المعنَى الثَّقافيّ لاتِّحاد كُتّاب المغرب
صلاح بوسريف
في ما كتبناه عن اتحاد كتاب المغرب، وما عاشه من أزمات، هي من طبيعة مؤسسات من هذا النوع، أعني، مؤسسات يكون فيها التنوُّع والتعدد، بل الاختلاف والخلاف الفكريين باديين عليها، أو على طبيعتها، ما شغَلَنا هو المعنى الثَّقافيّ للاتحاد، رغم ما يمكن أن يكون فيه من اختلاف أو خلاف. لا شيء يجري خارج هذا المعنى، كون الاتحاد جمعية أو مؤسسة ثقافية بالدرجة الأولى، وقوانينها المنظمة لها، هي قوانين تشرط وجودها بهذا المعنى وتؤكد عليه، لا على السياسي، الذي هو حاضر، لكن بما كان يجري من توافقات بين الفرقاء السياسيين، لأن الاتحاد، لم يعلن بوضوح أو جهراً، ولم يكن ذلك ممكناً، أنه تابع لحزب ما، أو لفصيل من فصائل اليسار، أو حتَّى إلى اليمين، أو غيرها من الانتماءات. السياسة كانت داخل الاتحاد، تعبيراً عن موقف تُجاه قضايا سياسية واجتماعية، كانت، في أغلبها تميل إلى نقد اختيارات الدولة، وتوجُّهاتها الاقتصادية والاجتماعية، لكن من زاوية ثقافية، أو بلسان المثقف لا السياسي.
المُفارقة المثيرة، هنا، هي أنَّ البلاغات والبيانات التي كانت تصدر عن الاتحاد، إبَّان أيام المواجهات السياسية المحتدمة مع الدولة، كانت كلها تُكْتَب بنفس لغة السياسة، ولم تكن تحرص أن تخرج من المعنى السياسي، الذي هو شرط من شروط الثقافة، لا من السياسة، بالتمييز الذي أكَّدْنا عليه في أكثر من مقالة، وفي بعض ما أصدرناه من كتب تنتقد الثقافة والمثقفين، وهذا وضع يسري على المثقفين في العالم العربي، لا في المغرب وحده، رغم أنَّ اتحاد كتاب المغرب، آنذاك، ومعه اتحاد الكتاب اللبناني، كان بين الاتحادات المستقلة التي لا تتكلم بلسان الدولة، لكن في المغرب، بديل الدولة كان هو الحزب.
التأكيد على المعنى الثقافي، لا يعني الابتعاد عن السياسة في سياقها السياسي، الذي هو من مهام الثقافة، بل إنَّ المثقف، يكون، بهذا المعنى، هو من يوجه السياسي، هو من يُضيء له الطريق، هو من يصوغ له المفاهيم والتصورات، ويفتح له الطُّرُق، هو من يقرأ له التاريخ، وهو من يكشف له عن الأعطاب، ويكشف عن البنيات التي تستحكم في الوعي العام، في علاقته بالسلطة، أو في علاقة السلطة به، وهو من يكون الطليعة، وليس من يتبع الحزب، أو النقابة، أو يكون آخر من يتكلم، بل هو أول من يتكلَّم.
من يعد إلى أحزاب اليسار في المغرب، وفي العالم العربي، فهي كانت، في وقت ما قوية، ومؤثرة، وذات حضور قوي بين «الجماهير»، ليس بفضل السياسيين، بل بفضل المثقفين، من خاضوا في السياسة، وكانوا جزءاً من برامجها. وتصوُّراتها، وجزءاً من الآفاق والذُّرَى التي كانت تتطلَّع إليها، وما تُراهن عليه من ثورة ومن تغيير جذري. كان المثقفون، هم المنظرون، وهم من يصوغون التقارير الفكرية أو الأيديولوجية للأحزاب، وهم من كانوا يقترحون البرامج والأفكار، ولم يكونوا مُبَرِّرِين، أو من يأتون بعد انتهاء خطابات الزعماء لتفسيرها والنفخ فيها، أو تمطيطها.
لم يلعب الاتحاد هذا الدور، ولم يع هذا الدور، أو هو، بالأحرى، أُجْبِر سياسياً أن يتخلَّى عنه. يمكن أن نعتبر المرحلة آنذاك كانت صعبةً، لكن، مهما كانت الصعوبة، كان على الحزب، أن لا ينزع من المثقف دوره، أو يتخلَّى المثقف عن دوره، وعن استقلاليته، وأن يخلق المسافة الكافية للتضامن، تكون إضافة، وتنويعاً، وخطاباً، بل فكراَ، بقدر ما يدعم الحزب، يحمي نفسه من الانهيار. لذلك كان سقوط هذا من ذاك، أو مثلما يحدث في لعبة الدومينو، التي ما إن يسقط الواحد منها، حتى يتهاوى الجدار كاملاً، لأن لا واحد من حجارة البناء، كان قائماً على أساس يختلف عن أساسات الآخرين.
هذا ما أعتبره المعنى الثقافي للاتحاد، وهو معنى كان ينبغي أن يقوم على سياسة ثقافية تخرج من الاتحاد، ويُناضل الاتحاد لفرضها كاختيار على الدولة، لا على حكومة ما تذهب ثم يذهب معها كل شئ، وأن تصبح هذه السياسة اختياراً يهم أمة ووطناً، فيها ثوابت لا تُمسّ، وفيها متغيِّرات، تفرضها التحوُّلات، وما يجري به النهر من ماء. لم يحدث هذا، وبقي الاتحاد يعمل، باعتباره بديلاً ثقافياً، وحين دخل براثين السلطة، لم يستطع، لا أن يكون له من يمثله في البرلمان، ولا أن يقترح سياسة ثقافية على الدولة، حتَّى ما اقترحه في لحظات الفراغ الثقافي والتنظيميّ، من أفكار حول «مشروع التنمية الجديد»، لم يلتفت إليها أحد.
بأي معنى، إذن، يمكن أن يوجد اتحاد كتاب المغرب؟ المؤتمر، ليس هو الحل، ذهاب رئيس ومجئ آخر، ليس حلا، الحل، هو أن يُعاد النظر، بشكل جذري، هنا والآن، في معنى ومفهوم الاتحاد، وفي وجوده وما بُنِيَ عليه من كيان، وأن يكون النقاش فيه مفتوحاً حول كل شيء ومع الجميع، المثقف من يتكلم، لا من يقف خلفه، سواء أكان دولة أو حزباً، أو غيرهما ممن ليسوا جزءاً من هذا الكيان، بالمعنى الذي يجعل المثقف راشداً، لا يحتاج إلى من ينوب عنه في الكلام، أو من يتكلم بلسانه، ويُمْلِي عليه البرامج والاختيارات.
Visited 1 times, 1 visit(s) today