حالة الاستثناء في سورية (3-3)
لحسن أوزين
خامسا: الأسدية بوصفها حياة عارية
” التحول الجذري للسياسة إلى فضاء للحياة العارية (أي إلى المعتقل) هو بالتحديد الذي شرع للهيمنة وجعلها شاملة”. [1]
” المعتقلات لا تنشأ من القانون العادي، إنما من حالة الاستثناء، ومن قانون الأحكام العرفية” [2]
حالة الاستثناء التي فرضها النظام الأسدي، الشمولي بالمعنى الذي تناولته حنة أرنت، نزل بحياة الناس الى مستوى ما دون البشر. وهي حياة عارية انحدر فيها الناس في وجودهم الإنساني الى المستوى النباتي، بحثا عن لقمة العيش في ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية مفعمة بالمذلة والقهر، والتصفية الوجودية والسياسية، من خلال معتقلات رهيبة تتفاوت في القهر، والتعذيب والموت( تذمر، صيدانيا…). لكن يجمعها الإلغاء الرمزي والوجودي للشعب. وهذا الواقع السياسي الرهيب صار بإمكان الأدب تمثيله وتشخيصه، خاصة من خلال تجارب وشهادات لمجموعة من المعتقلين السياسيين. التي أخذت الشكل الفني الأدبي للسيرة، والرواية.
صار من الواضح بالنسبة للمشتغلين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، مدى قوة الادب وقدرته على سبر أغوار التاريخ المنسي. وتأسيس معطيات وضعية أقرب الى الملفات الميدانية، التي يمكن أن تقدم خدمة جليلة في مجال البحث العلمي السوسيولوجي والانثربولوجي. لذلك يكتشف قارئ أدب السجون السوري، عبر التوسط الجمالي الادبي عمق كفاية الادب، وقدرته الساحرة فنيا على تسليط الأضواء على السيرورات التاريخية المغيبة والمهمشة، في تاريخ البلاطات والعائلات والحروب. تاريخ القهر المنتصر الذي اعتلى منصة الوعي التاريخي، مخلفا وراءه حقائق مذهلة، ووقائع وأحداث، وسيرورات طمست وأقبرت. وصارت جزءا من التاريخ المجهول، المسكوت عنه، في تاريخية التناقض المجتمعي، وما يفرزه من توترات ومنعطفات وصراعات وتغيرات سوسيولوجية. وما ينتج عنها من تحولات اجتماعية.
هكذا يتبين للقارئ وهو يتصفح هذه الروايات بهدوء وتفكير عميق في القراءة والبلورة لفرضيات التأويل، مدى الإمكانات الفنية والمعنوية، الأدبية والفكرية التي تمتلكها الرواية، وهي تقوم ببناء سردية الانسان المقهور، في علاقتها بالتشكل التاريخي الاجتماعي لما يسميه ابن خلدون التغلب والاستبداد القهري. وهذا ما سنتناول من خلال رواية ” القوقعة” للكاتب والمعتقل السياسي مصطفى خليفة. إنها رواية تكشف رعب الحياة العارية في المعتقلات الأسدية. وهي رواية بقدر ما تحمله من جمالية أدبية، فاستطاعت تعرية طبيعة النظام السياسي الأقرب الى النظام النازي الذي يرى في خصومه ومعارضيه مجرد قمل بشري، أو جراثيم بلغة الطاغية في إصراره على إبادة الشعب. حدث هذا تبعا لمضامين قانون حالة الطوارئ الذي تحول الى قاعدة ونموذج حكم دائم.
“صاحب السيادة هو الذي يقرر حالة الاستثناء فقد كانت له دائما سلطة تقرير أية حياة يمكن انتزاعها دون أن تكون ثمة جريمة قتل”. [3]
فالقهر والقتل ومختلف أشكال العنف الرمزيّ والدّموي، إلى جانب القسوة والخنوع والخضوع والذّل والمهانة وكلّ ما يندرج في الحقل الدلاليّ والثقافيّ السّياسيّ للعبوديّة والاسترقاق، المرتبطان بالاستبداد والتّغلب القهريّ والطّغيان السّياسيّ والدينيّ للبلاطات والعائلات الحاكمة في تاريخيّة مجتمعاتنا هو ما يشكّل البنى التّحتيّة والطّبقات العميقة للفراغات والأخاديد الّتي تملأ جوف القوقعة في صمت أقرب إلى الخرس. ففي النّص كمّ هائل من الآلام والمعاناة ومختلف أشكال القهر والتّعذيب الوحشيّ إلى حدّ القتل، وسلخ إنسانيّة الإنسان وتحطيمه كشيء تافه. وهدر حياة المئات، بل الآلاف من خلال التّعذيب، والتّحكم في الآخرين بما يتجاوز منطق التّملك والعبوديّة السّياسيّة والدينيّة في السّيطرة على الأجساد والقلوب، إلى التّحكم في الأرواح، بما يشبه القوّة الجبّارة الّتي ليس كمثلها شيء في تدبير شؤون الكون والعباد: في الرّزق والتّجويع، في الموت والحياة، في الإيمان والكفر، في الرّحمة والتّوبة والتّعذيب، في الإبعاد والقرب، في الولاء والبراء…
إنّنا إزاء التّجلي السّرديّ لتجربة رهيبة في تشكّل مجتمعاتنا حيث تضافر فيها التّكامل القهري الاستبدادي بين سيّد السّماوات وسيّد الأرض، وكانت هيبة كلّ واحد منهما في خدمة الآخر، ممّا جعل الحاكم فوق المجتمعات والتّاريخ البشريّ معلنا أسماءه الحسنى في الأبد والخلود والمُلك، وفي القهار الجبّار. وهو يتحكّم في أعمار النّاس إلى درجة يمكن لزبانيته تصفية ثلاثة إخوة دفعة واحدة لأب طاعن في السّن لم يكن يملك غير ألم الصّراخ.” يا ربّ.. يا ربّ العالمين، أنا قضيت عمري كلو صايم مصلّي وعم أعبدك، يا ربّ أنا ما بدي أكفر.. حاشا الله واستغفر الله العظيم.. بس بدي أسأل سؤال واحد: ليش هيك؟.. وبصوت عالي أقرب إلى الصّراخ وهو يلتفت إلى النّاس.. ولك ليش هيك؟؟ يا ربّ العالمين.. ليش هيك؟؟ أنت القوي.. أنت الجبّار.. ليش عم تترك ها الظّالمين يفظعوا فينا.. ليش؟…أنت ربّ العالمين.. معنا نحن وإلا مع ها الظّالمين؟ لحد الآن كلّ شيء يقول…إنّك معهم ..مع الظّالمين”. [4]
هكذا تفتح القوقعة هذا الجحيم المسكوت عنه في ولادة ليس الاستبداد فحسب، وإنّما الطّاغية في مجتمعاتنا كإله اعتلى السّدة العالية للحكم ”تبارك الّذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير” وهو يلعب لعبته الخطيرة في التّحكم في الحياة والموت: فالمرء مهدّد في أمنه وأمانه، وفي حياته في أي لحظة وذلك حسب مزاج الطّاغية ونواياه، أو وفق ما تراه زبانيته وشبّيحته انطلاقا من ثقافة الولاء وعشق القرب العبوديّ من الطّاغية.” كان في السّجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطّت طائرات الهيليوكوبتر محمّلة بالجنود الّذين يقودهم شقيق الرّئيس، مدجّجين بالأسئلة، نزلوا من الطّائرات في ساحة السّجن، دخلوا على السّجناء في مهاجعهم وبالرّشاشات حصدوهم حصدا، جمعوا قسما منهم في السّاحات وقضوا عليهم جميعا.”[5] كانت الاعدامات بالجملة، والتّعذيب أيضا كان يتمّ بالجملة إلى درجة التّحكم في الجسد والفكر والرّوح والكلام…كما لو أنّنا في مطبخ الألوهة لعمليّة التّحطيم والتّدمير والإبادة للمتمرّدين ” الكفرة”، أو الخلق من جديد. هكذا يتمثّل المجتمع تجربة الاختطاف والاخفاء والتّغييب القسريّ للأفراد والجماعات في السّجون السّريّة والعلنيّة. وتبعا لهذه المعاني يسعى عنف السّلطة الغاشمة إلى تشكيل وجدان وفكر وخيال النّاس والسّجين تجاه نفسه وهو يقيم “حريّته” خارج السّجن: الدّاخل مفقود والخارج مولود. “إذا كان للاستبداد أكثر من مستوى ولون وممارسة ضمن الخطوط الحمر للسّلطة، فإنّ الطّغيان على العكس من ذلك هو نقيض هذه اللّعبة. إنّه السّلطة المحضة ليس على مستوى الحكم والسّياسة وحدهما، بل على مستوى المجتمع ذاته. الطّاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسّسات وهيئات وناس. إنّه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه قوّته، وسطوته تتغذّى من عمليّة الالتهام المستمرّة هذه حتّى ليصبح هو البلد والبلد هو…هم الطّغيان الاول ليس ردع خصومه، بل تدميرهم وإفناءهم. إنّه لا يكتفي إذا بالسّيطرة على النّاس من الخارج، بل يريد السّيطرة عليهم من الدّاخل، من داخل ذواتهم على مستوى السّلوك والفكر والإرادة وحتّى الوعي والكيان.”[6] هذا ما تجسّده وتشخّصه وتبني سيرورة تدليله بوقع جمالي رائع حركة السّرد دون أيّة إضافات في تأكيد عري الفرد المهدّد بموت غير مشروط في أيّة لحظة، إنّنا أمام حركة سرد حاف في حالة طوارئ قصوى تحسبا للحضور الوشيك للموت، من طرف السّجان/ السّيد الصّغير.
“صاحب السيادة يتماهى مع الإله لأنه يشغل في الدولة المكانة عينها التي يشغلها الإله في العالم “. [7]
في الطّبقات الرّهيبة والمروّعة للقوقعة تتقاطع العلاقة بالسّلطة، في عنفها المرعب وقسوتها الجنونيّة في تحطيم الفرد، بالعلاقة مع الإله في جبروته وسلطان عظمة قوّته في النّيل من العصاة والكفّار والمشكوك في صدق عبوديتهم المفعمة بالذّل والمهانة. لا قدسيّة للحياة، فالموت هو سيّد الموقف في كلّ العلاقات حيث يخيّم باستمرار خارج السّجن وداخله بشكل مكثّف رهيب، إنّها علاقة مشحونة بالموت، حيث الشّبيحة أو الزّبانيّة من جنود وبلديات وشرطة تشتغل ليل نهار، وتجري على قدم وساق وهي تحصي حركات وسكنات المعتقلين في داخل السّجن وخارجه في شكل باذخ لتماهي حاكم الأبد بالإله الذّي يتأسّس معنى خلوده في حكمه من خلال فناء النّاس، أي إبادتهم. لهذا كانت سطوة رعب الموت حاضرة في القوقعة بشكل مخيف ومفزع كشعور بالنّهاية الوشيكة الّتي تترصّد غفلة السّجين في حركاته وسكناته، وفي أبسط أشكال تواصله اللّفظيّ والجسديّ. وهذا ما يولّد في اللاّوعي نوعا من الخرس والخشوع الأقرب إلى الهروب في الذّات لحمايتها من التّهديد المحدق من خلال توسّط رمزي جسدي روحاني أخذ شكل القوقعة كتمثّل سردي لتجربة الموت في حضورها الطّاغي بهدف فرض الطّاعة والخضوع. هذا الحضور الجنوني والدّائم للموت في التّعذيب والاعدامات والمرض والتّجويع…، تؤسّس السّلطة من خلاله لوجودها كدليل على القوّة المطلقة الّتي لا تقهر. وفي سياق هذا الرّعب نفهم بشاعة العنف الّتي تميز العلاقة بين السّجين والسّجان الّذي يضطرّ هو الآخر مكرها وفق أساليب وحشيّة إلى التّماهي بالمعتدي والتّعلم الاجتماعيّ بين السّجان القديم والجديد الّذي سرعان ما يتخلّى عن إنسانيته وتقزّزه وغثيانه بسبب الفزع من وحشية الاعدامات شنقا، ليس للأفراد فقط، بل للقيمة الانسانيّة الّتي تسلخ منهم” وتخيّلت أن عناصر الشّرطة العسكريّة، هؤلاء الّذين أراهم أمامي، ذوو وجوه مسلوخة، أيّة قوّة سلخت هذه الوجوه؟…كيف سلخت؟…لماذا؟…أين؟…لست أدري لكن ما أراه أنّ الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا…مسحة غير بشريّة…غير مرئيّة، صحيح، ولكنّها قطعا موجودة. “[8] الشّيء الوحيد الّذي ينمو في حركة السّرد العاري من أي توسّط رمزي للعلاقة بين السّجين والسّجان هو هلع الحضور القويّ والمكثّف للموت، أي قدرة السّلطة على منح الموت، دون أن تخشى لومة لائم في قتل المنبوذ، أو الانسان المستباح في هذه الحياة السّجنيّة العارية من بُعد الاعتداء والظّلم والجريمة. هكذا تفجّر القوقعة صورا ذهنيّة لتراكم في الذّاكرة حول السّيرورة التّاريخيّة لجنون السّلطة من الخليفة، ظلّ الله في أرضه، وصولا إلى حاكم الأبد، حيث الموت طقس يومي،” فقد يأتي الأمر بالموت علنا في غفلة من الحاضرين، والنّطع أو السّيف يرافقان الكلام الّذي لا نقاش فيه. والنّطع فراش من الجلد تقطع فوقه رؤوس من أمر بإعدامهم بحيث تقطع الرّؤوس لتوّها دونما مهلة، ودون أن يمكن لأي كان، من الحاضرين، الاعتراض على ذلك. يظلّ الخليفة في كلّ الظّروف” القايل” ذي القول النّافذ سواء كان في كامل وعيه وإدراكه، أو كان ثملا أشدّ الثّمالة يأمر بالموت أو بالحفاظ على الحياة. فقد شعر عبد الملك بن مروان في حضرة رجل عرض عليه، فاشتهى قتله لما رأى من جسمه وهيئته، وقد يكون بسبب الاشمئزاز منه، أو بسبب الاحساس بالقدرة على القضاء عليه”. [9]
تخبرنا القوقعة بعدد هائل من المحاكمات الصّوريّة والعبثيّة وهي تُشرعن قتل الانسان من خلال الاعدامات شنقا بطريقة مروّعة ومؤلمة، كما لو أنّها الشّكل الغذائي لخلود سلطة الطّاغية، واستمرار سلطته وسطوته وتغلّبه القهريّ على النّاس وهو يرفع شعار الأبد في وجه الخصوم والمنافسين. وكأنّ متخيّل الكتابة في سيرورة القراءة الحيّة يمتصّ هذا التّاريخ الموبوء في ارتكاز الحكم في تاريخ مجتمعاتنا على الموت، أو في السّعي إلى السّلطة من خلال الموت، بأسماء برّاقة مخادعة للنّاس بين الشّهيد والمجاهد، والثّوري…، فالوقائع التّاريخيّة لاتزال تقطّر بدماء الأبرياء، والحكايات الكبيرة في هذا التّقاطع بين نصّ القوقعة والقراءة الموجّهة من خلال السّجل الثّقافيّ الخاصّ بتجربة التّسلط والحكم التّاريخيّة كثيرة ومؤلمة في استعباد الرّعيّة وقتل الخصوم، والفتك بسبب أو دون سبب لزرع الخوف والرّعب، وفقا للنّص ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) . فذاكرة السّجل الثقافي للقراءة تستحضر بألم ممارسة خلفائنا العظماء الأشاوس للعبة الموت بمختلف الأشكال من التّعذيب والإعدام وعرض الجثث، وتقرير ساعة الوفاة…، وهم يعبّرون عن قوّتهم في الانفراد بالامتياز الإلهي في منح الموت أو تأجيله، أو منح الحياة، وفتح باب التّوبة والعفو والمغفرة. ” فتهديد المرء في حياته، ثمّ إعطاؤه هذه الحياة من جديد، هو بمثابة إعادة خلق: فكأنّ الأمر يتعلّق، هنا، بنقل السّلطة بين السّماء والأرض. [10]
والقوقعة شاهدة على الكثير من الحالات في القتل تحت التّعذيب، ليس قصد انتزاع اعترافات مّا، بل بهدف القتل السّاديّ والوحشيّ، حيث تجتمع الشّبيحة على السّجين كالكلاب الضّارية وهي تتلذّذ بالقسوة وبثّ الرّعب والألم والعذاب في الضحيّة وتحطيمه نفسيا وروحيا قبل الإجهاز عليه بشكل عدواني، أو من خلال ضرب السّجين الأعزل على الرّأس بشكل مفاجئ ممزوج بغدر التّوحش. ثمّ هناك حالات إنسانيّة كتبت بدمها طلب العفو والرّحمة بصورة فيها الكثير من الخنوع والقهر والذّل، ومع ذلك تركت بين مخالب الموت وعذابات الانتظار الّذي غالبا ما ينتهي بالشّنق، كما حدث بالنّسبة لشخص مرّ على اعتقاله سنوات دون أن يثبت في حقّه الجرم المشهود، لكن في يوم مفاجئ تمّ اعدامه. وفي هذا ما يناظر القدرة الإلهيّة في التّحكم في مصائر النّاس” ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن أتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت” هكذا هو الطّاغية العربي أبا عن جدّ.
بناء على هذه المعرفة والأفكار كانت تتكوّن وتطوّر سيرورة القراءة، في حرقة أسئلتها القلقة حول الأساس والخلفيّة العميقة الجذور، والأسس الّتي كانت تشرعن وتبرّر بناء طغيان الحكم من خلال إفناء وإبادة النّاس. بمعنى كيف أمكن للإبادة أن تكون إحدى الأدوات والآليات الرّهيبة في استمرار الحكم ومعاودة إنتاجه دون حاجة إلى الآليات الإيديولوجيّة والسّياسيّة؟ وانطلاقا من أيّة بنيات ثقافيّة اجتماعيّة سياسيّة انتقل الحاكم من مستوى الزّعيم والسّيد إلى مستوى القائد الخالد المفدّى وهو يسطو على امتياز إلهي، في التّحكم في مصائر النّاس من خلال قرار الإماتة” وهي صفة أساسيّة من صفات الألوهيّة باتت صفة له، وبذلك صارت الأرض والسّماء تلتقيان في شخصه”. [11]
هكذا كانت القوقعة تدقّ أجراس خطورة العنف الوحشي الّذي كانت سيرورة تكوّنه وتطوّره تلتهم كلّ شيء وهي تنشر التّصحر في كلّ ما كانت تطاله يد المطبخ الرّهيب للألوهة الأسديّة المستحدثة، وهي تعيد الإنسان إلى عهده الأوّل العاري قبل أي توسّط رمزي لغوي أو إيمائي، إلى نوع من العراء والعري من كلّ قواعد القانون الأخلاقي، والتّواصل البشريّ الانسانيّ، في صورة أقرب إلى الإلغاء أو الموت الرّمزي خارج أي دلالة، أو تفاعل، أو علاقات مجتمعيّة طبيعيّة تعبّر عن حدّ أدنى من الحسّ الأخلاقيّ الانسانيّ، وخارج زمنيّة الشّرط البشريّ.” أمشي في الرّتل الدّائر حول السّاحة، منكّس الرّأس، مغمض العينين، ممسكا مطاط بيجاما من يتقدّمني، يجرّني خلفه…أتساءل أحيانا: أي كائن أنا؟ هل أنا إنسان؟ حيوان؟ شيء؟” [12] إنّها عذابات قلق الأجل والنّهاية المحتومة على يد سلطة اعتلت عرش السّماء، دون أن يرفّ لها جفن الشّعور الإنساني، وهي ممعنة في إفناء النّاس وحرق البلد، حيث لا يمكنها أن تكون وتضمن شروط ديمومتها، وتأبيد وجودها إلّا من خلال الإبادة وتدمير شروط حياة مجتمعيّة ينال فيها الإنسان التّقدير والاعتراف. هكذا قتل النّاس صبرا في السّجون، حيث تمّ الاحتفاظ بهم في انتظار القضاء عليهم. واللّفظ – الصّبر – يعني في الأصل السّجن حتّى الموت، ”وتنقل الأخبار أنّ إحصاء للمقتولين صبرا تحت حكم الحجاج بلغ مائة ألف قتيل”. [13]
سادسا : جدلية الثورة وسياسة الموت الأسدية
مع ثورة الشعب يتأكد لنا بأن الواقع الفظيع الذي قام أدب السجون السوري، كسير ذاتية وروايات بتمثيله وتشخيصه، هو أدب فاض فيه الواقع على الخيال وغطى عليه. هذا يعني أن من لم يكن يعرف أو يصدق ما في نصوص هذه المحن والتجارب المرعبة، من فظاعات، فإنه أمام سياسات الموت الجماعي (البراميل والكيماوي…) التي لجأ إليها النظام، في حق شعبه، الذي طالب سلميا بالحرية والعدالة والكرامة، يتأكد له أننا إزاء حالة الاستثناء للسلطة السيادية المعنية بالتهديد والتدمير والقتل. وتكريس الحياة العارية للإنسان المستباح. إنها سلطة صاحب السيادة، البعيدة عن السياسات الحيوية كما طرحها ميشيل فوكو.
” يستخدم فوكو فكرة البيولوجيا السياسية لتأكيد القدرة الإنتاجية للسلطة التي لا يمكن اختزالها في السيادة القديمة لحق الموت. في حين أن السيادة تعمل أساسا كآلية إذعان استولت على الحياة من أجل قمعها. إلا أن السلطة الجديدة المكرسة للحياة تعمل على تعزيز وتحقيق الاستفادة المثلى من القوى الخاضعة لسيطرتها. ووفقا لفوكو فإن تأسيس البيولوجيا السياسية كان خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، على أساس أنها تمثل سلطة تميل الى إنتاج القوى وجعلها تنمو، والاهتمام بالتحكم فيها، بدلا من إعاقتها وإخضاعها أو تدميرها كما حدث مع نموذج السيادة”. [14]
سياسة الموت الأسدية سلخت عن السوري قيمته الإنسانية. وحولته الى إنسان مستباح في نمط من الحياة العارية التي مارسها النظام الأسدي في تاريخ سورية الحديث والمعاصر، منذ إعلانه قانون حالة الطوارئ، التي جعلت الحاكم المستبد العرفي طاغية، في وضع مفارق خارج القانون وداخله في الوقت نفسه. واضعا الشعب خارج القانون، عار من أية حماية أخلاقية أو دينية. لذلك لم يكن النظام معنيا بحماية الحياة وإنتاج السكان، كأجساد في آلة الإنتاج. بقدر ما كان معنيا كنظام شمولي بسياسات رفض الحياة، وتكريس حالة الاستثناء، المنتجة للموات الأبدي. وهذا ما جسدته عملية التطهير الديمغرافي والدفع بالناس الى التهجير القسري لفئات عريضة من الشعب، نحو الدول المجاورة والأوربية.
حالة الاستثناء التي يقدمها الانسان السوري المستباح، في علاقته بالعنف السياسي والأمني والعسكري الدموي، تمتد في عنفها الهمجي، وتطاردهم كلاجئين سوريين عراة من أية حماية قانونية سياسية.
وأدت الأهداف الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية، بالمحيط الدولي، بدوله ” الديمقراطية”، والإقليمي بدوله الاستبدادية والمحكومة هي أيضا بحالة الاستثناء، إلى إنتاج أوضاع غارقة ومتجذرة، كمشاريع وجودية سياسية، في حالة الاستثناء المعكوس من قبل تماهي الضحية بسياسات الموت والقهر الأسدي. وجسدت هذه الحالة التيارات الدينية المسلحة، في قهرها للشعب الذي انتفض ضد حالة الاستثناء الأسدية. لقد تورطت في إعادة إنتاج سياسة الجلاد خدمة له، وخدمة للمصالح والأجندة الإقليمية والأوربية.
هكذا هي المسارات المرعبة التي كان النظام يحاول زج الثورة في مستنقعاتها، وهو يعتمد على أسسه السياسية و منطلقاته اللاوطنية، القريبة من التفكير السياسي الكولونيالي، في تفجير الإطار الوطني للشعب السوري، من خلال تفخيخ تنوعه وتعدده، هدما لوحدة البلد والشعب التي تهدد بقاءه، كاحتلال محلي بسياسة وعقلية وآليات صهيونية في التمركز والانتشار. في ظل حالة الاستثناء الدموية، صار وضع حالة الطبيعة للحياة العارية، يتهدد أكثر الثورة في سلميتها، وسقوطها في لعبة السلاح مكرهة في الدفاع عن حق البقاء والحياة، حسب شروطها الأمنية و النفسية والاجتماعية والتنظيمية والسياسية… بالموازاة مع العوامل الإقليمية والدولية، التي كانت تريد نجاح هذا الأفق الحربي التدميري للبلد والثورة والشعب. وذلك تبعا لمصالحها الخاصة وأهدافها السياسية والجيوإستراتيجية.
في ظل هذه المعطيات التي لم تكن في صالح الثورة لعب النظام لعبته القذرة التي هيأ، منذ سطوه على السلطة، تربتها العفنة والملوثة بالطائفية السياسية، والتخويف للكثير من المكونات الطبقية والثقافية والسوسيولوجية، جاعلا من التنوع والتعدد سلاحا للتدمير الذاتي للإطار الوطني الذي حاولت الثورة في مرحلتها الأولى تحصينه وحمايته من الشقوق والشروخ والانكسار. لكن رعب العنف المروع، وسياسة الحياة العارية، في القتل بمختلف الأسلحة التقليدية والكيماوية التي نهجها النظام بمباركة المجتمع الدولي، أدى الى تشويه منطلقات وأهداف الثورة الوطنية، كحلم جامع لكل السوريين في وحدتهم وتقرير مستقبلهم التحرري الديمقراطي.” بقدر ما يستحكم منطق الكفاف والبقاء، ستبدو المقتضيات الأكثر تجريدا للديمقراطية والوطنية كماليات وإفراطا في التطلب. وبينما كانت الثورة تتعرف في البداية بأهدافها العامة، فإنها تكاد تتعرف اليوم أكثر بالعملية الصراعية المستميتة التي تخوضها في مواجهة نظام متوحش. “[15] الشيء الذي أنتج ظاهرة السلاح والعسكرة المشحونة بالمعاني الطائفية والمذهبية، التي استفاد منها النظام كدعم إقليمي من العصابات الشيعية من ايران والعراق وحزب الله اللبناني. وبالموازاة مع الأفق العدمي للنظام وحلفائه، برزت التنظيمات الدينية العدمية للإرهاب الديني التي كانت تخدم أجندة بعيدة كليا عن طموحات وتطلعات ثورة الشعب السوري. ثم أخيرا جاء التدخل الامبريالي ليحارب سلعته الإرهابية، متجاهلا حقيقة المستنقع العدمي العطن للفاشية الأسدية. كمصدر أصلي لكل العدميات الحاملة للأقنعة الدينية والاثنية والمذهبية. وهذا المصدر في حقيقته السياسية إرهاب صريح، في حق شعب أعزل سمح المجتمع الدولي بكل مؤسساته لهذا النظام بارتكاب الكثير من الجرائم ضد الإنسانية. والأكثر من ذلك تضافرت الجهود الإقليمية والدولية على طي صفحة الثورة، وعلى مساعدة الدولة الأسدية على معاودة إنتاج حالة الاستثناء نفسها التي ثار ضدها الشعب. بما يدل على أن حالة الاستثناء في سوريا وكل بلدان المنطقة، هي تعبير صريح على الوجه الكولونيالي الدموي للديمقراطية الغربية.
إن ما يحدث في المنطقة، من حروب ودمار وتشرذم طائفي اثني مذهبي، يعري ما تتستر عليه الديمقراطية الغربية في بلدانها من توحش نيوليبرالي، تحت غطاء سياسي إعلامي خطير وضع العالم على فوهة بركان. ” وبنظرة واسعة، يبدو أن المسألة السورية تخبرنا بأننا اليوم حيال أزمة عالمية، عالم يتحكم فيه الأقوياء أكثر من أي وقت سبق منذ قرن على الأقل، وكل يوم يزيد هذا العالم تعقيدا وقتامة، ويفقد الوجهة، وتضمر الممكنات التحررية والديمقراطية فيه”. [16]