جوناس دورليون وكتاب “مهنة الملك”
عزالدين العلام
في تقديمه لكتاب “مهنة الملك” لجوناس دورليان (760- 841م) (Le métier de roi / Introduction, texte, critique, traduction, notes et index par Alain Dubreucq. CERF 1995) يلاحظ “ألان دوبروك” أنّ الباحثين يصنّفون هذا الكتاب في دائرة “مرايا الأمراء”Les miroirs des princes (ص 56). وهي كتابات، موضوعها الأساس، كما هو موضوع نصائح الملوك الإسلامية، يتمثّل في بسط مجموعة من النصائح الأخلاقية – السياسية بهدف حُسن تدبير المملكة أو الإمارة. فالسؤال الرئيس الذي تسعى للجواب عنه هو: “كيف يجب على الملك أن يحكم، ذلك أنّ الحكم أصبح، مثله مثل أيّ مهنة، فنّا تضبطه قواعد، ويقتضي مجموعة من المبادئ والطرق. وبالتالي كان على الملك أن يخضع لتربية خاصة ليمتلك مهارة الحكم” (Myriam Chopin-Pagotto: « La prudence dans les miroirs du prince » Chroniques italiennes p 88 N 60 (4/ 1999) وهذا ما يدلّ عليه عنوان “تربية الملوك” الذي اختاره جوناس لتأليفه، (وقد تُرجم إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان Le métier de roi).
أخلاقيات
إنّ إطلالة سريعة على فهارس هذه الأدبيات المسيحية تبرز لنا فعلا الحضور الطاغي للهاجس الأخلاقي. فمن بين 17 فصلا التي يتكوّن منها كتاب “جوناس دورليان”، يتحدّث الفصل 3 “عمّا يجب أن يكون عليه الملك، وما يجب عليه اجتنابه”. ويختصّ الفصل 9 بالحديث عن فضيلة “الإيثار”، ويتعلّق الفصل 13 بخصلة “التدين”. بينما تشير مضامين الفصول من 4 إلى 8 إلى ما تتطلّبه وظيفة الملك من التزام سلوك الرّأفة والتواضع. أمّا الفصول من 9 إلى 16 فتختصّ بالترسانة الأخلاقية المطلوبة في الملوك، وعلى رأسها فضيلة المحبّة المسيحية، وما تفرضه من القيام بأعمال البر والإحسان إلى الرعايا و المستضعفين..
هناك ثلاثة فضائل لن يستحقّ الملك بدونها أن يحمل اسم الملك، وهي “التقوى” و”العدل” و”الرحمة”. وتقابلها ثلاثة رذائل تجعل من الملك طاغية، وهي: “الكفر” و”الجور” و”القسوة” (ص 185). ويُشار هنا إلى أنّ هذه الترسانة الأخلاقية لا تهمّ الملك حصرا، بقدر ما تسري على رجال البلاط وخدّام الملك عامة كما يوضّح ذلك المؤلّف في الفصل الخامس الذي يتحدّث عن “مجازاة الخدّام الذين يقومون بمهامهم ومعاقبة الأشرار منهم”، وما يستلزم كلّ ذلك من حسن اختيار المستشارين (ص 204). غير أنّ ما يثير الانتباه حقاّ، هو الانتقاد اللاّذع الذي يوجّهه صاحب “مهنة الملك” لهذه الفئة السياسية والإدارية، إذ كان من الأوائل الذين حذّروا الملوك من “رذائل” المحيطين بهم، وذلك على العكس تماما من نصائح الملوك الإسلامية التي لم تكن لتحذّر الملوك من سلوك البيروقراطية السلطانية من وزير وكاتب وعامل بقدر ما كانت تحذر الحاشية السلطانية نفسها من “أخلاقيات” حاكم سلطاني يصعب التّنبؤ بسلوكه وردود أفعاله.
بين الحاكم والمحكوم
إذا كان الحديث عن “العدل” في نصائح الملوك الإسلامية بصفته مقوّما من “مقوّمات المُلك”، هو بالضرورة حديث عن “الرعية” باعتبارها موضوعا له، فإنّنا لن نعدم أن نجد في المرايا المسيحية نفس الأطروحة. فمن بين ما تتطلّبه “وظيفة الملك” في نظر جوناس دورليان “التزام سلوك العدل”، و”عقد مجالس للمظالم”، مع كلّ ما يفرضه ذلك بالمقابل على الرعايا من “ولاء و”طاعة” لحاكميها (الفصول 5-6-8).
يقول “جوناس” في إحدى خلاصاته: “من الأكيد أنّ التقوى والعدل والرّحمة تعزّز المُلك وتقوّيه، وأنّ كلّ إضرار بالأرامل والأيتام، وسلوك الاتّهامات الظّالمة والأحكام القاسية وفساد العدالة يؤّدي بداهة إلى خرابه…” (ص 215) لو نسبنا هذا القول لأبي بكر الطرطوشي صاحب “سراج الملوك”، أو لأيّ أديب سلطاني آخر، لكان الأمر صحيحا. فهذه الخلاصة هي بكلّ تأكيد ترجمة لأولوية الأخلاق الملوكية وللمقولة الذائعة الصيت “العدل أساس المُلك”. غير أنّ القائل هنا ليس مسلما وإنّما هو مسيحي، وليس الطرطوشي أو غيره من أدباء السلاطين، وإنّما هو جوناس دورليون في كتابه “مهنة الملك”.
أولوية المرجع الديني
لم يكن المفكّر السياسي الوسيط، في الغرب كما في الشرق، ليحسّ بأدنى نقص وهو يُغرق نصّه بكثرة الاستشهادات. عكس ذلك تماما، كان لوفرة الاستشهادات قوّتها الدلالية، كما أنّها كانت تعطي لمنتقيها أهمية خاصة تبرز تبحرّه في العلوم والآداب، وخاصة منها الدينية. ليس أمرا مفارقا أن يقرّ “جوناس دورليون” أنّه لم يقم في تأليفه سوى بجمع ما هو متناثر في الكتابات المقدّسة من حقائق، وما سطّره آباء الكنيسة قبله من مبادئ (Voir Jean Reviron « Les idées politico-religieuses d’un évéque du IX siècle –Jonas d’Orléans et son De institutione regia- » p 59 . Ed Librairie philosophique . Paris 1930)
إنّ إطلالة، ولو سريعة، على فهرس كتاب “جوناس دورليون” ومجموع إحالاته تؤكّد الحضور الطاغي للدين، ليس فقط كمرجع أساسي في صياغة تصوره السياسي، بل وأيضا كموضوع يهمّ السلطة الدينية.
تبرز عند “جوناس دورليون” بكلّ وضوح فكرة “الخلاص”Le Salut المسيحية، فالحياة في نظره لا تعدو أن تكون صراعا متواصلا ضدّ “الرّذائل”، وسفرا طويلا نحو “السماء”. مع “حوناس”، لم تعد الكنيسة توجد في الدولة، بل إنّ الدولة هي التي توجد في الكنيسة بكلّ ما يعني ذلك من أولوية السلطة الدينية على الزمنية. وليس الإمبراطور غير حامي الكنيسة لأنّه بحمايته لها يحمي مجموع المسيحيين، وبذلك يحمي نفسه هو أيضا بالتزامه بالمهمة الملقاة عليه.
من الواضح الدور الرئيس الذي يوليه “جوناس” لرجال الدين. فهم “ورثة الرّسل الذين يُعتبرون هم أيضا ورثة المسيح. ولا حقّ لأحد في عصيانهم.” ولا يكمن واجب الملوك في توقير هذه الفئة الخاصة فقط، بل أيضا في إلزام سائر خدّامهم و”كبار الدولة” باحترام رجال الدين، مربّي الملوك. ومن هنا أولوية السلطة الدينية على الزمنية، الكنيسة على الدولة. وهي سلطة لا مصدر لها في نظر جوناس غير “كتاب الله” نفسه. (ص 181)
ثلاث وجهات نقدية
أخيرا، وبإيجاز، يمكن إخضاع كتاب “مهنة الملك” لثلاث وجهات نقدية. أوّلها من داخل المرايا المسيحية نفسها على اعتبار أنّ الجيل اللاحق منها (“جيل دوروم”Giles de Rome في كتابه “حُكم الأمير” على سبيل المثال) تجاوز إلى حدّ ما الكثير من الرؤى الأخلاقية واللاهوتية التي طبعت المرايا الكارولنجية التي ينتمي إليها جوناس دورليون. أكيد أنّنا هنا أمام نقد جزئي بما أنّ هذا الجيل اللاحق للمرايا المسيحية لم يتخلّص تماما من حضور المرجعية الأخلاقية – الدينية. وتتمثّل الوجهة الثانية في الاستعانة بكتاب “الأمير”Le prince لصاحبه “نيكولا ماكيافلي”N. Machiavel . فهذا الكتاب يتضمّن، كما أشار لذلك “كلود لوفور” C Lefort كلّ العتاصر التي تسمح بإدراجه، على الأقل من حيث الشكل، في صنف “مرايا الأمراء”، غير أنّ مضامينه تُعتبر نقدا لاذعا لمجموع التصوّرات التي تلحق الدولة والسياسة بالأخلاق والدين. (C. Lefort : Le travail de l’œuvre , Machiavel p 326 – 346 Gallimard 1972) وأخيرا، يمكن الإشارة إلى نقد لاحق لفلاسفة “الأنوار” الذين عالجوا الموضوع السياسي، وصاغوا مفهومهم “للتربية” من وجهة مغايرة تماما (“جان-جاك روسو” و”كوندياك” على سبيل المثال).
<
p style=”text-align: justify;”> والواقع أنّ هذه المحطّات النقدية الثلاث تؤشّر على كرونولوجيا واضحة تعكس مسارا تاريخيا. فمن أواخر القرن الثاني عشر إلى بدايات القرن السادس عشر، كان للتحوّلات الاجتماعية التي عرفتها أوروبا، وللآثار الفكرية التي أحدثها إحياء التراث السياسي الإغريقي، وخاصة الأرسطي، دورا كبيرا في تجديد المرايا المسيحية من الداخل. وبدءا القرن السادس عشر، كان لجذوة الانتماء الوطني، والعمل على تأسيس “وحدات وطنية” مستقلّة أكبر الأثر في خلق فكر سياسي جديد بدأت بوادر قطيعته النّهائية مع الرؤى الأخلاقية واللاهوتية التي طغت على المرايا المسيحية تتّضح معالمها. وأخيرا، دقّت حركة “الأنواريين” في القرن الثامن عشر آخر مسمار في نعش مرايا الأمراء فاتحة بذلك آفاقا سياسية جديدة ترتكز على “العقل” وتساير حركية “التاريخ”…هي إذن ثلاث محطات نقدية أسهمت في انتقال الفكر السياسي الأوربي من تقاليد العصر الوسيط إلى بناء الدولة الحديثة، محطّات يتعذّر الإقرار بمثيلها في المسار العربي – الإسلامي، وهذا موضوع آخر.