في العلاقة بين “السياسي” و “المجتمعي”
حسن زهير
لا نضيف جديداً إذا قلنا إنّ الفاعل السياسي عندما يكون واعياً بالحركية الاجتماعية التي تجري أمامه، تُصبح لنشاطه السياسي مردوديّة أكثر وفعّالية أكبر، وإذا عزل فكره وممارسته عن الواقع المجتمعي، وما يطرأ عليه من تطورات وميول واتجاهات، فإنه يقع دون شك في ما يمكن أن نسميه “السياسة السياسوية” التي تجعله ضحية الانطباعية على مستوى تفكيره والعشوائية على صعيد ممارساته، وبالتالي تُفقده الرؤية الناجعة والرأي السديد.
فمتى سيدرك الفاعلون السياسيون على المستوى العربي الأهمية الاستراتيجية للعلاقة الجدلية بين “السياسي” و “المجتمعي”؟
لا سبيل إلى ذلك إلا بالاقتناع التام بأنّ السياسة تحتاج بالضرورة إلى علوم المجتمع، أي إلى تلك المعرفة المواكبة لقضايا المجتمع وتحولاته المتسارعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. هذا الأمر ينطبق على مُجمل الخطاب السياسي سواء أكان هذا الخطاب صادراً عن السلطة الحاكمة التي من المفترض أنها تتوفر على مؤسّسات لرصد وتجميع المعطيات وتأويلها، أو صادراً عن الأحزاب المعارضة، بل وحتى تلك الخطابات السياسية التي تُصرّف على المستوى الصحفي، والتي أصبحت، مع كامل الأسف، تميل إلى تغطية الفضائح الاجتماعية والمواضيع الفارغة والأسئلة المُزيّفة عوض تحليل الأوضاع الفعلية والقضايا الأساسية التي تهدف إلى تنوير العقول. مثل هذا الأمر هو الذي جعل المفكر عبد الله العروي ُيعبّر عن استيائه قائلا: “السياسة بمعناها العصري طارئة على المجتمع. المفهوم التقليدي، الخلدوني، هو المسيطر على الأذهان. يستولي على الجديد ويوظفه لخدمته، فيجعل من السياسة لعبة صبيان يتسلّى بها الأجانب، وهذه الصبيانيات هي ما يسميها الصحفيون عندنا أخباراً ويستميتون في الدفاع عن حقهم لإبلاغها إلى القراء”. (عبد الله العروي، خواطر الصباح).
ما يزيد من أهمية هذا الموضوع هو ما نلاحظه من تراجع الوعي الاجتماعي في العمل السياسي ومن غياب الإنصات الجيّد للتعبيرات الجماعية لدى مختلف فئات المجتمع. هذه التعبيرات التي تحتاج إلى قراءة متأنية ورصينة بهدف ضبط آليات التحرّك السياسي المناسب لإيقاع النشاط المجتمعي.
إنّ هذا الانفصام بين السياسي والمجتمعي الذي نشاهده في عالمنا العربي يشكّل أحد أهم التشوّهات التي أصابت الحقل السياسي، وقد تمظهر ذلك جليّاً في مجالنا الإعلامي بمختلف توجهاته الإيديولوجية والسياسية وكأن السياسة مجرّد مهنة يجب الدفاع عن موقعنا فيها وبأي ثمن.
في ظل غياب هذه العلاقة الجدليّة بين “السياسي” و “المجتمعي” تصبح “الاستراتيجيات السياسية” عندنا قائمة على رمال متحركة حسب اتجاه الرياح الجيوستراتيجية للدول الكبرى، والتي نعرِف، على العكس مما سبق، أنها تَبنى استراتيجياتها على ضوء الارتباط الوثيق بين توجهاتها السياسية والمعرفة الدقيقة بعلوم المجتمع من سوسيولوجيا واقتصاد وتاريخ، بل وأنثروبولوجيا كذلك.. مثل هذه التخصّصات عند الغير هي التي تؤسّس للمعرفة العلمية المواكبة لأوضاع المجتمع وأحوال الواقع المحيط والمتغير باستمرار.
وقد لاحظنا مراراً، في تلك البلدان المسمّاة ديمقراطية، كيف أن النقاش الداخلي بين الفاعلين السياسيين يكون حاداً وقويا حول مدى امتلاك القدرة على المعرفة السوسيولوجية بالتحولات المجتمعية والمعرفة الاقتصادية بأحوال العالم المعاصر، وشاهدنا كيف تُساهم القواعد العلمية لمؤسسات استطلاع الرأي في رصد مثل هذه التحولات التي تصنع التّمثلات وتؤسس المواقف والقناعات لدى الأفراد والجماعات، الشيء الذي يمنح للعمل السياسي بعداً جماهيرياً لافتاً ومفيداً وهو ما نفتقده في حالتنا.
خلاصة القول لكي لا تكون السياسة عندنا بدون جمهور ونتفادى العزوف السياسي ونسب المشاركة الدائعة الصيت. لابدّ من انفتاح عقل الفاعلين السياسيين على علوم المجتمع من سوسيولوجيا واقتصاد وتاريخ.. الخ، وذلك لمعرفة ما يمور فعلاً داخل المجتمع وفهم تحوّلاته السريعة بهدف استمالة أكبر وأوسع عدد ممكن من الجماهير، وبالتالي المساهمة في تنمية الوعي السياسي لدى المواطنين اللذين يجدون أنفسهم معنيين بالمشاركة في العمل السياسي والانشغال بإشكالاته، الشيء الذي سيدفع، في النهاية، إلى التجديد المستمر لنخب سياسية متمرّسة على النقاش السياسي، وقادرة فعلاً على تحمل مسؤوليات مجتمعاتها بوعي وكفاءة ووفق مصالح شعوبها، أو على أقل تقدير وفق مصالح مشتركة، وليس لحساب الاستراتيجيات المغرضة والمصالح الأنانية للخصوم والأعداء، وفي كثير من الأحيان دون الوعي بذلك.