اليان سركيس
بعد الانهيار على كل الصعد، وبصفتي طبيبا مختصا أتطلع إلى القطاع الصحي، كسائر القطاعات في لبنان، وأرى من واجبي العمل على المعالجة الجذرية والاستراتيجية لإعادة النظر ومراجعة كل الأخطاء السابقة للقضايا الإصلاحية لاستعادة هذا النظام إلى مرتبة راقية مستحدثة، وضمن المواصفات العالمية المتقدمة.
إن القطاع الصحي يفتقد اليوم للتقدم في العلم واحترام قوانينه والمحاسبة والمسؤولية، بل إن الأكثرية من القطاع الصحي الخاص أو العام يتعاملون بصحة الإنسان كتجارة، بما يعكس سلبياته على المجتمع. ولم تعد تحتمل الشعارات والمزايدات والزبائنية، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان وشعبه.
1- عدة دراسات برهنت أن إنفاق الدولة على هذا القطاع مرتفع جدا لمعاملة سيئة (مراجعة ميزانية وزارة الصحة وكيفية توزيعها على المحافظات والمستشفيات في القطاعين العام والخاص). كما ويتمّ غالباً استغلال الفرص وتضخيم الفواتير. أمّا الغريب فيكمن بنسبة المرضى المضطرين للذهاب إلى أكثر من مستشفى ليتمكّنوا من الدخول وأخذ العلاج، كون أكثرهم لا يقبل على حساب وزارة الصحة مع أن معظم المستشفيات تكون قادرة على استقبال المرضى ولديها كل ما يلزم من تقنية لمعالجتهم.
2- يكمن الإصلاح في ضبط مزاريب الهدر بدءا بـ”كارتيلات الأدوية والمعدات ” وصولاً إلى الأطباء وبعض موظفي الوزارة وأتباع الوزير، وارتباطا بشركات الأدوية لتسويق أدويتها بالأطباء ما يخلق عبئا كبيراً على محدودي الدخل بإنفاق مبالغ خيالية على أدوية مؤمنة بشروط وأسعار باهظة جداً، (كأدوية السرطان أو غيرها، مثل أدوية علاج الضغط والسكري). فيما قد يجد المريض الدواء نفسه بمفعوله الإيجابي، لكن بأسماء أخرى مختلفة وبأسعار مخفّضة عن المعتمد في البازار الطبي. لذا المطلوب ضبط استيراد الدواء وتحديد لجنة أكاديمية مخصصة لدراسة معدَّة لكل دواء يدخل إلى لبنان، وترشيده بتسعيرة موحدة على كافة الصيدليات، وإنشاء قاعدة معلومات للمستفيدين في الصناديق الرسمية، كما يجب اعتماد المكننة الإلكترونية المركزية في إصدار بطاقات الاستشفاء لكل مواطن لبناني، وذلك منذ لحظة ولادته. ونشير هنا إلى تحديد نسبة التغطية بعد دراستها، بعد أن يتفق عليها بين القطاعين العام والخاص وشركات التأمين.
3- اصدار قوانين لتعيين مجالس إدارة المستشفيات العامة، دون استنسابية طائفية أوتبعية حزبية، ووضعها تحت رقابة مباشرة من قبل فرع مختص في وزارة الصحة، كما يلزم مراقبة أجور العاملين في هذه المراكز وإخضاعهم إلى تقييم مستمر لتحسين جودة الخدمات باستمرار.
4- تعزيز الترصد الوبائي، وتطوير المختبرات لتأمين الحماية الصحية للمواطن من الأوبئة، والتدخّل السريع لمعالجة المصابين، وحتى اكتشاف أي مرض جديد.
5- إن ارتباط النظام الصحي والشؤون الاجتماعية بالمنظومة السياسية الاقتصادية والاجتماعية، ودورها في الأزمات التي يمر منها لبنان، يشكل التحدي الأكبر للنظام الصحي الحالي وتأثيره السلبي على صحة المواطنين وسلامتهم، إضافة إلى البطالة والأمية والفقر والسكن، وغياب الأمن والتغذية السليمة، والتداعيات النفسية والجسدية، التي تشكّل تحديات ناجمة عن عوامل خارج النطاق الصحي، مما يؤدي إلى ازدياد الأمراض المستعصية، كأمراض القلب والشرايين والسرطان والسكري. كل هذه المعطيات تتطلب جهدا وطنيا استثنائيا لا يجوز التهاون به قطعاً.
6- طبيعة النظام الصحي وتعدديته على مستوى التمويل أو تقديم الخدمات الصحية، أصبح مفهوما بعيدا عن الواقع، على الرغم من أن الطبابة حق واجب مكتسب لكل مواطن في بلده. وهذا يستلزم توفير الموارد المالية للعلاجات وجديتها، ما يتطلب جهداً ومواكبة في التنفيذ وتوعية وطنية شاملة.
تقدّر الإحصاءات تقدّر عدد سكان لبنان اليوم بـ 6,800،000 نسمة، من بينهم العمال الأجانب واللاجئين السوريين والفلسطينيين ضمناً، وصل إجمالي نسبة الإعالة 48،4%.
نصف السكان لا يستفيدون من النظام الصحي بالتأمين. والنصف الآخر لايحظون بتأمينات بسبب الصعوبات المالية، وبسبب ازدياد الفقر، وخاصة منذ سنة 2017، وقد ازداد سوء التغذية لدى الأطفال في الوقت الحاضر بنسبة عالية جدا، بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وجشع التجار من خلال تخزين بضاعتهم في اِنتظار بيعها بأسعار أعلى، بحكم تدهور العملة المحلية.
إن صحة المواطنين لا ترتبط بالدواء والخدمات الصحية فقط، بل بسلامة المحيط والغذاء والمياه وغيرها من السلع أيضاً، كما ترتبط بالأمن والاستقرار. لذا على وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية أن تُكوِّنا شبكتا أمان لتأمين الدواء للمحتاجين فورا”.
لا بدّ أن تطال الإستراتيجية الجديدة أنظمة المعلوماتية بين كل المستشفيات، وحتى بين الأطباء أنفسهم، عبر تطبيق نظام إلكتروني موحّد، مثل (DMP) في فرنسا. والهدف منه التنسيق بين كل الإدارات والمستشفيات. وهنا يلغى دور رقابة أطباء الوزارة، كون كل المعلومات ستكون متوفرة إلكترونياً. لذلك يتم تجيير هذه التقديمات للمصلحة العامة وليس لمصلحة المستشفيات أو الطبيب أو غيره… على سبيل المثال، فلا يعود المريض متسولاً على أبواب المستشفيات أو الزعماء أو السياسيين، أو انتظار المراقب للموافقة على دخول المستشفى.
في الخلاصة، يجب تعزيز ثقة المواطن اللبناني بوزارة تسهر على شؤونه الصحية والاجتماعية عبر التطبيق الفوري للبطاقة الصحية الشاملة، وذلك لجميع اللبنانيين المقيمين دون قيد أو شرط، إلى نسبة 65%، وتطوير نظام التأمين عبر تأمين إلزامي ليضمن التغطية الكاملة 100%، بالتنسيق مع القطاع الخاص.
– اعتماد هيكلية نظامية إلكترونية جديدة بكل المستشفيات، تتناسب مع عصرنا الحالي وتؤمّن العنصر البشري الكفؤ لضمان شفافية العمل الصحي بكل مفاصله عبر توحيد آلية طبية مركزية (logiciel centrale)، يكون مركزها وزارة الصحة أو فرع لها تحت رقابة إلكترونية لا شخصية. أما الموافقة الشخصية فتكون من قسم في وزارة الصحة ARS لمراقبة الجسم الطبي والعلاجات الطبية وسلامة الدواء ونظافة المستشفيات وغيرها.
– يجب إعادة تنظيم عمل الصيدليات على أن تكون الوزارة هي المرجع الوحيد لاستيراد الدواء، للتأكّد من الفعالية والشراء بالطرق الأصولية والشفافية المطلقة، مع إحياء عمل المختبرات المركزية وفرض الإنصاف في المعاملة بين كل اللبنانيين.
– يجب رصد الأوبئة، مثل الكورونا على سبيل المثال، وتوظيف كل الطاقات في كافة القطاعات الصحية لمحاربة أي وباء، كما مكافحة الأمراض غير السارية، وإلزام التوعية الشاملة للكشف المبكر عن الأمراض السرطانية والبروستات والقولون وعنق الرحم وغيرها من أمراض القلب والشرايين والسكري… الخ.
– تأمين مصادر التمويل لتوسيع التغطية الصحية الشاملة، كما على الدولة واجب تجاه شعبها، على المواطن أن يكون مسؤولا ومشاركا وفعالا في سبيل استقرار النظام الصحي. على الدولة أن تفرض ضرائب على الأفراد، حسب تفاوت الدخل والشركات بطريقة عادلة وشفافة، بحسب المردود المادي والثروة والأرباح ، وإعفاء الأسر الأكثر فقرا، والذين ليس لديهم أي مردود مادي. لذا يجب جمع الإحصاءات والمعلومات الدقيقة عبر تطبيق المنصات الإلكترونية للتدقيق بكل ملف.
إن تحقيق التغطية الصحية الكاملة والشاملة يستند إلى مبادىء العدالة والإنصاف، والاستعمال للموارد ومحاربة الفقر بإنشاء سلسلة من الخدمات الوقائية، والكشف المبكر على الأمراض يبدأ عبر الطبيب العائلي المعتمد من وزارة الصحة ومواكبة جميع المرضى من الصغر حتى الشيخوخة.
يسمح لكل شركات التأمين وصناديق التعاضد بمشاركة شفافة وفعالة تحت سقف (Sécurité sociale).
تفعيل دور لبنان في الخدمات الصحية للأجانب على نفقة المريض الأجنبي (طبعا باستثناء الحالات الطارئة).
لتحقيق هذا العمل الكبير لرعاية صحية شاملة يجب إعادة رسم الخارطة الصحية من وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، ومشاركة معظم وزارات الدولة المعنية والقطاع الخاص والمجتمع بشكل واضح وشفاف.