ليلة المحاكمة (أوراق من سنوات الرصاص)
محمد عبد الإله المهمة
كنا مستغرقين في النوم، قبل أن أصحو مع من أيقظهم صوت الضربات القوية على باب “حي العزلة”. قمنا من مضاجعنا حيث كنا ننام مكدسين “رأسا على قدم”. وقفنا قبالة الباب مثل بقية من تفاجؤوا أو ذعرو، وقد سرت في الأبدان شحنة التأهب لمواجهة تصرف بدا مستفزا أرعنا. كرد فعل أولي، تفوهنا بما أقلق موظف الحراسة الليلية، مصدر التصرف الأرعن. هي رسالة قوية، لنحسسه برفضنا لكل سلوك ينقصه الاحترام. بدل الاعتذار، قال إنه لم يقم سوى بتنفيذ أمر رئيسه في العمل، بإيقاظ نزلاء “حي العزلة” لأمر يهمهم.
يطرق الباب الأخضر المصفح للزنزانة طرقتين، يضغط على الزر فيتخذ الضوء مساحة الغبش المعتادة بالزنزانة إلى ضوء كاشف نفتح فيه عيوننا على مضض.
يعاود الطرق بمفتاحه الحديدي الكبير بقوة – هكذا بدا لنا وقتئذ – مثل حداد يطوع بين مطرقة وسندان قطعة فولاذ استعصت على التشكيل. يكرر العملية دون مبالاة. وقتها استنتجت أن سلوك هذا الرجل صادر عن معرفة مندمجة بذاكرته الطاعنة في العمل أمرا بالسجن.
خلال سنوات الرصاص، لم تحظ ا ظروف السجون والسجناء، سيما في أوساط سجناء الحق العام، بما يلزم من متابعة الصحافة ووسائل الإعلام، لتعرية ما تحجبه الأسوار من فضاعات لا إنسانية. حتى أن لسان حال الغالبية العامة من الناس، كانت تردد بخصوص مؤسسات تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، مأثورة شهيرة تقول: “الداخل للسجن مفقود والخارج منه كأنه مولود”. فلم يكن غريبا أن ينطبع سلوك غالبية العاملين تحت إشراف المندوبية العامة للسجون، بالرعونة والصلف اللذان بلغا في حق المعتقلين السياسيين عدوانية مقيتة، بسبب ما لا يخجل بعض السجانين في ممارسته، من أفعال لا تخضع لأية رقابة قانونية، فأحرى أن يلحقها أدنى تأثر بواعز قيمي وأخلاقي. لا مماحكة في أن الضابط المهني قيد سلوك موظف هذه الفضاءات وشرط استقامته. فكلما غاب هذا الضابط يشرع باب التجاوزات والمزاجبة على مصراعيه.
في وقت متأخر من ليلة الجمعة 24 مايو 1985، قصد رئيس فريق الحراسة الليلية “حي العزلة”، كان بحق مثالا حيا للموظف غير المنضبط. وصل بخطى تميد تحتها الأرض، وكأن غاية قدومه هي زعزعة سكينة سجناء كانوا وقتها في عز النوم.
علاقتنا ببعض من يقدمون الخدمات السجنية في “حي العزلة”، فتح أمامنا ثغرة حول بعض ما يجري بالجهة الخلفية والزوايا المعتمة لسجن “بولمهارز” بالمدينة الحمراء (مراكش). وشيئا فشيئا صرنا نكتشف أن داخل هذه البناية المطبقة على الأنفاس والأجساد المحبطة، هناك من يجرؤ على انتهاك واضح لسلب ما توصلت به من منقول قيم، وليس أمامك سوى الاستسلام لمشيئته أو تجرع مرارة جبروته. أما إذا حدث ونلت نزرا من عدم قسوته تجاهك، فستكون مجبرا على شكره والإقرار له بفضله عليك.
لن أنسى أنه شخص تمتع بشيء من خيال واسع، وفي مجمل الحقيقة هو مجرد كذاب خفيف الظل.
فضلا عن مداعبته المفتاح الحديدي الكبير بين يديه، كان لا يتوفر على غير الوشاية، ومهارة المقارنة بين حاضر السجن وماضيه خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. يرسم صورة قاتمة لعالم غرائبي لا حق فيه للسجين أن يتسلم خبزة يومه، قبل تسليم قفة من سعف النخيل من إنجازه. يتذكر سجينا مضت عليه عدة سنوات لم يقلم أثنائها أظافره، فصارت ليديه ورجليه مخالب أكبر من مخالب نمر. و يسرد قصة آخر اختار الانزواء، فعاش في عزلة داخلية رهيبة، وحين أخبر بعد عقد من الزمن، بقرار العفو عليه مما تبقى له من العقوبة، ظل صامتا. كمن ابتلع بالمرة لسانه، نسي علامات الفرح وضاعت منه لغة الكلام.
كان بحق عدوانيا متأهبا للبطش، مثال لعينة ذات حظوة ومكانة اعتبارية من نوع خاص.لا يحمل مفتاحا، غير أنه يتحكم في مفاتيح البوابات أو الأبواب جميعها. هذه العينات، لم يلغ وجودها أو يخفف من وطأتها لحظات المرح العابرة، أو الجدية والاجتهاد في متابعة الدراسة الجامعية، من أجل الحصول على شهادة عليا تمكن من تحسين وضعه الاجتماعي والارتقاء به نحو الأفضل.
إن أقسى ما تنطوي عليه سلوكيات موظف السجن، هو زرع الأمل الكاذب في نفس محكوم يائس. فبدلا من رأفة محروسة، هناك من يستهويه ترديد معزوفة الشطط في ممارسة الخدمة. لا يثنيه عن فعله غير التودد له بعرض إتاوة تليق بدرجة شططه.
فبسبب من غباوته، غاب عن هذا الموظف التفريق بين الأذى الملحق بالغير وبين ضوابط الوظيفة. يحمل الرجل فوق كاهله ما ينيف عن عقدين من الخدمة بهذه الإدارة. عمر، عاين في أعقابه أنواعا مختلفة من السجناء، حوكموا على إثر جنح وجنايات قضت فيها المحاكم. فهل سلوكه نتيجة صلف كامن؟ أم مجرد رد فعل، بسبب ترقية تزحف نحوه ونحو أمثاله، زحف سلحفاة فوق رمال متحركة؟
مرارا تأملت كيف كان يلف أصابعه حول الدورة الإهليجية لقوس المفتاح الحديدي الكبير، وكيف يديره بخفة العارف قبل فتحها، لإغلاقها في وجه من سيعاشرون بعد انسحابه حياة مثقلة بالأسى والضجر.
– طاق.. طاق.. طاق.. طاق
على وقع طرقاته الصاخبة، يصرخ صائحا بالصوت الخامل لموظف أتعبه روتين السنوات الطويلة من العمل في مؤسسة السجن:
– يالله يا الله.. طاق.. طاق.. طاق.. طاق
لقد أفنى في داخله الإحساس بحجم ما يلحق بالغير من أذى نتيجة سلوكه الأهوج. فلولا ذلك، ما تأنى لنا الحكم بعدم سلامة قلبه، ولا الاعتقاد في أن ما يعتمل بداخله ميل غريزي للعنف، صنع منه سجانا فظ الظاهر، ملتبس المظهر. متى كانت هناك الحاجة لتصير المراقبة الصارمة، معادلا لتعكير هدوء إقامة السجناء؟ ألم يكونوا أحرارا قبل أن تكسبهم أوضاعهم الاجتماعية من الوعي ما يهدم الهوة المفترضة بين السجن وخارجه؟
- “طاق، طاق، بسرعة الله يرحم الوالدين”…
أول الاحتجاجات صدرت من الزنزانة رقم (1) ومن الزنزانة رقم (2)، احتججنا بدورنا، كذلك فعلت الزنزانة رقم (4)، ثم تلتها الزنزانتين رقم (5) ورقم (6).
وسط لجة الاحتجاج واللامبالاة، وصل رئيس المعقل . دخل الحي سريع الخطى، وخلفه يهرول نفر غير قليل من الموظفين. تغيرت حدة الطرق بعدما أنهى فتح الأبواب جميعها وجنح للصمت منزويا في نهاية الممر.
توقف صلف الرجل المتعب، وما توقف دفق ضجيج غص به الممر الطويل. كنا ندلف نحو الساحة المظلمة هاربين من شعاع أضواء لم تتحملها عيون تفارق نومها على مضض.
خروج يذكر بأجواء مصارعة الثيران، جاموس يحرره فرسان الكوريدا من ظلمة مخدعه الموحش إلى النور، مما يضاعف من حدته توتره، ويعلي من درجة اهتياجه.
بدت السماء كقباب سوداء، كأنها خيام قوم رحل، لم يختاروا من مجال لنصبها غير ما جوار أشجار الزيتون الضخمة. الجميع يتأمل المنظر في ليلة ترقب وفرح قصي مغمور بالسهاد. لم أفقد إحساسي بانبلاج وانطفاء النجوم في جوف السماء. فلم يمض على عهدي بها هكذا، نيازكا تسطع في الأعالي البعيدة، سوى نصف سنة. حصيلة ما مر على مجموعتنا، بدءا من الاحتجاز بـ”درب مولاي الشريف”، أو بـ”فيلا جليز” سيئا الذكر، إلى الإحالة على هذا “الرخ ” الجاثم على صدر مراكش، منذ اتخذت منه سلطة الحماية ، دهليزا تزج فيه برجال الفداء حماة الوطن.
– ياك لا بأس أشّاف؟ سأله مباشرة (م، ي)
– ستحالون على المحكمة.
– لسماع الأحكام؟
-غالب الظن.
– أدركت هذا من طريقة إنهاء جلسة الصباح
آخر الجلسات
كانت دعوة ذاك الموظف، وهو يدق باب أول زنزانة، مفاجئة لنا، لكنها لم تحمل ما يفيد مداهمة ليلية، ولا اقترنت بها إشارة لعملية تفتيش بغاية الاستفزاز وبث الرعب في صفوف المعتقلين اليساريين الغارقين كل في كوابيسه وأحلامه .
لا أحد من بين الرفاق استبعد التفكير في المحاكمة، وبرئيسها القاضي إدريس بن الزاوية، الذي خاض منذ البداية في سجال ساخن، و في جدال حاد أحيانا، سواء مع الأضناء أو مع هيئة الدفاع:
– الأستاذ الفقيد محمد بادي: رجل يزن العدالة بميزان عدل شيده بالدربة وسعة الإطلاع. تميزت مرافعاته التعبير المكثف والإيجاز المحمول بالإشارات القانونية والفقهية. هو جارنا بحي الدوديات، أنا والرفيقين جمال بنيوب وكمال سقيتي. زاملني أحد أبنائه منذ أول ما وطئت قدمي ساحة “مدرسة الزيتون”. لما سألت عنه الأستاذ (م.ي) أفادني بأنه يمثل مرجعا للمحامين. يلجأ إليه البعض كلما تعلق الأمر بوثيقة قانونية أو بمرجع فقهي، فلا يدخر جهدا في تقديم العون والمساعدة المطلوبان. ترشده حواسه، فيقف قبالة رئاسة الجلسة معللا أو شارحا، إلى أن طفح به الكيل جراء ما رافق سير المحاكمة من خروقات فصاح محتجا:”منذ اليوم الأول ونحن نتقدم أمام محكمتكم بالدفوعات ولا نتلقى منكم سوى الرفوضات”. لم تكن هذه كلماته، وإنما هي شحنة حامية، قذفها كيان ملتهب. ومن فرط حرارتها الكاوية اهتزت بالضحك أرجاء قاعة الجلسات عن آخرها. ضحك القاضي، وضحك ممثل النيابة العامة، وكاتب الضبط، والمحامون، والأضناء وعائلاتهم، غير أنه كان ضحكا على سفور الحقيقة أمام التعتيم على جوهرها.
قامت محاكمة “مجموعة مراكش 84” على المواجهة بين إستراتيجيتين متوازيتين لن تلتقيا إلا بمشيئة من الله أو بقرار سياسي. أولاهما لدفاع تعمق في تفكيك مقتضيات قانون المسطرة الجنائية، معربا عن جوهر منطوقها، معللا مضمرها، مؤكدا على أن الأخذ بمحاضر الضابطة القضائية لا يجري إلا على سبيل الاستئناس – سيما المنجزة خارج الآجال القانونية المقررة – وأن جوهر القانون و روحه أن يشدد على أن الأصل هو البراءة، وأن إنزال الجزاء العادل لابد له، إلى جانب الحجة الدامغة والدليل المقنع من الاستناد على ما يصرح به الضنين أمام المحكمة.
ثانيتهما، استراتيجية ممثل النيابة العامة، الذي يطالب بإنزال أقصى العقوبات بالمتهمين الماثلين في الجلسة. معتبرا المحاضر والمحجوزات (كتب، مجلات يسارية عربية ومغربية..)، دلائل ووسائل إثبات تستوجب الإدانة وفقا لفصول المتابعة. يتصدى للدفاع، كما أن قلمه ينبري للرد بقوة على أي اجتهاد بلوره الدفاع، أو تكييف يدعو إليه، سواء كانت الغاية إقناع هيئة المحكمة ببطلان المحاضر أو دعوتها لإلغاء أو تغيير فصول المتابعة. فكان يبرر تعارض مدد الحراسة النظرية – بلغت بالنسبة لمعظم المعتقلين مدة شهر- لدى الضابطة القضائية، مع ما ينصص عليه المشرع، بتعلق الأمر بمؤامرة ضد أمن الدولة. متجاوزا التعليق على تصريحاتنا المقرة بتعرضنا بمكاني الاحتجاز السرية، للتعذيب الجسدي والنفسي. لم، يخض حتى في حالات تم خلالها اعتقال وتعذيب أفراد من عائلات المتابعين المبحوث عنهم، وهو ما حصل مع الأستاذ صلاح الدين الحامدي، وعبد الإله بلهواري.
عموما، فإن ممثل النيابة العامة كان كثيرا ما يتدخل دون إذن من السيد رئيس الجلسة. فيعترض أو يفند أي دفع أو ترافع يروم إسقاط تهمة المؤامرة ضد النظام. نهج هجومي، يستغل عامل الزمن، وبالسعي نحو استغلاله لأقصى حد ممكن يقلص المجال على حقوق الدفاع، مما أجبر صاحب الصوت ذي اللكنة السوسية السلسة على مخاطبته محتجا، لكن بنخوة وصولة المحامي المتمرس على المساطر، العالم حدود أدوار الأطراف الفاعلين في سير العدالة، طبقا لما تقرره أحكام القانون وفي نطاق مقتضياته. لما ارتفع صوت لأستاذ أحمد أبادرين اتجهت نحوه أنظار غصت بحضورها القاعة، من يحفل منهم بالإبصار ومن يولي كل اهتمامه بالبصائر، حيث قال:
– السيد ممثل النائب العام، إذا كان مهندس هذه القاعة قد جعل مكانك فوق، في نفس موقع هيئة القضاء فذلك خطأ منه، لا واجبا عليه. لأن موقعك هنا، وأشار إلى الأسفل حيث يقف السادة المحامون. لهذا ليس في وارد حق ممثل النيابة العامة عدم تقيده كلما رغب في الكلام عدم طلب إذن السيد رئيس الجلسة والانتظار إلى أن يأتي عليه الدور.
إفحام قانوني منطقي، لأستاذ جبل على التمسك بما هو حق له منذ نعومة أظافره. فلولا هذه الدافعية الفطرية فيه، لضاعت عن الطفل القروي فرصة الولوج إلى المدرسة التي فتحت أمامه اليوم فرصة الترافع من أجل إقرار العدالة. في سيرته الذاتية، قرأت أن احمد الصغير، بكَّر ذات يوم فوصل قبل حشود الوافدين من قبائل “أحمر والسراغنة والرحامنة”، لحضور مقابلة الأطفال الراغبين في التعليم العصري، في حضرة مديرها الذي لا يقبل غير من علت مكنته في حفظ واستظهار القرآن، وفق ما يطلب منه. فرغم بنيته الضعيفة لم يستطع ولو نفر واحد سحب أحمد من مقدمة الطابور، الذي لم يسبقه إليها أحد. حيث تمسك بصلابة بخرصة باب جامع ابن يوسف الموجود بـ”الطالعة”*. فكان أن دخل قبل الجميع، وتفوق في اجتياز المقابلة.
تساءلت، هل سيسجل السيد كاتب الضبط هذه الملاحظة الاحتجاجية؟ أم ستمر فوق سمعه كما يمر الهواء ساخنا بقاعة الجلسة؟
لم يكن يترك شاذة أو فاذة من وقائع المحاكمة إلا و دونها بقلمه المتعود على مسايرة إيقاع الجلسات للمحاكمات. رغم ذلك جال هذا السؤال بخاطري.
أثناء مرافعته، أبهر الفقيد الأستاذ الغرباوي الحضور بحضوره المعتبر وبعمق ثقافته القانونية الرفيعة. فهو المحامي العارف بما يتصل بفصول المتابعة من اجتهادات فقهية، ما صدر منها عن المجلس الأعلى أو عن محكمة النقض. وبقدر ما يعتمد اجتهاداوطنيا، يتوسل مقاربة قانونية مقارنة فيضرب المثال تلو المثال، بموقف هيئة ما أثناء نظرها في نازلة مشابهة أو مماثلة. مهنيا، تسعفه كفاءة خاثرة، وغزارة علميه واسعة، لذا كلما ضرب مثالا، تنتبه المحكمة إلى أن الرجل لم يخطئ المحاججة ولا الإقناع بسداد ترافعه. ينتقل من لغة إلى أخرى، فيتلو على رؤوس الأشهاد نص حكم أو اجتهاد وهو يعربه تعريبا فوريا، من اللغة الفرنسية أو الاسبانية إلى اللغة العربية، متحصنا بقاموس فصيح لا يخطئ المعنى أو ينحل مبنى العبارة. رأيت في الرجل شجرة سنديان عالية، تتقدم قاعة الجلسات. تارة يتوجه إلى ممثل النيابة العامة، وأخرى يقف قبالة رئيس هيئة الحكم، يلوح بوثيقة، وقبل تلاوته لمضمونها، يناشده أن تتحلى محكمته بسعة الصدر. يدخل يمناه تحث بذلته السوداء ليسحب نظارات طبية ثانية، ينزلها فوق التي ينظر عبرها لما يجري بالجلسة، تم يقرأ بصوت جهوري يتوزع صداه في أرجاء القاعة الفخمة. يعلل أو يفند أو يفحم ما يصنفه ممثل النيابة العامة في خانة “الشيء المقضي به”. وقبل أن ينهي الكلام وينسحب، يدنو من السيد رئيس الجلسة، ويطلب إضافة الوثيقة لملف القضية. يعود بتؤدة إلى الخلف، بوثوق الأستاذ الألمعي، حاملا في واضحة النهار الفانوس المضيء لطريق العدالة.
بعده، ينهمك بقية زملائه في متابعة ترافعهم، كل حسب دوره المقرر وقف قواعد وتقاليد هيئة المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان بالمغرب. طيلة شهر المحاكمة، وأنا أمعن التأمل في هذا الشيخ الذي وهب عمره للبذلة السوداء، فتطالعني محياه المليح، ذي الحمرة الساطعة فوق بياض وجهه الحليق، وخصلة شعر مستديرة لفها شيب كثيف وجعلها مثل كبة من غزل الصوف. جانبية متفردة ومظهر يستلزم التوقير، مما جعل رفقائه في درب المهنة بمراكش، يلقبونه تحببا بـ”هوميروس” اعتبارا لمظهره الموحي بشكل متخيل لمبدع الإلياذة والأوديسا.
لما جاء الدور الشاعر الغنائي المغربي، والفاعل السياسي والحقوقي، الأستاذ عبد الرفيع جواهري، ساد الصمت القاعة، إن لم يكن احتراما، فتهيبا من حضور يشبع شغف العين المتابعة وفضول الفؤاد المتملي. يتسلطن الرجل على مقامات وبنظير قامات من أبدعوا في أداء ما شيده من عالم فاتن لـ”راحلته” الخالدة، وشكله صورا متوهجة لـ”قمر أحمر أطل خجلا وجفن الدجى حوله يسهر”، ولصدى “باسطا” يا أيها الجناة بيننا و بينكم كتاب دم”. هو أناقة تمشي على كعب غزال، ففضلا عن البذلة السوداء المسجاة على روحه العذبة، تتجلى في نبرة ومخارج صوته. مرافعة تعب لغة من قواميس كبار الشعراء، وتستدعي للاستدلال ما يليق بالمقام من مدونة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتاريخ السياسي للبلاد. يؤدي واجبه بجسارة من قدت مهاراته المهنية وقناعاته الفكرية من معدن حزب القوات الشعبية زمن “حزب القوات الشعبية”.
بعده، ولج المايسترو إدريس أبو الفضل المعترك. درست على يده بالسنة الإشهادية ابتدائي خلال موسم 73/74 . لن أنسى ما حييت، حكاياته وأحاديثه بالصوت الهامس وهو يمر بين الصفوف، يتوقف خلف تلميذة أو تلميذ، يعدل نظاراته الطبية، فينعكس لون زجاجها الأخضر على محيط عينيه. يدعوها أو يدعوه ليردد بعده اسما طالما حدثنا عنه. كنت في عمر يترنح بين طفولة متقدمة ويفاعة في مرحلة الطراوة، حينما أودع هذا المدرس بمخيلتي، شخصية تحمل من الأسماء “عمر بنجلون”، كما أنه أهوس تفكيري بما رواه عن مسار زعيم سياسي، ذهلت لما صادفت أن صيت الرجل ذائع مثل اسمه خارج القسم وسور المدرسة. فلا الوالدة تجهل من يكون، ولا الوالد غير عارف بمسار كفاح المهدي بن بركة ولا بموته مقتولا في بلاد الغربة. (يتبع)