بطء تفعيل الثنائية اللغوية قد يؤدي إلى بيئة لغوية هجينة

بطء تفعيل الثنائية اللغوية قد يؤدي إلى بيئة لغوية هجينة

 جمال المحافظ

     يقارب سعيد بنيس الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط في كتابه الموسوم بـ«من التعدد إلى التعددية… محاولة لفهم رهانات السياسة اللغوية بالمغرب»، ما يعتبره بـ”الدينامية اللغوية والانتقال من التعدد كحالة طبيعية الى التعددية كفعل سياسي ومؤسساتي”.

   هناك ستة فصول يتضمنها هذا الكتاب الجديد الواقع في 224 صفحة من الحجم المتوسط، هي  «التعدد والتعددية»، و «البيئة اللغوية بالمغرب»، و«اللغة الأمازيغية والدينامية المجتمعية»، و«التمظهرات اللغوية بالمغرب»، و«السياسة اللغوية والتعايش داخل المجتمع المغربي»، وأخيرا «الرهانات المستقبلية للسياسة اللغوية».

   في معرض توصيف الأستاذ سعيد بنيس ومقاربته للتعدد اللغوي في الحالة المغربية، يمكن الوقوف على جانبين منفصلين، الأول يهم اللغة الواحدة، والثاني يتعلق بالنسيج اللغوي الذي يحكمه في نظره تفاعل لغات محلية وطنية وأخرى أجنبية دولية داخل التراب المغربي.

استراتيجية التعددية

   في هذا الصدد، ينطلق  صاحب مؤلف “تمغربيت” من استنتاج رئيسي مفاده أن السياسة اللغوية التي تعتمد استراتيجية التعددية اللغوية، تشكل أهم ضامن للهوية الثقافية والاجتماعية والحجر الأساس الذي يقوم عليه الرأسمال الاجتماعي المشترك، بعيدا عن كل أشكال الإقصاء والتهمي.

   لهذا فإن الكاتب يقر بأنه لا يمكن للسياسة اللغوية بكونها عنصرا من عناصر “القوى الناعمة”، أن يكون لها تأثير، في الوقت الذي فيه واقع التعددية اللغوية “لا يزال في حالة غير مكتملة”، وما زال بعيدا عن التفعيل الرسمي والمؤسساتي للثنائية اللغوية الدستورية.

سياسة لغوية

   وإذا كان بنيس يعتبر – كما دبج في مستهل الكتاب – أن التعدد اللغوي يعد حالة طبيعية لتعايش ووجود واستعمال لغات داخل نفس التراب، فإنه يستدرك ليقول، إن التعددية اللغوية هي وضعية تنتج عن حاجيات ثقافية وهوياتية، قبل أن يخلص في هذا الصدد بالتأكيد على أن ذلك  تستدعي نهج سياسة لغوية تنم عن إرادة سياسية ومجتمعية لتدبير الدينامية اللغوية.

   هكذا عبر الأستاذ بنيس عن اعتقاده الراسخ بأن مداخل التعددية اللغوية، ترتبط بالصيرورة الأحادية والتعدد في إطار مجالات وحقول تداولية تربط بين اللغات الرسمية والوطنية والجهوية والتنويعات الترابية في أفق ما يقترحه بـ”استتباب الأمن اللغوي”، ومقاومة العولمة والميز اللغوي، والهيمنة الرمزية لبعض المنظومات التعبيرية.

  في اطار رصده للبيئة اللغوية بالمغرب، فإن صاحب كتاب «من التعدد إلى التعددية… محاولة لفهم رهانات السياسة اللغوية بالمغرب» يعتبر  – عن سابق إصرار وترصد- ، بأن هذه البيئة، تشكل بيئة ملائمة للتعددية اللغوية من خلال ما يصفه من جهة بتعدد داخلي يهم نفس المنظومة اللغوية، ومن جهة أخرى تعدد خارجي يرتبط بالتقاء لغات مختلفة مثل الأمازيغية والعربية والفرنسية والإسبانية وكذلك الإنجليزية.

الأسواق اللغوية

   هذا الأمر هو ما جعل الأستاذ بنيس يستخلص بأن ذلك ينتج عنه نوعان من الأسواق اللغوية: حددها الكاتب في “سوق لغوية واقعية، وسوق لغوية افتراضية” تتعدد فيها الأنماط التعبيرية والتنويعات التواصلية، وهي على ما يبدو سوقا لتلاقح الأفكار وتحديد المفاهيم، لكن مع ادراج بعين الاعتبار بأن اللغة تظل شأنا مجتمعيا خالصا.

   كما أنه يرى بأن ترسيم اللغة الأمازيغية في علاقته بتفعيل التعددية اللغوية في إطار وحدة الانتماء للمغرب، لا يمكن أن يتم إلا بإقرار التنويعات اللغوية الترابية والتعبيرات الثقافية المجالية (الحسانية وتشلحيت والجبلية وتريفيت والعروبية وتمزيغت)، والبث فيها من طرف المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية.

   فالكاتب وإن كان لم يكتف فقظ بتشخيص واقع التعدد والتعدية، ومقاربتها على المستوى السو سيو ثقافي،  بل تمكن من الذهاب أبعد من ذلك عنما بادر إلى طرح عدة تساؤلات هامة منها على سبيل المثال لا الحصر:

   ما هو موقع نسق التعددية اللغوية في ضبط مكونات الهوية الوطنية بالنظر إلى مقتضيات دستور 2011؟ وكيف يمكن فهم تمفصلات التنمية الديمقراطية وقيم الانتماء والعيش المشترك في علاقتها بآليات السياسة اللغوية ومبدأ الحياد اللغوي للدولة؟

        وإلى أي حد يمكن اعتبار تفعيل وأجرأة التعددية اللغوية عنصرا من عناصر الحداثة المغربية في صيغتها الترابية؟

     وبطرح هذه الأسئلة يكون الأستاذ بنيس قد تحول الى صحفي مهني، لكن ذلك الذي يجيد طرح الأسئلة، لكن في نفس الوقت يسعى الى القيام بعملية استنباط الخلاصات غير عابئ في ذلك بالانشغال بالمقدمات، التي أبرز ما يهتم به المؤرخ على خلاف الصحافي الذي ينشغل بالخلاصات، كما سجل المفكر عبد الله العروي  في كتابه “من ديوان السياسة “.

آليات التعددية

   وانطلاقا من مرتكزات السياسة اللغوية بالمغرب، يواصل الأستاذ بنيس طرح استفهامات وتساؤلات أخرى، في مقدمتها، كيف يمكن تفعيل آليات التعددية في علاقتها بالتمكين الهوياتي والشعور المواطناتي والتحدي التنموي؟

   ما طبيعة العناصر والأسس التي سيعتمدها المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية للبث في مصفوفة التنويعات اللغوية والتعبيرات الثقافية الترابية؟

  وما المنطلقات التي سيتم اعتمادها لمقاربة منظومة الانتقال اللغوي في ارتباطها بالقانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية؟

   وبالنظر إلى رهانات السياسة اللغوية بالمغرب، يسترسل في السؤال بالقول إلى أي حد يمكن للتدبير الرسمي للثنائية اللغوية الرسمية أن يوازي بين التمكين الهوياتي من خلال مبدأ الشخصانية والتوطين الثقافي واللغوي؟

   وإلى أي مدى يمكن للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية أن يستجيب لطبيعة الدينامية اللغوية ويحدد آليات التعددية اللغوية ويغطي مكونات السوق اللغوية ويرقى بالتوجهات الإستراتيجية؟

بيئة لغوية هجينة

   الأستاذ بنيس يخلع هنا “جبة الصحافى”، ليطرح بدون مواربة ودبلوماسية عتيقة، متسلحا، بمقاربة الأكاديمي المجتهد المسلح بالفكر النقدي ، أن بطء تفعيل الثنائية اللغوية الرسمية في الحياة العامة، -يمكن في نظره – أن يؤدي إلى بيئة لغوية هجينة، ستقوض خصوصيات النموذج المغربي للتعددية اللغوية وتفضي إلى اختلالات في مقولتي التنوع الثقافي والتعدد اللغوي واحتباس لغوي على المديين المتوسط والبعيد.

   كما لم يترك المؤلف “مقترحاته ووصاياه” الى الصفحات  الأخيرة من  الكتاب، وكذلك للإجابة على مختلف التساؤلات التي طرحها، ضمنها في فصوله الستة، هذه الفصول  التي تشكل في حقيقة الأمر عنوانين لمشاريع كتب مستقبلا .

   هكذا  اعتبر الكاتب إن من شأن تفعيل مأسسة الأمازيغية، يقتضى  الإجابة عن مطلب الثنائية الرسمية والمساواة الثقافية والعدالة اللغوية في أفق إرساء مفهوم التصالح الهوياتي، وترسيخ الحق في اللغة، وضبط ملامح سياسة لغوية تتلاءم مع منظومة تمغربيت، كما يعبر الأستاذ سعيد بنيس في الوقت الذي لا يمكن فهم التداعيات الهوياتية إلا من خلال اقتراح ملامح سياسة لغوية، تمكن من الانتقال من مقولة الاختلاف الإثني إلى جدلية التعددية اللغوية، وكذلك الارتكاز على التحول من جهوية إدارية إلى جهوية لغوية.

   كما أن من بين النتائج التي خلص إليها الكتاب، اقتراح سياسة لغوية تعترف بجهوية تتأسس على التنوع الثقافي والتعدد اللغوي، هو أن شرط الترابية يمثل أساس مقومات الحداثة المغربية، بالرغم من تعدد المشاريع في هذا المضمار، ما يستدعي بناء سياسة لغوية من داخل فلسفة حداثة ترابية ترتكز على خصوصيات وفرادة المملكة المغربية.

   وبصفة عامة يعد كتاب الأستاذ سعيد بنيس «من التعدد إلى التعددية… محاولة لفهم رهانات السياسة اللغوية بالمغرب»، مساهمة فعالة ومبادرة جريئة في اقتحام الفضاء اللغوي المغربي، من بابه الواسع، وسياقة في منعرجات تمغريبت التي مازالت في حاجة الى سبر أغوارها المتنوعة، لكن بأفق كوني، يتجاوز كل نظرة محافظة ومنغلقة عن الذات.

*مداخلة في ندوة قراءة كتاب « من التعدد إلى التعددية… محاولة لفهم رهانات السياسة اللغوية بالمغرب» للأستاذ سعيد بنيس.

Visited 22 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جمال المحافظ

باحث متخصص في شؤون الإعلام