تأكيد العَهْد واليمين في ذكرىَ يوم الأرض الثامنة والأربعين

تأكيد العَهْد واليمين في ذكرىَ يوم الأرض الثامنة والأربعين

 د. محمّد محمّد خطّابي

       كلما حلّت ذّكرى يوم الأرض يقوم الفلسطينيّون بفعاليات، و يُحيُون تظاهرات استذكاراً، واستحضاراً لهذا اليوم، وتحتفل معهم كلّ شعوب  العالم الحرّة المُحبّة للسّلام، التي تتفهّم وتؤيد قضيتَهم المشروعة، وتمسّكهم وتعلّقهم، بأرضهم، وثراهم، وحقولهم، وأشجارهم، وبحارهم، وحوضهم، وديارهم ووطنهم  المسلوب والمكلوم.

    وقد عبّر الشّعب الفلسطيني منذ الثلاثين من شهر مارس من عام 1976 لإسرائيل أنهم لن يتنازلوا عن أراضيهم، كما عبّروا عن استعدادهم  الكامل للتضحية بأنفسهم وأرواحهم من أجل هذه الغاية الشريفة. وقد عمل الكيان على تضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين الذين كتبوا، ونقشوا، وحفروا، ونحتوا، وهتفوا، ورفعوا عبارات، وشعارات التحدّي يجدّدون فيها العهدَ، ويؤكّدون العزمَ على الوفاء لأرضهم الأمّ الرّؤوم، وما فتئ الفلسطينيّون يرفعون أغصانَ الزيتون النديّة عالية في مختلف قِباب المحافل، والهيئات، والمنظمات الدوليّة تعبيراً منهم عن حبّهم، وتمسّكهم بأرضهم ونزوعهم للسّلام. وما إنفكّت وكالات الأخبار، ووسائل التواصل الإجتماعية تمطرنا، وتعيد إلى أذهاننا في كلّ يوم شذرات من الأخبار، والأحداث التي ظلّت راسخة في ذاكرتنا، وتعيدها إلينا في هذا التاريخ الذي كان صرخة مدوّية في وجه سياسات المصادرة، والظلم، والتعنّت والتنكيل، والتهويد التي نهجتهما إسرائيل في الأراضي، والقرىَ، والضيع، والمداشر، والعشائر، والأرباض الفلسطينية لإقامة المُستوطنات وتفريغها من سكانها  الحقيقيين الشرعيّين.

    ذكريات أليمة  وحزينة  عاشها الشعب الفلسطيني منذ إبعادهم وإقصائهم عن بلدهم عام 1947 من أجل القضاء على هذا الشّعب واستئصال جذوره، وطمس هويّته، ومحو جغرافيته، وتشويه تاريخه، وطمس تراثه في حملات لا تنقطع باستعمال مختلف ضروب الحِيل، والدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ إنطلقت الإنتفاضات  تلو الانتفاضات حيث طفق هذا الشّعب في كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي المجيد، وعمل على صون هويّته، وكرامته، والحفاظ على جذوره، واستعادة ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعيّة.

   وما فتئ الاشقاء ومعهم بعض الأصقاء يذرفون الدّموعَ، وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالى، وفي رَحِمها، وخضمّها تتولّد، وتنبعث، وتستجدّ الأحداث، وننسى، أو نتناسى ما فات من المآسي  والتهويد والإبادة الجماعية  والتجويع وكلّ ما هو قاسٍ  وهو ينثال أمام أعيننا، ومسامعنا، ونكتفي بالتفرّج، والتحديق، والتهليل، والتعليل، والتحسّر، والتأسّي بلغة باكية، شاكية، كئيبة، حزينة. ما أكثرَ ما نعود الزمانَ القهقرى لنعانقَ التاريخَ، ونستلهمَ منه العبرَ، والحِكمَ، والدروسَ، وننقّبَ عن مناقب جديدة لاستئناف مسيرتنا، وما إنفكّ العالم ينظر، ويحدّق، ويتأمّل، ويتفرّج بدون إكتراث.

    وما برحنا نستذرّ العالم تعاطفه ورضاه، ونستجدي رحمته وتضامنه، إنّنا قومٌ حالمون، ومُنبهرون، مَشدوهون، منشغلون بإطفاء الأوار المُستعر وسط ساحاتنا، ومياديننا، وحول مرابضنا، وأرباضنا، وإخواننا الفلسطينيون ما برحوا يعانون الشّقاق، والتباعد، والتنابذ، والتشرذم، والخلافات، والأمل ما زال  معقوداً على التسامح، والتصافي، وإقصاء العناد والتجافي، ورأب الصّدع، وإلتئام الفصائل ،والبحث عن البدائل، وتسخير كلّ الطاقات، والخِبْرات، وبلوغ التصالح الموعود، وتحقيق التقارب المنشود.

    تاريخنا حافل، وماضينا تالد، وتراثنا زاخر. إننا قومٌ كُثر، والكثرة قوّة، قالها ذات يومٍ فارسٌ من حيّنا قال:  كان أجدادنا: (لا يسألون أخَاهم حين يندُبهم / في النائبات إذا قال برهانَا…)! وقال شاعر آخر  إنّهم: (حُشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ /إذا ألمّت بهم مَكرُوهةٌ صَبرُوا….)! وأردف آخر: (وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم /حتى يحالفَ بطنَ الرّاحَة الشّعرُ..)! وأضاف آخر من إيّاهم جاهراً: (تُعيّرنا أنّا قليل عديدُنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل… إذا المرء لم يدنس من اللؤم عِرضُهُ  /  فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ)! وعلى الرّغم من كلّ ذلك  فإنّ أعوادَنا ما زالت هشّة، طريّة، واهية،  ننطلق بلا بَوْصَلة، ولا هادٍ، ولا مُرشدٍ نحو بطولات فردية واهية لا طائل تحتها..!

    كلٌّ منّا يحمل صخرته السّيزيفيّة على ظهره ويمضي، كلٌّ يَحمِلُ هُمومَه، وقلقَه، وهواجسَه،ونكدَه،وضنكَه، وأوهامَه على كاهله ويمضي، ولا أحدَ يبالي  بما يجري في فلسطين  الجريحة، ولا يأبه  بآلامها ومعاناتها، ولا أحد يكترث بأحزانها وعذاباتها.

    إنّنا قوم نذوذ عن حوضنا بسلاحنا، قالها “زهير” في جاهلية القوم ـ مشهود لنا، ومشهورون بالصّفح والتسامح والإيثار..! رحماء فيما بيننا، معروفون بثنائيّات الجَلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.!، حتى وإن كانت بنا غِلظة، وحتى وإن كانت بنا أثَرَة. إننا معروفون بهذه الثنائية المُركّبة التي طالما تغنّى بها نبغاؤنا، وصدح بها شعراؤنا، في ماضي الأزمان ، إننا ما برحنا نردّد مُتباهين  في بلاغةٍ مُبهِرة:

نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /  على أنّا نذيبُ الحديدَا…

طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادنا الغيدُ / ونقتادُ في الطِّعان الأسودَا…

 وترانا يومَ الكريهة أحرارا / وفي السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا…!

    خلّد الشعب الفلسطيني على الرّغم من المحنة الكبرى التي يجتازها الذكرى الثامنة والأربعين ليوم الأرض، أحداث مؤلمة خبّأها القدر لأبناء هذا الشعب الذي تمّ إبعاد العديد منهم خارج وطنهم، وأرضهم، وعن ذويهم، وأحبّائهم، وخلاّنهم قهراً وقسراً، وعُنوةً، وظلماً وبهتانا.. فانتشر منهم الكثير في بلاد الله الواسعة في غياهب المهاجر، ومنازل الاغتراب، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه، ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم، وبُعدهم عن وطنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم بالجَلد، والتحمّل، والصّبر، والتمرّس، والتمنّع، والمواجهة، والمقاومة، والتحدّى، والإصرار، والنضال الذي لا ينطفئ لهيبُه، ولا يخبُو أوَارُه.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا