أي هوية هاربة في المسرح المغربي؟
نـجيب طلال
مشروعِـية البحـث:
بداهة أي كاتب أو باحث أو مبدع؛ يمتلك مرجعية إما محدودة أو متعددة المشارب؛ يستند عليها؛ في تفعيلها وتصريفها من أجل البلوغ لهدف تحقيق منجزه/ مشروعه؛ كما يراه هو قبل أن يراه الآخر (القارئ/ المهتم) لكن المفارقة؛ أن الباحث خالد أمين؛ يسعى لهدم مرجعـيته؛ من خلال خلخلة ترسانة من المفاهيم ومحاولة تهجين قضية المركز والهامش/ الأنا والآخر. وهنا أطرحها سياسيا / اقتصاديا، قبل ماهو ثقافي / فكري. لبناء مرجعية بديلة، أساسها بناء نظرية عامة لـ” لنقد” تصطحب معها الجانب العـِلمي والفكري والثقافي، منطلقها تفكيك وزعْـزعة جملة من المصطلحات/ المفاهيم؛ لكي تخدم الممارسة والنقد المسرحي؛ محليا وقطريا. وهي مغامرة ومسؤولية تاريخية تُـلزمُه بالضرورة؛ لكن هل الرقص على حد السيف للانفلات من التمركز الأوروبي وقبضته، لتحقيق (التثاقف والمثاقفة): في أبهى تجلياتها هي السعي نحو الانفتاح على الآخر، دون انصهار في ثقافته وإبراز الذات دون انغلاق مطلق (1) كقوة مانعة، لتبديد اللاتكافؤ وإنماء حوار ثقافي وحضاري؛ ولما لا تجاوزه إلى (التناسج) التفاعل والتداخل جوانية نسيج بين الأنا /الآخر. محسوبة الخطوات / الرقص وبعْـد نظر؟ يتبين حسب ما ينشره من أبحاث ودراسات نقدية؛ بأنه يحمل مشروعا معـرفيا / جماليا؛ محاولا إنتاج وإعادة إنتاج المعنى في المعاني، من خلال بناء هوية نقدية متجددة ومتنوعة تتعامل جدليا، مرتكزها – الفرجة- وحتى يكون الرقص هذا يتطلب إنشاء “ورشة” متعـددة الاختصاصات والمستويات البحثية والمعْـرفية من / لغوية / أنتبرولوجية / إتنولوجية / جمالية/ سوسيولوجية/ تاريخية / إثنوغـرافية / لأنه ليس بالسهل أن نستبدل بما هو متعارف عليه؛ عبر المبحوث عنه إلا بجهود متظافرة، تساهم في: أن نتخلى عن المفهوم التقليدي للمسرح وأن نعَـوضه كلمة مسرح بـ ( الفرجة) وهي الكلمة التي تتيح لنا إمكانية إدماج كل أنواع فنون الأداء التي تركها المسرح وراءه (2) وإن كان هذا القول منسوب لـ” ديانا تايلر- diana taylor” في معْـرض حديثها عن فرجات أمريكا اللاتينية؛ وهل تلك الفرجات اللاتينية حَـسب تصور الأستاذ: خالد أمين- تشبه وضعِـيتنا المابعـد استعمارية في كثير من النواحي؟
قبل أن نتطرق للسؤال؛ فالمنجز الذي بين أيدينا، يُغـري بالنقاش، والبحث والتحليل، نظرا لمنهجيته التركيبية؛ بحيث: قد يكون كتاب في الفرجة فرجة في حد ذاته فـرجة من فصلين… ولابد أن يعقبها ردُّ فعل جمهرة القـُراء المتفرجين… من خلال المشاركة في صنع الفرجة عبر الكتابة (3) ولاسيما أنه تكملة لما أنجزه الأستاذ “خالد أمين” قبله من بحوث ودراسات نوعِـيّة؛ لبناء مشروعه النقدي؛ بغـية تجسيد تحول نوعي في المشهد المسرحي المغـربي / العربي، وبالتالي يبقى هـذا المبحث مدخلا بيستمولوجيا وذو قيمة مضافة على مستوى الجهود المقارباتية. رغم بعْـض الأخطاء مثلا في (ص48/52/54/84/…) وهذا يمكن تعـديله في (ط / الثانية) وكذا بعْـض الثغـَرات مثل (46/52/224/..) والانسياق وراء بعْـض الأطروحات؛ التي تحتاج بدورها لنقاش ومقاربة نقدية (صارمة) مثل (ص/28 /226//233/..) ولكن السؤال الذي يثار بحدة جوانية “المنجز” في شقه الثاني (تجارب/ تطبيق) لماذا تم تغييب تجربة الفنان [الطيب العلج] الذي يعَـد رائدا أكثر من الطيب الصديقي في مسرحة الفرجة الشعبية؟ وكذا تغييب [ع الصمد الكنفاوي] في تجربته “سيدي الكتفي هل تمتلك هوية ثابتة أم هاربة؟ وكذا تجربة [ع السلام الشرايبي] في تطويع “الفرجة” من خلال أدب الملحون وشعـراء الملحون في الموضوعات الدينية كإنتاج فرجوي يرتبط بالضرورة بعنصري “الفكر والفرجة” ويعكس واقع الـشعبي للمجتمع المغـربي منذ (ق 16م)؟ كما تم إغفال تجربة الفنان الجزائري [محي الدين بشطارزي] و[رشيد القسنطيني] وتجربة [علي بنعياد] بتونس. هؤلاء وغيرهم خلخلوا الموروث الشعْـبي وحاولوا توظيفه برؤية لحظتهم الإنتاجية؟ ورغم هذا الإغفال الذي فيه لمسات إيديولوجية(؟) يبقى للبحث مشروعيته؛ من خلال أبعـاده ما ورائية في البحث وتعمُّق في مجهوداته المثمرة والغـنية فكريا / جدليا، في [المركز الدولي لدراسات الفرجة] ولكن ربما هذا الحماس؛ والمبادرة المائزة في التنقيب والاجتهاد، سيولد؟ وعْـيا شقيا لصاحبه. وستتناسج الذات بالأسطورة البابليلة (جلجامش)؟ نظرا للوضع الثقافي /المسرحي، البئيس وغير منسجم ولا مناهض جمعَـويا نحو ولادة الإختلاف الجاد وتأسيس روح المثاقفة بالكاد وبمنظورها الإيجابي! ناهينا عن عدم المتابعة والقراءة والاهتمام الجادبالمقروئية! علما أن هنالك من يسعى ولقد سعى لتحريف بوصلة الوعي والنقاش الذي يحتاجه المسرح في المغرب حاليا.
لنترك التشاؤم جانبا، لكي نشير بأن الكتاب ينطلق بالقارئ المفترض. في سياحة فكرية عالمية، مشاهدها مفكرين وباحثين ومنظرين ومشتغـلين عَـمليا في المجال اللساني/ الجمالي/ المسرحي / الفكري/ (بيكي فيلان /كي ديبور/بيير ريكور/ جون اوستين / أريكا فيشر ليشه / فيليب اوسلاندر/ باربا/ أوغستو بوال/ارسطو/… وذلك لتحقيق نوع من التخريجات والتقارب والتحاور، لطروحات متباينة تجاه ”الفرجة”.
*الإشكالية الأولى *فتـلك الآراء والتصورات والاستشهاديات التي تم الاستشهاد بها، ألا ترفع من قيمة ومركزية الثقافة الغـربية بشكل أو آخر، وإن كان الهدف من ورائها إيصال المبحث إلى ما يهدف اليه مباشرة. وبالتالي ألا تعـيق محاولة الهروب من المركزية/ الاستعلائية؟ هُـنا كانت تخريجة الأستاذ “أمين” ذكية جدا؛ حينما تم إقحام أطروحة “النقد المزدوج” في مشروعه النظري كمرتكز؛ ولما لا يكون احتماء مشروعا لخلخلة الخطوط الممغنطة والملتهبة.. والتسلل إلى مناطق الاتصال والانفصال: “بوصفه آلـية للمساءلة، من شأنها تعطيل كل التعاريف الثنائية من قبيل الذات / الآخر، الشرق / الغـرب ووسيلة لإعادة التفكير في الهوية والاختلاف من دون اللجوء إلى المطلقات الماهـوية والمذاهب”(4) لأن “الخطيبي” بدوره استعان بأفكارومفكرين غـربيين وخاصة التقائه بمفكِّري الاختلاف كـ(دريدا / بلانشو/ فانون/ مارتن هايدجر / بارت…) وذلك لتفكيك الميتافيزيقا الغـربية، وفي اللحظة نفـسها تفكيك للميتافيزيقا العَـربية والثيولوجيا الإسلامية. فتلك الاستعانة فرضتها طبيعة الاستراتيجية / المشروع؛ بحيث يشير بأن: “التخلي عن أوروبا والإبتعاد عنها إلى الأبد؟ أليس هَـذا وَهـْما، مادامت أوروبا تقيم في كياننا؟… إذا كان الغـَرب فينا؛ لا كشيء مطلق، بل كاختلاف نقارنه بدقة مع اختلاف آخر يدعونا هو نفسه إلى التفكير فيه… لنَسمِ “الاختلاف الوحشي” بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى خارج مطلق. الإختلاف الوحشي” يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية، الوطنية، العِـرقية،… كانت هذه الدعوة إلى الاختلاف الوحشي (الوحشي والساذج) السخط الذي لم نتأمله؛ في مرحلة زوال الاستعمار”(5) ففي هذا السياق، فالباحث خالد أمين في (ص84) يجاري وينتهج هذا الطرح ويثبته بدوره لما رآه الخطيبي صوابا لتفكيك التمركز. وذلك لتحقيق إضافة نوعية للخطابات المتداولة تجاه ‘الفرجة’ المسرحية لتتأطر عمليا في النسق النقدي بالمغرب، ولكن قياسا لخصوصيات حركيته، وارتباطا بعٌـمق تفاعلاته مع المنتوج الفرجوي: والحال أن النقد المسرحي في عمومه لم يطور آليته النظرية والنقدية في اتجاه التعاطي مع هذه الظاهرة. ( 6)
أما *الإشكالية الثانية*؛ فلماذا تم حصر المشروع النظري لـ”الفرجة” فيما بعْـد المرحلة الكوليانية؟ هل لأن المسرح كوافد على الهوية العَـربية / المغربية؟ أو حسب سؤال المنجز: هل لأننا نعـيش في عالم مابعد استعماري مفعم بحوار الثقافات المختلفة التي تتداخل فيما بينها مستشرفة رحابة الهجنة ؟ (7)
هذا الأمر لـيْس مستبعَـدا من الزاوية الأنتربولوجية الثقافية، فهاته الحقيقة تفرض سؤالا جوهريا ألـَمْ تكن هنالك هجنة قبلية في الموروث الثقافي العَـربي/ المغـربي؟ بدون تخريجات تبريرية، هذا مما لاشك فيه بحكم التعاقب التاريخي وتداخل الأعـراق وهجرة الهويات من فضاء لآخـر. لتتشكل وتتبلور في منظومة “الهجنة” التي استقبلها المسرح عن طواعية؛ ورغم هاته الحقيقة فـ”خالد أمين” لم يحاول أن يوسع دائرة مشروعه الماقبل الاستعمار؛ لأسباب متعَـددة منطـلقها غياب ورشة “[معـرفية]” وهذا يلمح عليه ويلح به: بينما المطلوب الآن مزيدا من التعاضد والتآزر والتفاعل الايجابي على شكل مختبرات مسرحية ومجموعات بحث متعددة التخصصات تنفتح على رحابة الافق التجريبي للممارسة الابداعية بالعالم العربي راهنا.. (8) وذلك من أجل تبديد خطاب الأزمة وترميم الشرخ بين النقد والمسرح. مما ظل ” خالد أمين” مرتبطا بما هو متاح بين المسرح المغـربي والاستعمار؛ لأن من ضمن المفاهيم التي يناقشها (البينية) مما: أضحى موضعا للهجنة على الأقل في المرحلة الاستعمارية المبكرة؛ ذلك أنه يتموضع في الحد الفاصل بين الشرق والغـرب والثقافة الشعبية والثقافة العالمة؛ والفرجة الشعبية المفتوحة والبناية المسرحية المنغلقة على ذاتها (9) وبالتالي كيف يمكن زعْـزعة وخلخلة هاته الهويات الهاربة التي تشكل منطوقا مقلوبا (الآخر/ الأنا)؟ : هـذه بعض مكونات واقع يصعْـب إنكاره، وهكذا فإن هذه النقائض تستمد جذورها من هشاشة الصورة التي نرسمها لأنفسنا ولذوينا، لذا يجب أن نشتغل كثيرا على هذه الهشاشة (10) كيف؟ بالنسبة للنقد المزدوج أساسا هُـو حاضر في (الذاكرة الموشومة) كجدلية جديدة تدعو إلى نقد مزدوج يمارس نفسه داخل الذات على الآخر وداخل الآخر على الذات. حتى لا تجعل من أوروبا أفقا للعالم العربي، منطلقا من الفكر اليوناني إلى اللاهوت العَـربي / الإسلامي/ الغـربي. لكن الصديق “خالد أمين” حاول أن يُحمِّل “الكتاب” أكثر من طاقته التحليلية، عبر إقحامه في المجال المسرح: صحيح أن العَـرب رفضوا التراث المسرحي اليوناني لوثـنيه؛ فكان ذلك الرفـض محاولة لانتزاع الاختلاف اليوناني، الذي يصعب على الوحدانية أن تعالجه بعد قرون من ذلك الرفض… رجع الإرث اليوناني القديم ومعه التراكم المسرحي الاوروبي ليفرض نفسه كنموذج تحديثي ضمن ما سمي بالمهمة الحضارية. لم تكن هذه المهمة التحضيرية سوى مهمة استعمارية تسعـَى لاحتواء اختلاف المشرق والجنوب (11) وهذا يفسر بأن إشكالية المثاقفة التي تتأسس إجرائيا على أحقية في الاختلاف والاعتراف بالآخر. ضرب من ضروب الوهْـم في نسيج ثقافي / مسرحي ( مغربي/ عربي) هَـش وتبعي! وبالتالي؛ فهل ياترى استبدال المثاقفة بالتناسج سيبدد الهشاشة واللاتكـافؤ، أم سيبقي المشهد في موقع التناسخ بحكم تبعـية قسرية ومفـروضة عـَلينا؟ سياسيا / اقتصاديا؟ وذلك لقوة الخصم الذي يبيع لنا الأسلحة والتكنولوجيا بشتى أنواعها؛ ونحن نقتنيها منه، وهكذا! لأننا لا نتوفر على قيمة مضافة لكي نكون نـَدا للنـد؟ وقبل هذا هل من المقبول في عصر الكوننة والاستبحار العنكبوتي، أن نعيد ذاك السؤال الغـَبي هل عَـرف العَـرب المسرح؟ ولاسيما أن الاختلافية، شئنا أم أبينا فالعَـولمية كمنظور واستراتيجية . تسعى من المدخل الاقتصادي تحديدا إلى محو [الاختلاف] من خلال زمنية كونية، مما سيتم تأطير الهوية/ الهويات في خانة الوهم بشكل تلقائي؟ والسبب: لأن الهُوية ليست موضوعا ثابتا أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية، وهي قائمة على الحرية، لأنها إحساس بالذات والذات حُـرة، والحرية قائمة على الهُوية، لأنها تعبير عنها(12)
الأشكال والهـويات الهاربة:
هي أسئلة وتساؤلات كثيرة ومتشعبة ، يفرضها المنجز( المسرح والهويات الهاربة ) بناء على غناه الفكري والمعـرفي؛ وإن لم يثر بين أسطره مسألة (الأقـليات) التي هي السبب الأساس في تمظهر أبحاث تجاه “الهويات الهجينة” التي أنشأها التاريخ الاستعماري؛ كدراسات – كاياتري سبيفاك/ إدوار سعيد / وفي نفس السياق فلو استغل كتاب (الاسم العَـربي الجريح) لكان أعمق استبحارا في مسألة الهويات الهاربة باعتبارأن: الكتاب يعيد قراءة الجسم العَـربي من خلال موروث الثقافة الشعْـبية المغربية، بوعي نـقدي يعْـتمد على بُعـديْن أساسيين هما نقد المفهوم اللاهوتي للجسم العَـربي من ناحية، ونـقد المقاربات الإثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملا خارجيا ومتعاليا من ناحية ثانية (13) والحقيقة أن الثقافة “الشعبية” إشكالية كبرى وبهذا الحجم لم تنل ما تستحقه من دراسات وأبحاث شاملة! لهذا فما دور الباحثين المسرحيين؟ ألم نجد من يشير إلى أشكال (ما قبل مسرحية)؟ أشكال (تراثية) ولكن انقذفت في النسيج المسرحي؛ بدون مرجعية تاريخية كمنطلق، ولم يتم البحْـث عنها جينيا لوجيا، لتفسير مكوناتها ودوافع انوجادها الذي يفرض تفكيكها، بحكم أن تلك (الأشكال) تتغـَير وتهجَّـن عَـبر كل حقبة وعصر وذلك بتغـيُّـر وتبدل البيئة والأسماء والأحداث السياسية/ الإجتماعية، حينما يتم تداولها وممارستها. فهي عمليا: تقفز من وهم إلى آخر، والقبيلة باعتبارها نوعا – genre – ليست سكونية بل هي كما لاحظ الباحث المغـربي “بول باسكون” القبيلة في عهد السعديين الذين حاولوا لأول مرة؛ إقامة دولة حديثة وجلبوا العبيد وأنشأوا مجتمع مائي في جنوب المغرب، ليست هي القبيلة نفسها في عهد العلويين؛ حينما كانوا يقاومون الإقطاعيات المحلية ويحاولون فرض النموذج المخزني للمجتمع (14) فعـلى ذكر المخزن فأغلب [الأشكال] التي ركز عليها المنجز كمفاتيح لتوطيد مشروعية مشروعه النقدي/ النظري والتي يستخلصها ها هنا: في استحضار واقتفاء أثـار فرجة البساط التي لم يعد لها وجود إلا في كتابات المغاربة وغيرهم، وما تبقى منها مجسدا في فرجات شعبية اخرى .هكذا بدأ الصديقي في الاشتغال على مسرحيات… وأغلبها ترعرع في أحضان الحلقة بشتى تلويناتها وتتمثل محصلة نقل الحلقة من جامع الفنا الى البناية المسرحية، في أن المسرح المغربي أضحى موضعا للهجنة على الاقل في المرحلة مابعد الاستعمارية المبكرة. ذلك انه يتموضع في الحد الفاصل بين الشرق والغـَرب والثقافة الشعبية والثقافة العالمة، بين الفرجة الشعبية المفتوحة والبناية المسرحية المنغـَلقة على ذاتها- (15) هنا لا خلاف بأن الفنان “الصديقي” رحمه الله كان مبدعا وله تموقع متفرد في صناعة الفرجة، وفي تأثيث زمن العَـرض بمهارات جمالية وفنية وبالتالي فـلا علاقة له بأصول وتمظهرات تلك الأشكال ومراحل تطورها والحقبة التي أحدث فيها “التهجين” كميلاد لبناء فضاء “فرجوي” (جديد ) تتعايش أو تتصارع فيه ثقافة المركز بثقافة الهامش؟ ورغم ذلك ف [النقد] لم ينصفه وتهجم على تجربته بشكل لاذع: لقد أتخم الطيب الصديقي الجمهور بفرجات عديدة، وجعله يساير مغامراته وتجاربه التي تستلهم تقنيات الغرب وأشكاله الدرامية… ومع ذلك فإننا نؤاخذه نظراً لما ينطوي عليه مسرحه من “مغالطة” لأنه لا يتعدى جانب الإبهار الفني، ولا يبدو سوى متعة جمالية كثيراً ما تخلو من التنوير الفكري (16) هنا ستدخل في عوالم ستبعدنا عن المنجز/ المشروع الذي يطمح إليه الناقد ” خالد أمين” فهل كانت تلك الأشكال [ البساط / سيدي الكتفي/ سلطان الطلبة/ الحلقة/…) أصلا فرجات شعـبية منبثقة من ثنايا الشعَـب أم شعبوية تم انتسابها إليه؟ وهل كانت تتلفظ بجوهر الحقيقية وتحمل مضامين اجتماعية/ تنتقد الأوضاع السياسية / المخزنية؟ وهل كانت عابرة للحدود كهويات هاربة لتحقيق المثاقفة أوالتناسج؟ هاته التساؤلات هي من مهام الباحثين والمنظرين، للتحقيق فيها والوعي بأن هناك مسلسل تاريخي ينبغي القيام بتفكيكه وتحليله، لتصحيح أعطاب تلك “الأشكال” هذا فعلا إن كانت تحمل نسمات التمسرح. إضافة وبالتالي ف”البساط” في إحدى الأبحاث المسرحية “قيل” أنه أولى حفلاته قدمت أمام السلطان محمد بن عبد الله 1757-1790؟ فهذا المعطى بدون سند تاريخي/ مرجعي، من مؤرخي عهد السلطان كأبي القاسم الزياني صاحب (الترجمانة الكبرى) ومعاصره ابن عثمان المكناسي المسطاسي صاحب (الإكسير في فكاك الأسير) وكذا االضعيف الرباطي؛ هذا الأخير الذي ذكر وبشكل مقتضب بعض كواليس (سلطان الطلبة) وإن قبلنا الطرح؛ فـ (البساط) كفرجة ترفيهية هي نتاج مخزني؛ كسلطان الطلبة! ولما لا يكون هو الـ (كوميديا ديلارتي) لأن كلاهما يعتمدان على الارتجال ويندرجا في “الكوميديا الشعبية” وبالتالي: يعيد كتاب داريوس أصول فن (الكوميديا دي لارتي) إلى عام 1550 على وجه التقريب، كما ينوه بأن هذا الفن ـ بالرغم من استحواذه على إعجاب البلاطات الملكية والطبقات الأرستقراطية ـ لم يكن فنا نخبويا، بل فنا لمسرح جماهيري وشعبي بكل ما في هذا من معنى. فالجمهور الإيطالي من الطبقة المتوسطة والفقيرة يرى على المسرح سخرية تنفـس عَـن كربه من البيروقراطية وكبار القوم (17) أليس هنالك تشابه، بشكل أو آخر يحيل إلى تمظهر مثاقفة/ تفاعل بين الحضارات؟ بخلاف الحلقة التي ارتبطت بمظاهـر الفلاحة، بعد تهجير قبائل بني هلال وسليم ومعقل؛ وتمركزهم في (تونس) عهد الدولة الحفصية؛ التي تقابلها الدولة الموحدية في المغرب، فانتشرت التغـريبة الهلالية (كحكايات مرفوقة بآلة (الرباب) في الأصل/ يرويها = راوي = حلايقي= حكواتي= قوال) وازداد انتشارها بين القبائل في عهد الدولة السعـدية.
لماذا أثرت هَـذا؟ بكل بساطة ؛ فالمنجز يطرح سؤالا محوريا وأساسيا: هل يمكن تشكيل معالم نظرية مسرحية عربية بمعْـزل عن الاحتكاك ومواجهة التاريخ المحلي الغـربي؟ (18) فالإخفاق الذي سقط فيه المسرح المغـربي/ العَـربي؛ ليس التدافع أو الصراع من أجل تحقيق (نظرية) بمعْـزل عن ركام من النظريات “الغـربية” بين: التيار الحداثي والتيار المحافظ معا أثناء تدافعهما وتجاذبهما لصياغة خطاب مسرحي عربي/ مغربي، هي أن المسرح المغربي واحد ومتعدد متأرجح بين الهوية والاختلاف الانا والاخر بفعل التناسج اللامتناهية (19) بل عدم الاهتمام بالمعطيات التاريخية ، المتفاعلة مع الحياة الثقافية والفكرية ومواجهة التاريخ المحلي / القطري، المتهجن بمفاهيم عقائدية ولاهوتية ،باعتبارأن شخصية الأديب والمؤرخ المغـربي في الواقع كانت منزوية خلف شخصية “الفقيه “الذي كان عليه أن يهتم بالعلم قبل الفـن، وبالتالي:.. وبعْـد أن يتلقى الأديب المغربي ثقافة مبنية في أساسها على مبادئ الإيمان، يتخرج فقيها يصطبغ إنتاجه حتى الأدبي بالصبغة الدينية، فلقد كانت هذه الثقافة تتحكم في الثقافات الأخرى مهما كان نوعها، حتى من أراد أن يصبح أديبا كان عليه أن يصير أولا فقيها، بينما لم يكن يشترط في الفقيه أن يكون أديبا (20) فعبر الكتاب نلاحظ بأن الناقد “خالد أمين ” يتحاشى الانغماس في هذا الجانب، وملامسة الهوية الإسلامية المتجذرة في اللاوعينا الجمعي (حتى) وبالتالي فاللاهوت وسلطة الفقيه تحضر عـرضا وفي غموض بين ثنايا الحديث عن ” الفرجة/ المسرح/ المثاقفة/ في العالم العَـربي؛ وخاصة في (ص/15/206) ولولا هاته الحقيقة لما: اشرأبت المعارضة بأعناقها مرة أخرى. ضد المسرح العربي الذي لم يكن قد تمالك نفسه واعتمد على ذاته واتهمت الفنانين بالتهاون في مراعاة دينهم ورأت السلطات الدينية في الفرجة المسرحية خروجا عن تقاليدِ المجتمع وأمام تفاقم الدعاية المضادة التي تـَشنـُّها الطوائف… اضطر المسرح العَـربي؛ إلى أن يسعَـى بحثا عن التشجيع والعـون في إقليم آخـر أو مكان آخـر (21) هنا المسرح [العَـربي] بشكل عام كان هاربا قبل البحث عن أشكاله؟ هاربا من الإضطهاد واستبداد الفقهاء! وفي نفس الوقت يبحث عن هويته! ولهذا لا يمكن القبض على الهوية إلا عبر تفكيك التاريخ وحمولته، لأن التاريخ هو مسكن الإنسان ومنبت هويته المتعددة، وإن كانت اللغة مكون رئيس في تشكيل هُـوية الشعوب، تبقى الهوية حقل متعدد الأبعاد ذو طبيعة جدلية، يضم متناقضات واختلافات تتحرك داخل عملية صيرورة. باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية من صنع الأفـراد: هي موضوع إنساني خالص؛ فالإنسان ينقسم على نفسه وهو الذي يشعُـر بالمفارقة والتعالي أو القسمة بين ماهو كائن وما ينبغي أن يكون بين الواقع والمثال بين الحاضر والماضي بين الحاضر والمستقبل… الهوية إمكانية قد توجد وقد لا توجد، إن وجدت فالوجود الذاتي وإن غابت فالاغتراب (22) وبالتالي فالمسرح العـربي؛ يعيش اغترابا من خلال هويته الهاربة والمتراوحة في البينية (الآنا / الآخر) ولكن لنؤمن: بأن المعْـرفة العـربية لا تستطيع أن تتنصل من أسسها اللاهوتية والتيوقراط إلا بفضل قطيعة لن تكون كذلك ما لم تكن مزدوجة لتقابل المنظومة المعرفية الغـربية بخارجها اللامفكر فيه، وتعمل في الوقت ذاته، على تجذير الهامش، ليس فقط عن طريق فكر يستعمل اللغة العربية كأداة، وإنما بالاتجاه نحو فكر مغاير يتكلم عدة لغات، ويصغي لأي كلام كان مصدره (23) هنا فهل المسرح العَـربي/ المغربي، يساير فكرا مغايرا ذو قطيعة مع البحث عن هويته في سياق الهويات؟ فالمنجز بطريقة غير مباشرة يذكي بانوجاد حساسيات مسرحية: تراعي علاقة النص بالعرض، وتقوم في الغالب على التوليف بين نصوص سردية ومشاهد حكائية وقطع شعرية ومتواليات غنائية/ حركية وتركيبات خيال / ظلية خولت للنص/ العَـرض الدخول في مجال الرمز العجائبي (24) وهذا في تقديري، طرح خارج أطروحة الهويات الهاربة، باعتبار أن المسرح المغـربي/ العـربي؛ عمق هويته مفقودة بالأساس، لأنه دخيل في الجسد الثقافي، واستطاع أن يمتص الأشكال ذات قالب فرجوي، علما إن القالب المسرحي هو الوجه الأبرز في قضية الهوية، ولاسيما أن الثقافة بشكل عام لها علائق وطيدة بالدراسات الأنتربولوجية، والغـرب سباق لذلك.
وبناء عليه فالملاحظ أن الصديق” خالد أمين” يقدم عدة شواهد للهيمنة المركزية أبرزها:… لم يتمكن تيم سابل من تجاوز منطق الهيمنة المعهودة في أعمال مواطنه بيتر بروك أو حتى الامريكي ولسون، ذلك أنه في نهاية المطاف هو الذي حدد معالم المنتوج النهائي وقدمه للجمهور الغـربي في شبكة المهرجانات الكبرى في أوروبا وأمريكا غنه هو الذي اعاد الصياغة الدراماتورجية لحكايات حنان الشيخ وهو الذي قرر في نهاية المطاف ما يمكن عرضه وما ينبغي حذفه (25) فهذا المعطى المادي / الملموس، وغيره؟ انعكاس لواقع ثقافي/ إبداعي ، ينم عَـن اللاتكافئية واللاثـثاقف، وبالتالي فالإشكالات التي سقطت فيها “المثاقفة” هل سيستطيع “التناسج” تعويضها والقبض على الهويات الهاربة؟ هذا إذا ما أدركنا بأن: الهوية إلا نموذج مثالي للأشكال الهاربة والمهاجرة وسريعة التحول وغير المستقـرة على حال، بدوره يعد المسرح من أكـثر الفنون المقاومة لمنطق القار والمتجانس والمطلق ذلك أن المسرح؛ منذ نشأته الإغريقية الاولى الى الآن وهو في ثورة مستمرة للأشكال الفرجوية. وبالرغم من وهم الحدود بين الأنا والآخر. فإن المسرح يتطور تاريخيا من خلال التبادلات الثقافية بين مختلف الشعُـوب (26)
________________
الاسـتـئـناس:
1) المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف. لخالد أمين: ص 74 – منشورات المركز الدولي
لدراسات الفرجة – سلسلة رقم 63. الطبعة 1/ 2019
2) نــفــســـه: – ص 19
3) نــفســـه: تقديم لعبد العزيز جـدير- ص12
4) نــفـســـه : ص 104
5) النقد المزدوج: لعبد الكبير الخطيبي ص30 منشورات عكاظ /2000
6) المسرح والهويات الهاربة : ص132
7) نـــفـــســـه: ص30/31
8) نـــفـــســـه: ص – 144
9) نـــفـــســـه: ص – 57
10) النقد المزدوج: ص – 16
11) نـــفـــســـه: ص – 86
12) الــهوية: لحسن حنفي – ص23 – المجلس الأعلى للثقافة / 2012 القاهرة .
13)الإسم العَـربي الجريح :لعبد الكبير الخطيبي- ت / محمد بنيس- ص5/6 منشورات الجمل/2009
14) نـــفـــســـه: ص 10
15) المسرح والهويات الهاربة ص56/57
16) حول المسرح المغربي لحسن المنيعي ص26- مجلة الأقلام العـرقية- بغداد، ع /6-1980
17) “الكوميديا دي لا رتي” فـَن إيطاليا العريق: إنجاز رياض عصمت مكتبة العـربي العدد 467
18) المسرح والهويات الهاربة – ص 112
19) نـــفـــســـه: ص – 84
20) الحركة الأدبية على عهد الدولة العلوية: لمحمد الأخضر ص 35 درا الرشاد الحديثة/ 1977
21) سيكولوجية الفرجة لفتحي سلامة – ص 49 مكتبة الأسرة / الهيئة العربية للكتاب القاهرة /1998
22) الهـــويَّـــة : لحـسن حنفي – ص11 –
23) قراءة في تيارات الفكر المغربي: لعبد السلام بنعبد العالي – ص: 36- مجلة أبواب- ع 14خريف 1997 دار الساقي، بيروت،
24) المسرح والهويات الهاربة : ص-146
25) نـــفـــســـه: ص101
26) نـــفـــســـه: ص 73/74