هكذا تكلم العبد (8)
لحسن أوزين
عندما فتحت باب الحكاية المحظور لم أكن أعتقد أن هؤلاء جميعا كانوا ينتظرون ساعة هذا البوح الجنوني المتراكم في الأعماق. كما لو أن عبئا ثقيلا كان يجثم على القلب والنفس. وربما إذا لم تصبني الطلقة مباشرة فلن أفلت من الشظايا الحارقة. أو يمكن لواحد، على الأقل، من هؤلاء، إن لم يكن الامر يتعلق بهم جميعا، أن يشكك في نواياي، ويسقط علي الكثير من التهم الباطلة. خاصة وأنني ذلك الرجل الأبيض المتهم في الماضي المسكوت عنه في تاريخ العنف والقهر، وفي الحاضر المشؤوم الذي يعاود إنتاج العزل والإقصاء، والنبذ والاحتقار.
لا أزال اذكر أنني استمعت مرارا الى ما كان يحكيه جدي طيب الله ثراه من أن أباه كان قد اشترى عبدا صغيرا ناحية ” أوفوس” قرب سجلماسة، وهي بلدة في الجنوب. وكثيرا ما سمعت حكايات خرافية لتسلية الأطفال يكون فيها لشخصية العبد الأسود دور في قمة البلادة والغباء، الى حد تبعث على السخرية والاستهزاء والضحك. ونحن نرى في هذه الحكايات كيف يتورط العبد في الكثير من المواقف المحرجة، والمخجلة التي تحمل معاني الغباء والبلادة. هكذا تم غرس تمثلات سلبية الى درجة الحط من القيمة الإنسانية للسود في أنفسنا. لذلك كان الأمر عاد جدا أن نقوم بتعييرهم بلونهم الأسود لأتفه خصام،” سرألكحل” ” الحرطاني”” عزي”…
وكان يبدو لنا ذلك طبيعيا أن نقلل من قيمتهم الإنسانية. بل نحن نشعر بنوع من الامتياز العرقي والأفضلية، كما لو أن الامر يخضع لقوانين حتمية طبيعية. وهذا ما كان يمنحنا الحق في حمل هذه النظرة التحقيرية، والتبخيسية، وتفعيلها في مواقف مختلفة، في المس بالسود واعتبارهم بشر من الدرجة الثانية، حيث لا يمكن التسوية بيننا وبينهم.
والغريب في الامر أن الآباء والأمهات عندما يصادفون أي خصام من هذا القبيل، غالبا ما ينحازون ضد السود، حتى ولو كان أبناؤهم في موقف الظالم. والأكثر من هذا، فغالبا ما يكون احتجاج الآباء وابلا من الألفاظ القدحية المشحونة بالتعيير العرقي، الشيء الذي كان يرسخ في نفوسنا شرعية الازدراء البغيض في حقهم.
والآن عندما أتذكر كل هذه العنصرية المثقلة بالكراهية، والتي لا تزال تمارس بشكل مفضوح في النظرة، والعلاقات، والتواصل الاجتماعي اليومي، أستغرب كيف أن الفصول الدراسية هي الأخرى لم تكن رحيمة بهؤلاء. إذ سرعان ما تفلت أعصاب المعلم في الشتم والضرب لجميع التلاميذ دون تمييز في كل درس عسر علينا فهمه، أو لم نحسن إنجازه بالشكل الصحيح المطلوب، حيث لم يكن من حقنا أن نخطئ. إلا أن التلميذ الأسود سرعان ما يناله بالإضافة الى العنف الجسدي، العنف الرمزي، بسبب لونه العرقي المسؤول عن بلادته وغبائه. هكذا يتحول الى كبش فداء يشمت فيه الجميع. عندها ينقلب القسم الى ساحة من الضحك المكتوم الذي لا تقوى تقاسيم الوجه، والنظرات المتبادلة بين التلاميذ على قمعه مهما كان رعب الخوف الذي يتملكنا من المعلم .
لم نكن نعرف حجم الألم الهائل، والعذاب الكبير الذي كنا نزرعه بشكل ساخر، ممزوج بالاحتقار والذل في أعماق هؤلاء الأصدقاء، الذين كنا نتقاسم معهم الكثير من الأشياء في اللعب والرفقة، وفي الدين و الشعائر والطقوس والأعياد الدينية، دون أن نعترف لهم بجدارة معرفتهم بالدين الحق والإيمان الصادق. كانوا دائما محط شك وريبة في امتلاك عقل التفكير السليم. فهم في نظرتنا الغارقة في التمييز العنصري أقرب الى بلادة الحيوان، أو قل ما شئت من حقارة دونية في حقهم، فلن يختلف في قولك اثنان.
هكذا كنا نشعل حرائق الضغينة والكراهية العميقة في أعماقهم، ونحول ذاكرتهم الى محرقة رهيبة، أو قنبلة موقوتة على أهبة الانفجار. أشعر الآن بألم فظيع، وأنا أردد في دواخلي نقدا جذريا، دون شفقة ولا رحمة، لعلي أتخلص من كم هائل من العفن و الحقارات التي استبطنتها منذ الصغر، مخاطبا نفسي بقسوة ملؤها الرغبة في التخلص من القوالب النمطية التي هيكلت الصمائم الأولية لعسر التكيف الإنساني: ما أوسخنا وما أبشعنا، ونحن نحمل هذا التاريخ العطن والمقرف في التجرؤ على الحط من قيمة الإنسان.
فهل كنت بهذه الكلمات أهدم البناءات البغيضة في النفس، وأحرر ذاكرتي من كثير من النفايات النتنة والسامة التي مسخت إنسانيتي، وشوهت الرؤى والأفكار والدلالات التي تربطني بالآخر/السود، كأنا نفسي، معزولا عن حقيقة ثراء الانفتاح الإنساني في كون الآخر جزءا موضوعيا من ذاتي الحية، و نبضي الإنساني؟
هكذا كانت حرقة الأسئلة تلازم ترحالي منبعثة من مناطق معروفة ومجهولة في أعماقي. وكم كنت أتساءل حول السر الكبير في عدم تحريم القرآن امتلاك العبيد. صحيح أن الدين فتح مسالك كثيرة لفك رقبة وتحرير العبيد. لكن السؤال المرعب والمؤلم الذي لازم أحد أصدقائي، وكان سببا في تعرضه لعنف من أبيه حين سأله ببراءة المعذب و المقهور من الحقارات التي كانت تقصيه كل يوم من دائرة البشر، وتسلخ عنه قيمته الإنسانية: لماذا يا أبي لم يحرم الله العبودية؟
فلم لا ترتفع اليوم كل هذه الأصوات ضد هذا السرد المحتشم، المنمق بالاعتراف الخجول الذي لا يقوى على الجهر بخسة ووقاحة وجرم الانسان الأبيض، فيما اقترفته يداه في واضحة النهار من ظلم وقهر واسترقاق، وهدر لحياة وكرامة الإنسان؟
وأنا أسرد كل هذه الحقارات، التي لاتزال تأكل وتشرب وتمشي في الأسواق، وتتعبد في المساجد وتصوم رمضان، وهي تعاود إنتاج خطابات ودلالات ونظرات ورؤى وعلاقات اجتماعية ممسوسة باحتقار السود. فلا بد أن أميط اللثام على الكثير من القذارة التي لا نزال ننتجها في حياتنا اليومية. فغالبا ما يكون اليوم، وضع هؤلاء السود من الميسوري الحال، مستفزا للكثير من أبناء جلدتي. حيث يثير في نفوسنا القرف والتقزز، ولعنة الحقد الممزوجة بلوثة عدوى الكراهية، التي سرعان ما تنتشر بيننا، كلما رأينا واحدا منهم بهندامه الأنيق. عيوننا كانت تتحول بسرعة البرق الى أنياب وحشية لا تكتفي بتمزيق الثياب، بل تحاول جهد الإمكان تمزيق اللحم البشري أشلاء أشلاء. وهل يستطيع الواحد منا اليوم أن ينكر ذلك كلما مر واحدا منهم، وهو على هذه الحال من النعمة والرخاء، والمظهر الأنيق؟ ونزداد استغرابا واحتقانا، كلما اصطدمنا بأحدهم موظفا مسؤولا، أو صاحب مظهر معبر عن شغله منصبا رفيعا. نرى ذلك، كما لو أن خللا ما حصل في الكون، وانتهك قوانينه الطبيعية. الشيء الذي أدى إلى عدم الانتباه الى الشقوق التي تسرب منها هذا ” الصرصور” اللعين الذي لوث المشهد وأساء لصورة اليومي المعاش. تخدشه العيون بعنف واضح صريح، يدركها بقهر قاتل يجبر الأعماق على الانفجار، وهي ترمي على ذاكرته كل الاحتقار والدونية التي تشربها في دواخله منذ الطفولة الى هذه اللحظة الملعونة التي ترفض فيها الكراهية أن تنجلي.
تراقبه العيون، وهي تتفرسه بحقد رهيب، مستنكرة هذا الوضع الجميل والسعيد الذي يتمتع فيه هذا “العبد الحقير”، بكل مباهج ومتع وملذات الحياة. وبعد أن يمر، ويبتعد بخطوات محسوبة جدا، تنقلب كل العيون الجريئة، والمحتشمة زورا وبهتانا، لافتراس ظهره الأعزل، بنوع من الغدر الذي لا تمارسه الحيوانات المسعورة. مشهد مرعب يتخطى في عنفه وشراسته اللمس بالعين. بل يشعر، من خلال، حواسه وجوارحه بالأنياب الوحشية الحادة تمزق لحمه الحي. كما يسمع صمت الكلام القادم من أفواه هؤلاء الغاضبين من إخلال هذا ” الصرصور” بمنازل الناس الاجتماعية، ونظام الحياة والكون. ولا تقف الوحشية العنصرية عند هذا الحد، بل تكبر المأساة الى حد صب اللعنة على الدهر والزمان البائس الرديء، وعلى الآباء والأجداد الذين تهاونوا كثيرا فتركوا خلفة هذا النسل البغيض، تفسد الحياة، خاصة حين يمر رجل أسود في الشارع العام برفقة فتاة بيضاء، وقد تكون غالبا شقراء. رغبة مكبوتة في القتل الهمجي تهتز في الأعماق. في لحظة صغيرة في الزمن، يتهيج الخيال الى حد الجنون المروع، حيث تمزق و تقطع الفتاة بسيوف العيون الحادة التي تستبيح قتل الإنسان…
يتحسرون، ويتألمون، ويلعنون الحاضر الذي يقف سدا منيعا في وجه وحشهم الداخلي، مانعا إياه من ممارسة العنف الهمجي، ومن تفعيل ما يغلي من بدائية، كالمرجل في دواخلهم…
يستلذون صور خيالهم، وهم يرون رأس الرجل صار كرة تتقاذفها الأقدام، وسط الطريق العام تحت وقع صرخات الفرحة الجنونية التي تعتلي الأبدان الهائجة الفاقدة لطبيعة الانسان. والحسرة الملتهبة تخرج من مناطق مجهولة في عش الضغينة والكراهية: آه.. لو أمكن تأديب هذا الوغد، وقتل هذه الكلبة التي دنست وشوهت شرف العرق الأصيل.
أكتب هذا، الآن، وأنا على يقين تام أن لا أحد منهما ينظر إلي بعين العطف والرضا، ولا القبول أو التقبل. فهذا المقهور والمنبوذ عبر التاريخ القديم والحديث والمعاصر، يشكك في نوايا هذا الاعتراف. وذاك الظالم المتخلف والشرس والعدواني، يستنكر ويدين هذا التجاسر في جعل الناس سواسية، لا فضل لأحد على الآخر، دون أي تمييز عنصري في اللون واللغة والعرق…
أشعر بنوع من اللوم العنيف القابع في كل العيون من البيض والسود. أتذكر عشرات المرات التي تورطت فيها رفقة أصدقاء لي في مثل هذه المواقف القذرة، ونحن نسخر بسخط واضح على الزمن الرديء الذي جعل هذا ” العبد، الحرطاني” يتزوج فتاة في مثل هذا الجمال الساحر الأخاذ. وكانت الأسئلة تمتد بنا في أدغال التفسيرات المسكونة بعشرات من المبررات الكاذبة والفظيعة، والشديدة الغموض في محاولة فهم ما كنا نراه من حين لآخر، كخرق لقوانين الحياة المعطاة في ترتيب الناس، وتقسيم المكانة الاجتماعية، والجاه والقيمة الرمزية الأقرب إلى التعالي الإلهي.
مهما قلت أو صرحت واعترفت، فلن أستطيع اجتثاث الضغينة من قلوب السود، ولا من داخل الجوف الحي لأصدقائي، وهم لا يزالون يرددون هذه النعوت المقرفة، والمحطة بالقيمة الإنسانية. وكل القذارة والزبالة التي تربينا عليها منذ الصغر لا تزال سارية المفعول.
“ما أوسخنا ونكابر… “