أي تطبيع نريد؟
نجيب علي العطار
لا غرابةَ أنْ يُستَنَدَ إلى عُنوانِ هذا النصِّ كدليلٍ ساطعٍ، كما الشّمس، على تأكيدِ اتّهامِ الذاتِ بـ «التطبيع» إذ أنّ إرادةَ الـ «تطبيع» جُرمٌ، والإعترافُ بالجُرمِ سيّدُ الأدلّة، على ذِمّة القانونيين. ويَرجِعُ انتفاءُ الغرابةِ هذا إلى أصلٍ طيّبٍ وفَرْعٍ خبيث حيثُ أضحَتْ كلمةُ «تطبيع» مُرادفًا للـ «خيانة العُظمى»، أو ما يَنوبُ عنها، لأنّ الطرفَيْنِ، اللّازمَيْنِ ضرورةً عن حدوثِ التّطبيع، هما «العربُ» و«إسرائيل»، وهُنا، لا بُدَّ من بعضِ الإستدراك اللُغوي، أو الإصطلاحي، إنْ جاز التعبير. وليسَ الإستدراكُ هنا لإسقاطِ التُهمةِ اللائحةِ في أُفقِ العُنوان بقَدرِ ما هو مُدخلٌ لُغويٌّ لحديثٍ سياسيٍّ حولِ الـ «تطبيع» الذي باتَ، على ألسُنِ المتنطّحينَ للـ «مُقاومَة»، أكثرَ ابتذالًا من القضيّة الفلسطينيّة نفسَها.
التطبيعُ، من حيثُ الاصطلاحِ السياسيِّ، هو جعلُ العِلاقاتِ طبيعيّةً، أو طَبَعيّةً بلسانٍ أكثرَ فصاحةً، بين طرَفَيْن بعدَ توتّرٍ ساخنٍ أو بارد. على أنّ نوعًا من التضليل المُتعمّد، أو غيرِ المُتعمّد، يَكمنُ في استعمالِ مُصطلح «التطبيع» في أدبيّات القضيّةِ الفلسطينيّة للإشارةِ إلى منْ يعترِفُ بـ «إسرائيل» «دولةً» تُشبهُ غيرَها من الدُول ويُقيمُ معها ما يلزمُ عن الإعتراف من علاقات، إذ أنّ مُنادةَ المُعترفينَ بـ «دولةِ إسرائيل» بالـ «مُطبّعين» يُخفي دلالاتٍ إثمُها على القضيّة الفلسطينيّة والمُقاومة أكبرُ من نفعِها. ولو أردنا تفكيكَ التطبيع بمعناهُ المُتعارفِ عليه اليوم لتحصّل عندَنا ما يلي من مُعادلات؛ من يعترفُ بـ «دولة إسرائيل» ويَلتزمُ معها ببروتوكولات الدبلوماسيّة تكون علاقتُه بـ «إسرائيل» علاقةً طبيعيّةً، بينما الذي يَختارُ «المُقاومةَ الشاملة» للتعامُلِ مع «إسرائيل» تكون علاقتُه بـ «إسرائيل» عِلاقةً غيرَ طبيعيّة.
إنّ طبيعةَ الكِيان الصهيونيّ من جهة، وطبيعةُ وجودِه، أو إيجادِه، في المِنطقةِ العربيّة من جِهةٍ أُخرى، تحملان معنًى للـ «تطبيع» مُخالفًا للمعنى السائدِ اليوم. إذ أنّ المُقاومةَ، بعيدًا عن شِرذِمةِ المُقاومِين، هي العلاقةُ الطبيعيّة التي يُفترضُ أن تكونَ بين العربِ و«إسرائيل»، والغيرُ طبيعيِّ هنا هو وجودُ علاقاتٍ دبلوماسيّة، وغير دبلوماسيّة، بين «إسرائيل» و«العرب»، أو المُستعرِبين أو المُستعرَبين وكِلاهُما بالفَتحِ والكسّرِ جائزان. وبالتالي، لا يحملُ مُصطلحُ «التطبيع» أيَّ معنًى إذا لم تُؤخذْ طبيعة المُطبّعين بعينَيْ الاعتبار.
بعدَ هذا التقديم، وبناءً عليه، يُمكنُ الدخولُ إلى ترسيمِ الحدود البحريّة الذي وُقّعَ بين «لبنان» و«إسرائيل». والواقعُ أنّ اتّفاقًا كهذا ليس غريبًا على أيٍّ من حُكّام لبنان الذين ينقسِمون عمومًا إلى وجهتَيْ نظرٍ مُتباينتَيْن شكلًا وتحملان النتائجَ ذاتَها. ويُمكنُ عَنونتُهما بـ؛ الوطَنْجِيّة والمُقاومجِيّة، وكِلتاهُما مُرّةٌ بقدرٍ كافٍ ليحولَ دون تفضيلِ إحداهُما على الأخرى. وممّا يثيرُ قَرَفًا سياسيًّا، إن جازَ التعبير، ويبعثُ على مِقْتِ العُنوانَيْن، ومن يُمثّلُهُما، هي حالةُ المُجونِ السياسيِّ التي ثارتْ بُعيدَ الإعلان عن اتّفاق ترسيمِ الحدود البحريّة من سِفارةِ جمهوريّة العبث بالحقوق اللبنانيّة في بعبدا. بعدَ هذا الإعلان الذي لا يُشبهُ إلّا المُعلِنَ عنه، بدأَ التيّارُ الوطَنْجِيُّ، الذي صدّعَ رؤوسَنا بالسّيادة ومُشتقّاتِها، بالتنظيرِ في عُدوانيّة «إسرائيل» وضرورةِ المُقاومةِ ومُبرّراتِها، متوسّلينَ لذلكَ أتفَهَ وسائل السياسةِ وأقذرَها، في حين أنّهم جديرون بأن يعتذروا للشعبِ اللُّبنانيّ عن سياساتِهم الرعناء التي تشاطرَتِ المسؤوليّةَ في تصييرِ لُبنانَ إلى ما صارَ إليه، ولسانُ حالِه يقول؛ لا كُنتُم ولا كانت سياديّتُكم.
وعلى جهةٍ مُقابلة لم يتردّدْ تيّار المُقاومجيّة، كعادتِه، عن تحويلِ الترسيم إلى نصرٍ إلهيٍّ، وفوق إلهيٍّ، كأنَّ «الإنتصار» في قاموسِهم هو المُرادفُ لما يفعلون، أو أنّهُم، سُبحانَهم، لا يُسألون عمّا يفعلون، كأنّهُم لا يُقالُ لهم إذا ابتُليتُم، أو ابتَلَيْتُم، بالترسيم فاستتِروا. لكنّهم، بدلًا من ذلك، راحوا يلعبون لُعبةَ الأسماء والتعريفات ليُوهموا قِطعانَهم بأنّه لا اعترافَ في الترسيم، أو أنّهم فعلًا قد رسّموا مع «فلسطين المُحتلّة» وليس مع «إسرائيل»، فيكون الترسيمُ هذا من «بركَاتِ» مُقاومتِهم، لتتحوّلَ «المُقاومةَ» بذلك إلى «مُقاولة»، وتنقلِبَ الهزيمةُ، كالعادة، وبسحرِ كاهنٍ، إلى نصرٍ لاهوتيٍّ كبير، ولسانُ حال لبنان واللّاهوتِ يقولُ؛ لا كُنتمُ ولا كانت مُقاومتُكم.
وتنالُ التصريحاتُ الرسميّةُ للدولةِ اللبنانيّةِ النصيبَ الأكبرَ من المهزَلةِ التي تُقامُ في لبنان. فمِن قُدرتِنا المزعومةِ على منعِ «إسرائيل» من التنقيبِ عن الغاز إنْ هي منعتْنا، إلى تقديم ميشال عون للترسيم على أنّه «هديّتُه للّبنانيين قبلَ أن يُغادر»، تُمارسُ الدولةُ اللبنانيّةُ، مُمثّلةً بما يُمثّلُها، استغباءً واستحمارًا، على قولِ علي شريعتي، للشعبِ اللّبنانيّ وتُوجِّه إليه اتّهامًا صارخًا في صحّتِه العقليّة. وما يقولُ لسانُ اللّبنانيينَ الأصِحّاء إلّا؛ لا كُنتَ ولا كانتْ هَداياكَ يا صاحبَ الفخامة.