البناء المادي، والبناء الثقافي الرمزي، وفي العلاقات والروابط الإنسانية بين الرجل والمرأة والطفل. “إن رقي الرجل رهن بارتقاء المرأة، تلك حقيقة تفرض نفسها على الواقع ولا مجال للمكابرة. والمرأة المقيدة تشكل قيدا صريحا أو خفيا لانطلاقة الرجل. ولا مراء أننا نستطيع أن نحدد مدى ارتقاء مجتمع ما دون خطأ كبير انطلاقا من وضعية المرأة فيه، ومدى ما بلغته من تحرر”. (9)
ربما لم نجانب الصواب حين طرحنا فرضيتنا لما سميناه التلازم البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطركية، وقد افترضنا هذا من خلال قراءتنا ليس فقط لأعمال الدكتور مصطفى حجازي بل أيضا من خلال إطلاعنا على بعض أعمال هشام شرابي إلى جانب اعتماد مشاهدات ميدانية من الواقع الحي، كجزء من التاريخ الحديث للمجتمعات العربية والإسلامية التي عجزت مشاريعها الاستقلالية والحداثية والتنويرية والنهضوية عن تحقيق التغيير المطلوب، وما تهميش إنسانية المرأة إلا تعبيرا صارخا عن عسر مخاض التغيير والتحديث والتنوير، ولتصويب المسار وتصحيح الثورات في وجه مثلث الموت الاستبدادي العصبي الأصولي، لابد من التغيير المزدوج والمركب والديناميكي إزاء البنية البطركية المسيجة إلهيا بالشريعة البشرية وإزاء بنية علاقات القهر والهذر. “لا يمكن في هذه الحالة أن يصل إنسان هذا العالم إلى التوازن النفسي والى الشخصية المعافاة والمتوازنة والغنية إلا إذا تحرر من وضعية القهر التي تفرض عليه. لا يمكن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة، و لا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبنا، فالارتقاء إما أن يكون جماعيا عاما أو هو مجرد مظاهر وأوهام”. (10) بهذا الوضوح في جدلية الحرية والتحرر من بنيات القهر والهدر والبنية البطركية الكهنوتية نفهم بان المصير واحد ومشترك، وأن ما يستهدف المرأة الإنسانة هو نفسه ما يتعرض له الرجل. صحيح أن المسالة تحتاج إلى الكثير من الوعي، لفهم أسس وآليات اشتغال ذلك التلازم البنيوي، وهذا ما حاول حجازي بجهد كبير وعميق إنتاج معرفته الذاتية المستقلة والنقدية في الآن نفسه، كما كان يطمح إلى ذلك أيضا هشام شرابي في النقد الحضاري. إن الاختزالات الأسطورية التي تتعرض لها المرأة في كيانها ووجودها وجسدها ورغباتها، وفي الأدوار والوظائف التي تغيب إنسانيتها، هي نفسها التي تفرض على الرجل من قبل مثلث الموت في مختلف الأنشطة الاجتماعية بين الفلاح والإقطاعي وبين العامل والرأسمالي …”إن القوانين التي تفرض على المرأة العفة وغيرها من القيم التي تقمع جسدها نجد لها مطابقا في القوانين التي يفرضها المتسلطون على المقهورين”. (11)
الهوامش
- محمد عابد الجابري العقل السياسي العربي المركز الثقافي العربي، ط2- س1991 ، ص33
- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي، ص 200و201
- المرجع نفسه، ص 201
- المرجع نفسه، ص 226
- مصطفى حجازي الإنسان المهدور، ص111
- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي، ص 203
- المرجع نفسه، ص208
- المرجع نفسه، ص 207
- المرجع نفسه، ص 206
- المرجع نفسه، ص226
- المرجع نفسه، ص 206