متعة القراءة في “شجرة الكينا تخون أيضا”

متعة القراءة في “شجرة الكينا تخون أيضا”

لحسن أوزين

       تحتفي “شجرة الكينا تخون أيضا”، المجموعة القصصية لماريا عباس، بمحن وتجارب وآلام النساء. تسلط الضوء الإبداعي عليهن، وترفض التواطؤ مع الصمت القهري، وتركهن في الظلال المعتمة للقهر والطغيان الاستبدادي للنظام السياسي السوري، والنظام الأبوي بنزعته الذكورية التي لا ترحم كرامة وإنسانية النساء، وفظاعات التيارات الدينية المصطنعة كوكلاء حرب للقوى الإقليمية والدولية.

    هكذا من قصة لأخرى نتعرف على شخصيات نسائية في آلامهن، وتجاربهن المفعمة بالقهر والعنف والخوف والإرهاب، وشتى أنواع الاغتصاب النفسي والجسدي والروحي، والقيمي الإنساني. تمنحهن الفعالية الإبداعية للكتابة الصوت المقموع، والكلام المكبوت، والتطهير المخلص من عقدة الذنب والتأثيم. قصص تكتب أشياء كثيرة من التاريخ الذي غالبا ما يدفن في سراديب المنسي، والمسكوت عنه.

    تشتغل الكتابة القصصية على أصواتهن المسجونة بين جدران المهمش والمنسي والشخصي المهدور. وتعلي من شأن كرامتهن وقيمتهن المغبونة، والمقهورة بفعل سطوة الاستبداد الديني والسياسي والمجتمعي الأبوي. تنسجها في حكايات، وهويات سردية تسمح لها بامتلاك معنى طالما افتقدته عبر التاريخ الأبوي.

    وفي تفاعل القارئ مع هذه القصص يشعر بفرح كبير، ومتعة فنية عالية في قدرة الكتابة القصصية على تكريم هؤلاء النساء. ومنح معنى إنساني أصيل لمحنهن وآلامهن وكفاحهن ضد كل أشكال الظلم والحقد، والغطرسة المشحونة بالقهر للإنسان، وللنساء خصوصا.

    نادرا ما تسلط الأضواء في المجتمعات الأبوية المحكومة بأنظمة استبدادية، أو في ظل الثورات والحروب والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، على ما تعيشه النساء من معاناة وآلام وقهر مضاعف، ومتعدد الأشكال والصور. وغالبا ما لا يثير ذلك حساسيات القيم الاجتماعية والثقافية التي تشكل تصورات وتمثلات المجتمع. واعتبار ما تتعرض له المرأة في هذه الظروف المؤلم والمرعبة، شيئا عاديا و قدرا طبيعيا لا يتطلب الاهتمام والانشغال و التأريخ، والمعالجة والدعم المادي والمعنوي. وضد هذا المنطق والرؤية، في التفكير والابداع، والاهتمام والعمل، كتبت ماريا عباس قصصا جميلة في غاية العمق الفني الممتع.

1- عنف العلاقات الاجتماعية، والعاطفية الجنسية

    تعري المجموعة القصصية العنف الزوجي، وانعكاساته الخطيرة على حياة المرأة من كل الجوانب النفسية والجسدية. حيث تتعرض لمختلف أشكال الاغتصاب النفسي والجسدي، والمهانة والمذلة. تكشف هذا العنف في صور مشوهة، بنوع من بلاغة السخرية في الحط من قيمة سطوة فحولة الذكورة، الممسوسة بمسخ التصورات والتمثلات الأبوية التي تنحت الانسان الأجوف، الأقرب الى مزق النتانة العطنة. يحدث هذا في الوقت الذي تمتلك المرأة قوتها وإرادتها في تحطيم أغلال العبودية التي أسسها النظام الاجتماعي الأبوي القهري، كقوانين طبيعية تغتصب كرامة، وعمر وحياة النساء.

“تترك سقيمو مرميا على الأرض معفرا بين تراب الدار وبوله، يتابع ثرثرته باكيا كطفل صغير، مسترجعا كل القسوة التي نحتته على هيئة مسخ”. 14

     تضعنا قصص المجموعة أمام حالات إنسانية مشوهة، معطوبة و منخورة من الداخل، بعد أن سلخت منها إنسانيتها البنيات الثقافية الاجتماعية القهرية، للنظام الابوي بنزعته المركزية الذكورية. وتحول هذا المسخ لفحولة الذكورة السائلة فظاعة وعدوانية، الى وحوش بشرية تمارس القتل المادي والنفسي، الفوري أو البطيء. يحدث هذا في كل السياقات والظروف والعلاقات السامة، التي انخرطت فيها كل نساء المجموعة القصصية، الى حد كراهية الذات والأخر الممسوس بلوثة وسطوة استبداد الذكورة. التي تختزل النساء الى مجرد موضوع وشيء صالح للمتعة واللذة والاستغلال المؤقت المحدود الصلاحية والاستعمال. حيث يمكن التخلي عنهن في أقرب فرصة ممكنة، دون أن يرف جفن الضمير الانساني للمسخ الذكوري المشوه.

“فقدت كل رغبة في العلاقة مع زوجها، فلم تعد تشعر بالانسجام معه. أكلت نصيبها من عطائه في التعنيف المستمر بين الشتائم والاهانات والضرب والحرمان في كل شيء…

    إن لم تجدي علاجا لمرضك، فسوف أتزوج بامرأة ثانية. سأقترن بأنثى تحمل في جسدها عضوا طبيعيا يمكنني الاستمتاع به كل يوم، وليس مثلك تملكين عضوا معطوبا.” 42

    إزاء هذا التسلط والهدر للقيمة الإنسانية غالبا ما تلجأ المرأة الى التفكير في الخلاص، من خلال الانتحار. بسبب الانهيارات النفسية والعصبية والعقلية التي يولدها إرهاب العنف المستمر بأشكال ووسائل مختلفة. إلى درجة تفقد أي معنى لحقيقة وجودها الاجتماعي الإنساني.

2 – عنف رعب الخوف

    داخل شقوق القصص، وبين طياتها الفنية يسكن رعب الخوف الذي تجتافه المرأة، لا لشيء إلا لكونها أنثى، فتاة في مقتبل العمر، أم لمجموعة من البنات، أرملة شهيد، هاربة من الوحوش الدينية، مهجرة بفعل ضغط ويلات الحروب والاقتتال، تائهة في الصحراء أو الادغال، لاجئة…

    قدرها أن تستبطن الخوف، ويصبح جزءا منها لا تقوى على فك الارتباط العبودي القهري بسطوته جنونه التسلطية. لذلك عليها أن تحسب ألف حساب لكل خطوة تقدم عليها، أينما ولت وارتحلت. لذلك لا يتوقف عداد الذاكرة عندها، ينزف باستمرار بصور العنف والرعب والخوف المميت والرهيب. حيث تستيقظ تجارب الماضي المؤلمة عند كل محنة مروعة وشديدة القسوة (هاربة من الحرب، لاجئة، مهجرة، أرملة…). أو خلال موقف يقدح بشرر عنف الذكورة المغتصبة والقاتلة. أحاسيسها وجوارحها مكلومة معفرة بالخوف السادي. إنها في حالة تأهب وطوارئ قصوى، تخشى بحدس التجربة التعرض للأذى في أية لحظة.

    لذلك يصعب عليها أن تصدق المساحات الآمنة في بلاد اللجوء. لأن ذاكرتها النفسية والعاطفية والعقلية والعلائقية الاجتماعية، موشومة برعب الخوف المرئي واللامرئي الذي يهدد أمنها وأمانها باستمرار.

“كيف لا وأنا جالسة أحادث إوزة وكأنها خالتي، جاملتها بلطف: صدقت أيتها الإوزة الحكيمة، كنت يوما هناك، لكن لم تعد الحياة تمتلك أي طعم هناك، وامتلأ العالم وبالكثير من المخلوقات البشرية الغريبة الأطوار التي لا تكتفي فقط بتسبب الأذى للحيوانات، بل بالغت حتى في إيذاء البشر، ولم تعد تريد الخير حتى لبني جلدتها، فبرعوا في صناعة شيء مهول للغاية أسموه الحرب، نهم الحرب، وها أنا الهاربة من بلاد الحروب الى هنا حيث أنا وأنت. لعل الإوزة أشفقت لحالي.

  • لا تخافي انظري الي، هأنذا لا أخاف هنا من البشر، لأنهم يحاولون حب الحياة بكل ما فيها، يحبون الأنهار، الحيوانات، ويحبون أنفسهم، لا يمكن لأحد إلحاق الأذى بنا نحن الطيور.” 60 و 61

3- عنف الإرهاب الديني

    “في صباح مختلف جدا من يوم أحد غفلت عن حراسته ملائكة السماء. استغرقت في سبات عميق، واقتحم البلدة قطيع من الغرباء. كانت ذئابا رمادية هائجة وجائعة ارتجفت الطرق من قدومها. لم تشفع لها تلك الخيوط الجميلة من أثواب الفتيات، ولا إشعال الشموع، ولا المساجد والكنائس. اجتاح البلدة رجال بلحى تصل الى بطونهم، وتتراشق من حناجرهم صيحات عالية، يسخرون بها من البشر، ويكررون تلك العبارة “الله أكبر”  “الله أكبر”  ” الله أكبر”. 69

   هكذا تضافرت أشكال مختلفة من العنف في اضطهاد المرأة وقهرها. ويزداد وضعها سوءا وهدرا في ظل الجماعات الدينية المتطرفة. فقد أتت أغلب قصص الكاتبة ماريا عباس على هذا العنف الهمجي الذي يسحق النساء وجوديا، حيث يتم تدمير كل مظاهر الحب والجمال والحياة والفرح. وينشرون الإرهاب والحزن والموت والخراب. فهذا العنف الإرهابي آلة جهنمية رهيبة مدمرة للحياة ومظاهرها. هذا ما عاشته النساء في هذه المجموعة القصصية. وهي تفر من سحق وإبادة، أو اغتصاب للكرامة، وتحويلهن الى مجرد سلع رخيصة تباع في أسواق النخاسة، إحياء لزمن العبودية البائد.

هذا ما لمسناه بفنية رائعة في مجموعة من النصوص: “سقيمو المسخ”، “حدث في خيمة”، ” آخر مشهد لمقاتلة كردية”، “ترنيمة الحب”…

4- الحب يسقط قناع ثقافة الذكورة للنظام الأبوي

    في بلدان الخوف والموت والإرهاب الديني والسياسي، وفي ظل الأنساق الثقافية والرمزية، والأنظمة الاجتماعية الذكورية، تعاني النساء أنواعا مختلفة من الاضطهاد والقهر، بشكل مضاعف ورهيب. وهذا ما يجعل العلاقات الاجتماعية عمودية سلطوية، أبوية ذكورية، خالية من الاعتبار والتقدير للقيم الإنسانية التي تنص عليها منظومة حقوق الانسان.

    هذا ما تناولته المجموعة القصصية لماريا عباس بفنية عالية، بعيدا عن الخطاب التقريري الأيديولوجي المباشر. ومع القراءة من قصة لأخرى تتفكك بشاعة وحقارات النظام الابوي. كاشفة هشاشته القيمية والأخلاقية الى درجة وصفه بالمسخ. كما تبين ذلك في شخصية “سقيمو المسخ” كحالة اجتماعية ثقافية تخص المجتمع ككل ولا تنحصر في سقيمو كفرد، الذي يظل مجرد رمز للمجتمع المسخ.

  حيث سرعان ما تُسقط وقائع الحياة المعاشة الأقنعة البراقة للحب والحياة التي تختبئ وراءها القيم الاجتماعية الثقافية للنظام الأبوي الذكوري.

   هذا ما تبينه بوضوح شخصية روان في قصة “في جزيرة رودوس”. حيث يسقط القناع المزيف للحب الجميل البعيد عن وحشية الدافع الجنسي، والاستغلال البشع للمرأة في التحايل عليها بكلمات معسولة، والقريبة الى خطاب الطعم الغادر، في النظر الى المرأة كفريسة للمتعة واللذة والتخلي عنها في أقرب فرصة، باعتبارها منحطة وساقطة، وغير مهتمة بشرفها الرفيع بالمنطق والدلالات الذكورية. يتعرى روان ويظهر على صورته الحقيقية كرجل شرقي يسكنه التسلط والقهر وثقافة الحريم.

” – ما بك “قربان”؟

-إنها الكلبة أختي، رأيتها برفقة شاب أعرفه، وأياديهما متشابكة… سأشبعها ضربا حين أصل البيت…

– قليلة أدب، تشبه بنت الشوارع، سألقنها درسا لن تنساه.

– كررت سؤالها، وقذفته بجملتها، إذا أنت الآن مع أفضل بنت للشوارع، وأكثر واحدة قليلة أدب في الحي بأكمله.

    أما روان كان خارج كل شيء عاد كما كان. خلع عن نفسه الرداء الذي لا يناسب مقاسه وأعاد لعينيه حقيقتهما ونسي تماما أن من معه كائن تشبه أخته”. 79 و80

    وواصلت المجموعة القصصية كشف مستور العلاقات الاجتماعية الذكورية المحكومة بالانفصام السيكولوجي الى حد إنتاج شخصيات ذكورية مزدوجة. تجمع بين كراهية الذات والأخر: المرأة، وفقا لتناقضات نفسية عاطفية اجتماعية مدمرة للذات وليس فقط للمرأة، وساحقة للحب والحياة بكل معانيها ودلالاتها السعيدة والجميلة المنمية للذات والأخر، في نوع من الاثراء والنماء المتبادل.

    تسقط أيضا أقنعة الشرف الرفيع للثقافة الذكورية البعيدة عن الأصالة القيمية الإنسانية، في قصة “عريس البحر” حيث الرجل ينظر الى نساء الاخرين كعاهرات يحق له استغلالهن، وفي الوقت نفسه يقدس أهله، ويكاد يميز نفسه دون الاخرين بالشرف الرفيع، وفقا لثقافة الحريم الأبوي.

    “هذه الشقية يجب ألا تخرج من البيت، وإلا سأقتلها بيدي. ينقصنا أن يتحدث الناس عنا ويقولوا أن ابنتنا وقعت في غرام الأستاذ الساحلي الذي لا ينتمي الى ملتنا. ليس لدينا فتيات يقمن علاقات قبل الزواج. وانهال عليها ضربا. وقفت الأم بجسدها أمام ابنتها لتوقف ضربات ابنها، لكن الأب هنا أقدم على اكمال حفلة الضرب والتأديب أيضا”. 107

الهامش

ماريا عباس- شجرة الكينا تخون أيضا، مجموعة قصصية- الطبعة 1س، 2023.

Visited 123 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي