الكراسي الفارغة واللغو الصامت
الياس خوري
قرأت مسرحية أوجين يونِسكو «الكراسي»، منذ بضع سنوات، كما شاهدتها على الخشبة حين عرضت في «مسرح بيروت» في تسعينيات القرن الماضي أكثر من مرة. وفي كل مرة كنت أخرج من المسرح مصاباً بالانبهار. نص مدهش وخشبة فارغة يملأها اللغو، وحكاية لا تملك أدنى مقومات الحكاية.
الكلام يشكل تعويضاً عن الحكاية التي لا قوام لها، لكن اللغو يفترس المعنى، بحيث تصير اللغة أشبه بالكراسي الفارغة التي امتلأت بها الخشبة.
عجوزان يعيشان في جزيرة منعزلة وينتظران مجموعة كبيرة من المدعوين. الرجل يستعد لتوجيه رسالته الآخيرة إلى العالم، والزوجة تعيش في الحكاية نفسها التي كان على الزوج أن يرويها لها في كل مساء.
تمتلئ الخشبة بمدعوين وهميين لا يراهم الجمهور ولا يتكلمون، الزوجة مشغولة برصف الكراسي للمدعويين والزوج يقوم باستقبالهم.
نحن أمام مجموعة كبيرة من الكراسي التي يملأها الفراغ. يأتي كولونيل، كما تحضر عشيقة الزوج في أيام الشباب، ثم يأتي عشرات الأشخاص وعلى رأسهم الأمبراطور، وفي النهاية يظهر الخطيب، وهو الشخصية الوحيدة التي نراها إلى جانب الزوجين، الذي سيتلو رسالة الزوج إلى العالم.
قبل أن يبدأ الخطيب بالقراءة يقفز الزوجان من نافذتين وينتحران. يبدو أن الخطيب كان أصم – أبكم، يحكي بالإشارات ثم يصدر همهمات غامضة، قبل أن يكتب على اللوح حروفاً غير مفهومة.
مشكلتي مع هذه المسرحية أنها عصية على التذكر، فعندما قررت أن أكتب عنها كمدخل محتمل لقراءة أحد أوجه زمننا اللبناني، اكتشفت أنني لا أتذكر سوى مشهد الكراسي الفارغة، وأطياف مدعوين لا نراهم، وصورة العجوزين وهما يتكلمان من أجل أن يقولا كل شيء. وحين نريد أن نقول كل شيء دفعة واحدة نكتشف أننا لم نقل شيئاً.
هذه هي مناخات تلك المرحلة الرائعة من تاريخ المسرح الحديث في العالم. كاتبان ليسا فرنسيين، كتبا بلغة بودلير ما يشبه الانقلاب الكامل على اللغة وعلى جميع قواعد الكتابة المسرحية. جاءا بعد السوريالية وقاما بإفراغ نصوصها الخيالية الممزوجة باللاوعي من مضمونها، لم يحفلا بالكتابة الأوتوماتيكية، وكتبا نصوصاً بعقلانية باردة وبمنطق مترابط، وقدما أعمالاً آسرة لكن مشكلتها أو ميزتها أنها تنزلق من ذاكرة القارئ إلى العدم.
صموئيل بيكيت وأوجين يونِسكو، كتبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستقرار العالم في نظام جديد انقسم إلى نصفين، نصفه الأول أمريكي يظلله الرذاذ النووي المنتشر فوق رماد هيروشيما، ونصفه الثاني سوفياتي يرعاه «أبو الشعوب»، جوزيف ستالين والغولاغ الروسي.
جاء مسرح العبث بعد نهاية الحرب العالمية المليئة بالوحشية والمآسي، ليكتشف لغته في ظل استقرار عالمي مؤقت، قام باغتيال المعاني، فالديموقراطية صارت سراباً على أيدي الماكارثية الأمريكية، والحلم الاشتراكي ابتلعه الاستبداد الستاليني.
استقرار في أوروبا وغيوم داكنة في جنوب العالم.
بنى مسرح العبث صرحاً من الكلام الذي يكسر المعنى، كي يؤسس لمحاكمة المعاني وإتلافها، في فضاء أوروبي حولته النازية إلى ركام.
«في أيامنا كان القمر كوكباً حياً، لو جرؤنا»، قال الكهل مخاطباً زوجته.
ما معنى هذا الكلام، ومتى مات القمر؟ يتساءل القارئ، ليأتيه جواب أكثر إشكالية:
«الشوارع مليئة بالطيور القتيلة وبأطفال صغار يحتضرون».
هاتان هما الإشارتان الوحيدتان إلى زمن الحرب، وهو زمن تتوجه كلمات يونسكو عن باريس «كان لهذه المدينة وجود، ما دامت قد انهارت».
ثم نكتشف أن من يتكلم ليس العجوز بل شخص آخر:
«أنا لست أنا، أنا شخص آخر، أنا هذا داخل ذاك»!
حاولت أن أستعيد في ذاكرتي مسرحية يونسكو، معتقداً أنها تصلح كإطار لقراءة بيروت في تجليات احتضارها الطويل، لكن ذاكرتي خانتني. أصبت بخيبة أمل قبل أن أكتشف أن هذا النوع من الأدب هو عكس الأدب، فالأدب يكتب كذاكرة متجددة، أما هذا المسرح فهو نسيان مستمر.
هذا النسيان مليء بالسخرية، يبني هيكلاً مليئاً بفجوات الحكاية، فلا يبقى من «في انتظار غودو» سوى شخصين ينتظران لا أحد، كما لا يبقى من «الكراسي» سوى مشهد الفراغ الذي يملأ الفراغ.
تساءلت لماذا لا تكون الكراسي الفارغة كناية عن هذا الفراغ اللبناني المقيم فوق أنقاض الانهيار والخراب؟
لكنني اكتشفت استحالة ذلك؛ لسببين:
يشير السبب الأول إلى أن الخواء المطلق الذي يسيطر على الكراسي اللبنانية لا يمكن مقارنته بلعبة تفكيك المعاني في مسرح يونِسكو وبيكيت. في لبنان تصير المعاني جثثاً تتعفن في لغة سياسية هي أكثر غرائبية من لغة المافيا.
بينما يكمن السبب الثاني في واقع هجين، يمتزج فيه الخواء بالحرب، والتفكك الاجتماعي بالانهيار الأخلاقي.
الانهيار لا يقوم بتحدي المعاني وإعادة تركيبها، بل يقوم بطمرها تحت الانحطاط، كما أن الحرب الكامنة في لبنان والحرب الهمجية الإسرائيلية في فلسطين، يدفعان إلى ضرورة تأسيس المعاني الجديدة والمتجددة، رغم هذا الركام العبثي العربي والعالمي.
قراءة مسرحية «الكراسي» من جديد كانت لحظة أكدت لي بأن الأدب ليس فقط نافذة على المعرفة والاكتشاف، بل هو أيضاً متعة للعقل والقلب والحواس.
وعلى الرغم من أنني لم أجد في «الكراسي» استعارة يمكن استخدامها لقراءة حاضرنا، لكن هذه المسرحية تطرح علينا سؤالاً كبيراً حول ضرورة تفكيك لغة الاستبداد السائدة، في سياق البحث عن لغة ملائمة تحملنا ونحملها إلى آفاق جديدة.
Visited 7 times, 1 visit(s) today