كمْ هي تراجيدية فلسطين التراجيدي!
سعيد بوخليط
مع حلول صبيحة يوم الأحد، الرابع عشر يناير ألفين وأربع وعشرين، تكون قد انقضت غاية الآن مائة يوم على الصعق السادي لأفراد الشعب الفلسطيني؛ أساسا داخل قطاع غزة. استعراضات دموية للذبح اليومي، بل كل لحظة دون تراجع ولو ثانية واحدة.
مشاهد قاسية جدا طيلة مائة يوم، يستحيل على كل عقل سليم، يمتلك أبسط مقوِّمات التعقُّل، تقديمه تأويل لغوي يحترم ذكاء صبي غرٍّ، وتفسيره لماذا يوجد القتل أساسا؟ لماذا يموت هؤلاء البشر كأنهم ليسوا قط بشرا؟ لماذا تتمّ إبادة الفلسطينيين من طرف أمريكا-إسرائيل/ الغرب، بغير رحمة.
نتيجة ماجرى ويجري وسيجري، تكشف أرقام الحساب صدقا، عن عجز وقصور اللغة بخصوص نسج عبارات ترصد مايقع، جراء مفعول إلقاء ما يزيد عن تسعة وعشرين ألف قنبلة:
عدد المجازر: 993 مجزرة.
عدد القتلى: 23ألف مدني (ضمنهم 10 آلاف طفل، و 7 آلاف امرأة).
عدد الجرحى: 60 ألف.
عدد المفقودين تحت الأنقاض: 7 آلاف مفقود.
قتلى الصحفيين: 82 صحفيا.
عدد النازحين: % 85 من بين مجموع ساكنة غزة البالغ عدد أفرادها 2.2 مليون نسمة.
الخسائر المادية: تدمير ثلثي شمال قطاع غزة، 77 % من المستشفيات خارج الخدمة، 26 % من الفلسطينيين يواجهون خطر المجاعة، إلخ.
حتما، هي أرقام ستنفتح وتتمدَّد تمدُّدا صوب أبعاد فلكية، مادام مضمار القتل يتَّسع بجموح لايُتصور، وقد تأخذ دلالاتها مستويات غير متوقعة.
بناء على مقتضيات السياق، نحَتَ الفلسطيني الأسطوري بمعالم هذه المقاومة التي تفوق حدود الأفق، معجما إنسانيا أكثر منه لغويا، خاصا به وحده، يصعب صياغته بالألفبائيات المعهودة:
*الحياة: أن يستحق تجربة الحياة، حرّا شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، مثلما يريد،ثم بالكيفية التي يلزمها أن تكون.
*الموت: سعي صميمي، لاستتباب دواعي الحياة. لاموت يليق بذاته، سوى عبر حياة تتسامى بهويته.
*الوطن: أكبر من كل جغرافية أو استحقاق إداري. الوطن شعرية عذبة تكمن عند مكامن انبعاث حيوات الفرد. إحساس يُعجز معجزات اللغة، مركَّب للغاية ومتداخل كثيرا، يستحيل اختزاله أو تثبيته ضمن إطار معين.
*الصمود: الفلسطينيون نبراس معلوم لتحدِّي البقاء، لذلك أشارت باستمرار أدبيات التحرير العالمية، على أنَّ قضية الشعب الفلسطيني تمثل قياسا للتاريخ المعاصر، أطول قضية استعمارية، دشِّنت مع النكبة سنة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، ووطِّدت تعقيداتها جراء النكسة سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين. كان يسيرا بحكم التقادم والاعتياد، الإجهاز على القضية وتجفيف منابع حمولة ذاكرتها، لولا صمود الفلسطيني يوميا طيلة كل هذه العقود.
*اليوميات: اليومي عنوان ميَّز بامتياز الوضع الفلسطيني، داخليا وخارجيا، لذلك استمرت القضية حيَّة، لا تغادر أبدا طاولات هواجس استراتجيي العالم. كل يوم يصنع الفلسطيني حدثا معينا، يتَّسم غالبا بالنوعية، يراكم بحسبه معطى جديدا ضمن مجريات التاريخ.
*الطفل: يحمل الطفل الفلسطيني منذ سنواته الأولى على عاتقه قضية كبيرة، وفق نبرة زمنية مختلفة عن باقي الأطفال. طفل، لا يحيا طفولته بالمعنى المدرسي للكلمة، لأنه أكبر من طفولته تلك، لكنه يستمر رغم تقدم سنوات عمره، حاملا بين دواخله طفلا كبيرا. يعشق وطنه بعناد طفولي، مهما قدموا له أو توخوا ابتزازه أو مقايضته. هكذا، تستعيد الذاكرة النقية، شعريات أطفال الحجارة منذ أواخر الثمانينات. وتظل أيقونة حنظلة ناجي العلي، اختزالا لكل تفاصيل هذا الجانب: ”ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لاتنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء…، كتَّفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأنَّ المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبِّع”. حين سؤال ناجي العلي بخصوص موعد الكشف عن وجه حنظلة، وتحقُّق إمكانية رؤيته من لدن الجميع، أجاب: ”عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدَّدة، ويسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته” (ناجي العلي).
أيضا، جسَّدت تراجيديا قتل الطفل محمد الدرة، أبرز مثال للتوثيق التاريخي بخصوص إعدام القوات الإسرائيلية لفلسطين الطفولة، والسعي الحثيث إلى اجتثاث ينابيع الطفولة الفلسطينية.
*المرأة: إنها مِرآة الحياة بكل أصولها الجينية و هرموناتها الخلاَّقة. لاشيء بوسعه التجلي بجلاء دون الحدوث النسائي المتسامي، إحالة على جلِّ معاني الحياة دون الموت؛ فقط الحياة، الخصوبة، الحبّ، الجمال، الحِضن الرحب، العطاء اللامتناهي.
لقد بلورت المرأة الفلسطينية، نموذجا لاتخطئه السُّبل فيما يتعلق بالتمثيل المباشر والملموس على إنجاب المقاومين، وبثِّ بذرة روح المقاومة لدى تشكُّلات الأجيال الناشئة. أشهر أعلام النساء الفلسطينيات؛ من باب الإشارة وليس الحصر: يسرى البربري، حلوة زيدان، شادية أبو غزالة، فاطمة برناوي، ساذج نصار، ربيحة ذياب، زكية شموط، دلال المغربي، سميرة عزام، طرب سليم الأحمد عبد الهادي…
*الانبعاث: ينبعث الفلسطيني بلا كَلَل من جوف رماده، كي يبعث ثانية مايجدر به، أن يكون محض هوية للحياة. والحال كذلك، استمرت رمزية فلسطين عبورا نحو إنسانيتنا، بتصديها للهمجية الصهيونية.
قليلة هي التجارب الإنسانية، التي وجدت نفسها موصولة بمثل هذه الاختيارات الوجودية المصيرية، ربما امتلكت جماعة معينة خيار تدبيج وصيَّة رسالة من هذا القبيل، مما يوجب تضحيتها بالمعطى المعتاد عبر ركوب مغامرة البعث وإحياء قيم الحياة ثانية، فتنال شعلة المجد. عكس ذلك، قد يتسيَّد الارتداد المكان نظرا لصعوبة المهمة أو استحالتها، حينها تستمر كيمياء التحلُّل والتآكل غاية خجل الموت من نفسها.
طبعا، انتصر الفلسطينيون إلى الاختيار الأول ثم امتطوا صهوة التحدي. مسار طويل اكتسى بلا شك إيقاعات تتباين مستويات أبعادها، حسب مخاض تحرُّري ليس بالسهل.
إذن، طيلة مائة يوم؛ والمعركة مشرَّعة مفاجآتها على جلّ الاحتمالات، تتابع الإنسانية برمتها معركة قاسية جدا في غاية البشاعة، بين المقاومة الفلسطينية الأضعف من الناحية التقديرية لوجيستيكيا، وعتادا وعمقا استراتجيا، يكمن سلاحها الفعال في اقتناع أفرادها المبدئي بفكرة شرعية قضيتهم وإيمانهم الثابت بتضحياتهم مع مؤازرة معنوية لمختلف شعوب العالم، في مواجهة جيش إسرائيلي يمتلك تحت تصرفه ترسانة متطورة جدا،عدَّة وعَدَدا، ودعما مطلقا لامشروطا من أمريكا ثم منظومة الغرب والعرب الرسميين.
وضعية قتالية أظهرت من الوهلة الأولى، اختلالا مهولا على مستوى توازن القوة بين الطرفين، مما يجعلها حربا غير عادلة بتاتا، افتقدت لمقوِّمات الحرب الرسمية والتقليدية، سواء من خلال ندِّية الأطراف وكذا طبيعة المضمار بحيث يلزمها أن تجري بعيدا عن المناطق الآهلة بالمدنيين، واستحضار وصايا أخلاق الحرب.
تمرَّدت إسرائيل على مختلف ذلك، كي تضع نصب عينيها هدفا بعينه يتمثَّل في تخليص محيطها وفق مختلف أشكال الإعدامات من المدنيين العُزَّل أو ”الحيوانات”حسب التأويل الإسرائيلي، بدعوى القضاء نهائيا على أفراد المقاومة.
طيلة اليوميات المئوية المنبعثة من جحيم الجحيم، ساد الموت الجبان مختلف أرجاء غزة بأبشع الأشكال وأكثرها دناءة وقسوة، وانكشفت الخبايا منذ الأيام الأولى نتيجة القصف الأعمى، ثم إعلان القيادة العسكرية الإسرائيلية على ضرورة إخضاع الفلسطينيين لجبرية اللاءات الثلاث: لاطعام، لاماء، لاكهرباء. بمعنى، الجميع ميِّت.
إنها حرب إبادة قذرة تتوخى محو المكان من الخريطة، وتحويله إلى مقبرة ضخمة تطوي دون أثر يذكر البشر والحجر، ومن خلالهما مختلف عناوين الحياة الفلسطينية.