الكره للروس أصوله وتاريخه.. أو لماذا رهاب الروس؟ (2-3)
د. زياد منصور
السؤال هو: لماذا تعادي أوروبا روسيا؟
لقد طرح عالم الأحياء والفيلسوف المفكر الروسي نيقولاي دانيليفسكي هذا السؤال عام 1867 في عمله “روسيا وأوروبا”. وأشار إلى نفاق الساسة والمجتمع الغربيين، الذين شنوا حرب القرم ضد روسيا عام 1854، متهمين روسيا بانتهاك النظام الأوروبي، وعندما هاجمت بروسيا والنمسا بلاد الدنمارك الصغيرة عام 1864 لانتزاع مقاطعتين منها، لم ينطق أحد ببنس شفة في “أوروبا المستنيرة”، من عملية التعدي والنهب هذه! “ما هو الفرق؟” – يسأل دانيليفسكي. وستظل روسيا دائما غريبة عن الغرب.
“إن الشعور اللاواعي، والغريزة التاريخية، يجعل أوروبا تكره روسيا. أين هي النظرة الحيادية هنا؟ يبدو لأوروبا أن كل شيء روسي وسلافي يستحق الازدراء… لا يمكن للروسي في نظرهم أن يطالب بالكرامة الإنسانية إلا عندما يفقد مظهره الوطني بالفعل (8).
عندما تقرأ مقالات عن روسيا في الصحف الأوروبية، والتي تعبر عن آراء وعواطف الجزء المستنير من الجمهور؛ وأخيرا، عندما تتتبَّع موقف الحكومات الأوروبية تجاه روسيا. سترى أنه في جميع هذه المجالات المختلفة تسود روح العداء نفسها، وتتخذ، حسب الظروف، شكل عدم الثقة أو الحقد أو الكراهية أو الازدراء…
“يمكن العثور على تفسير مرضٍ لهذا الظلم السياسي وهذا العداء الاجتماعي فقط في أن أوروبا تعتبر روسيا والسلافية شيئًا غريبًا عنها، وليس فقط غريبًا بل معاديًا أيضًا ” (9).
أعطى دانيليفسكي إجابة على سؤاله: الفارق يكمن في أن روسيا والغرب هما حضارتان منفصلتان وغريبتان بشكل كبير عن بعضهما البعض. إن الفضل في هذا الاكتشاف العظيم في علم التاريخ ينتمي إلى الفلسفة الروسي – فكرة تعدد الحضارات البشرية وتعددية التطور التاريخي.
روسيا ليست حضارة!
تدريجياً، تم تبني فكرة تعدد خيارات التطور التاريخي في علم التاريخ الغربي، الذي رفض مساواة العالم كله بالمعايير الغربية. ومع ذلك، فإن هذا لم يقلل من رهاب الغرب من روسيا – فبينما يعترف الغرب بحق روسيا في التنمية المستقلة للصين والهند ودول الشرق الأوسط، لا يزال ينكر حق روسيا في أن تكوِّن نفسها.
ويجب أن يكون هذا مرتبطا بحقيقة أن روسيا لم تعتبر نفسها دائما مجرد واحدة من الحضارات، بل باعتبارها حارسة النظام العالمي المقدس، ووريثة الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، روما الثالثة. وهذا الموقف للحضارة الروسية يتناقض مع خطط الغرب للاحتفاظ الأبدي بالهيمنة العالمية.
ليس – من قبيل المصادفة- أن الدافع الرئيس للدعاية المناهضة لروسيا في العالم هو “عدم أهلية ” روسيا ودونيتها مقارنة بالغرب، والتهديد الذي يُفترض أنه ينبعث منها تجاه العالم المتحضَّر. لذا: فإن أساس رهاب روسيا في الغرب هو رفض روسيا كحضارة مختلفة ومستقلة، ورفض روسيا باعتبارها تهديدًا لهيمنة الغرب على العالم.
بدأ تطور رهاب روسيا الأوروبي مع عصر تشكيل الدولة الوطنية الروسية، عندما رفضت موسكو الأرثوذكسية، في عهد الأمير الأكبر فاسيلي الثاني، مجمع فلورنسا والاتحاد مع الكاثوليكية الرومانية، وتحولت في عهد إيفان الثالث إلى إمبراطورية عظمى.
كانت أوروبا مذهولة في بداية حكم إيفان، حيث كانت تعرِف -بالكاد -عن وجود موسكوفيا، التي كانت محاطة بالتتار والليتوانيين، وذهلت بالظهور المفاجئ لإمبراطورية ضخمة على حدودها الشرقية، حتى أن السلطان بايزيد، الذي كانت ترتجف أوروبا أمامه، سمع- لأول مرة- الكلام الموسكوفي المتغطرس” (10) – كتب كارل ماركس، الذي كان لديه أيضًا رهاب روسيا.
خلال الفترة الأولى من العلاقات الغربية مع روسيا، سيطرت المواقف المتوازنة والمهتمة وحتى في بعض الأحيان على تقييمات الرحالة الغربيين. ومع ذلك، كانت هناك في أوروبا قوى مهتمة بشكل مباشر بانتشار رهاب روسيا – وكانت هذه الدول المجاورة لروسيا: الدولة البولندية الليتوانية والنظام الليفوني، الذي كان يمتلك الأراضي المسلوبة من روس في القرن الثالث عشر وكان يخشى المطالبة بإعادتها.
اختراع مصطلح “موسكوفي” “موسكولي”!
بعد أن استعادت روسيا سمولينسك إلى أراضيها عام 1514، بدأ الملك البولندي سيغيسموند الأول، بنشر مواد دعائية في أوروبا، ادَّعت أن بولندا تمثل الخط الدفاعي عن أوروبا، ويحميها من تهديد “البرابرة في موسكو والآسيويين والزنادقة”.
صاغ الدعاة البولنديون مصطلح “موسكوفي” في محاولة لإثبات أن روس لا علاقة لها بموسكو. لقد حاولوا إجبار المؤلفين والكتَّاب في الدول الأوروبية على إطلاق مصطلح “روسيا” فقط على غاليسيا التي كانت في حوزة وتحت سيطرة بولونيا، وسعوا بكل ما أتيوا من قوة لفرض مصطلح “موسكوفي” و”الموسكوفيين” على روسيا والشَّعب الرُّوسي (11).
أصبحت الهستيريا المعادية للروس في أوروبا نشطة بشكل خاص خلال عصر الحرب الليفونية تحت حكم إيفان الرهيب، عندما قامت روسيا بتصفية النظام الليفوني وهاجمت بولندا، وحررت الأراضي البيلاروسية. كان الكومنولث البولندي الليتواني والسويد والدنمارك في حالة حرب ضد روسيا في وقت واحد. لقد انتشرت في أوروبا “المنشورات والكراسات” المعادية للروس وبدأتن تنتشر بشكل نشط، والتي تصور “برابرة موسكو” هم يقتلون سكان ليفونيا، ويطلقون السهام على النساء المشنوقات والمتدليات من الأشجار، في وصف خيالي غير واقعي، فتحول المحتل إلى ساع للسلم، والمحرر للأرض إلى إبليس.
ولإنكار حقوق روسيا في ليفونيا، بدأت في الانتشار أطروحة مفادها أن الحكومة في روسيا هي حكومة “الطواغيت”، يرأسها “طاغية قاس”، القيصر -“إيفان الرهيب”- الذي يعذب رعاياه ورعايا الآخرين. ومع ذلك، لم يتم إظهار أي تعاطف مع رعايا الطاغية المزعوم نفسه، حيث تم الإعلان عن أنهم “عبيد” لا يستحقون الحرية والدولة.
خلال هذه الفترة، تشكلت الخطوط الرئيسية لرهاب روسيا الأوروبي – روسيا دولة ذات شعب همجي وحكومة وحشية، ليس لها الحق في متابعة سياساتها الخاصة في أوروبا ويجب تقييدها وكبح جماحها في آسيا بقوى الدول المجاورة، والتي يجب أن تساعدها أوروبا كلها (12).
إلا أن محاولات حل المسألة الروسية بالقوة، عبر التدخل المباشر في روسيا في عصر الاضطرابات، باءت بالفشل. في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، لم تكن الروسوفوبيا في أوروبا تحمل طابعاً واضحاً. في الحرب مع روسيا من أجل أوكرانيا، لم تتمكن بولندا من جذب أوروبا الكاثوليكية إلى جانبها.
كما لم تنجح محاولات الدعاية التي قام بها كارل الثاني عشر خلال الحرب الشمالية في التوجه إلى “بربرية الموسكوفيين”، رغم أن الروسوفوبيا في السويد نفسها كانت في ذروتها في تلك الفترة.
“وصية بطرس الأكبر”
ارتبطت الزيادة الهائلة في رهاب روسيا في أوروبا بسياسات الحكومة الفرنسية في منتصف القرن الثامن عشر. “أنتم تعلمون بالطبع، وأكرر ذلك بكل وضوح، أن الهدف الوحيد لسياستي تجاه روسيا هو إبعادها قدر الإمكان عن الشؤون الأوروبية. جاء هذا في برقية من الملك لويس الخامس عشر إلى الوكيل الفرنسي في سانت بطرسبرغ: “كل ما يمكن أن يغرقها في الفوضى، في الظلام السابق، مفيد لي”.
مع بداية الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ازدادت العداوة تجاه روسيا، الخصم الرئيسي للثورة الفرنسية والتوسع الإمبراطوري في أوروبا. بدت الرسوم الكاريكاتورية في الصحافة الإنجليزية، سخيفة بشكل خاص في ذلك الوقت إلى درجة التفاهة، والتي صورت ألكسندر سوفوروف، القائد العسكري الروسي، كعملاق ملتح وآكل لحوم البشر (13).
تم نشر كتابات مزورة في الصحافة العالمية لما سمي بـ “وصية بطرس الأكبر”، والتي كانت تعرض خطط الإمبراطور الروسي المزعومة للسيطرة على العالم عن طريق شن حروب مستمرة.
ويعزى ظهور هذا التزوير التاريخي حول الوصيَّة المزعومة في أوروبا إلى الجاسوس الفرنسي المتنكر شوفالييه دي إيون، الذي قام بمهام تجسس، بما في ذلك في البلاط الروسي في عهد إليزابيث بتروفنا. ومع ذلك، فإن النسخة النهائية من التزوير صاغها الأيديولوجي البولندي المعادي لروسيا، ميخائيل سوكولنيتسكي (الذي أطلق -لأول مرة -على روسيا مصطلح “إمبراطورية الظلام”) (14). وقد استفاد نابليون بونابرت من عملية تزوير سوكولنيتسكي هذه لتبرير غزو روسيا في عام 1812.
لقد خطط نابليون لإعادة دولة القياصرة الهائلة إلى آسيا من أجل جعل موسكو بوابة الحضارة الأوروبية، واستبدالها بمملكة بولندا القوية والمتجددة هناك كحرس متقدم”، هذا ما جاء في كتيبات الدعاية خلال غزو روسيا من قبل التحالف الأوروبي بقيادة بونابرت.
سلوك الفرنسيين في موسكو، ونهب وتدنيس الكنائس، والإرهاب ضد المدنيين، كانت كنتيجة مباشرة لادعاءات رجال الدعاية المعادية لروسيا في أوروبا. ومع ذلك، واجه الجيش الفرنسي هزيمة ساحقة في روسيا. الآن جاء دور رسامي الكاريكاتير الروس للسخرية من الفرنسيين الذين يأكلون ويتغذون من الغربان.
كان على الصحافة الفرنسية الآن أن تشرح أسباب دخول القوزاق إلى باريس، وكذلك حقيقة أنه تبيَّن أنَّ الجيش الروسي ليس بربريًّا بل كان منضبطًا في شوارع باريس. لقد عادت هذه الصحافة لتجتهد في مسألة هذا الدخول بالقول: أن هناك انضباط فولاذي في روسيا” يسمح للروس فقط بتحقيق الانتصارات، بالإضافة إلى أن الروس كانوا يقاتلون بطرق غير نزيهة — حيث كان “الجنرال شتاء” يقاتل إلى جانبهم (سوقت الدعاية نفسها لانتصار السوفيات في الحرب الوطنية العظمى عام 1945). (يتبع)
المراجع:
8- دانيليفسكي نيقولاي، روسيا وأوروبا. سانت بطرسبورغ، 1871، ص. 13.
9- المرجع نفسه، ص. 3 (باللغة الروسية).
10-شافاريفيتش، إيغور روستوسلوفوفيتش، روسوفوبيا، إكسمو، 2005، ص.8.
11- إيليين، ألكسي نيقولايفيتش، الروسوفوبيا، 2018.
12- روسيا وبولندا: التغلب على الصور النمطية التاريخية. نهاية القرن الثامن عشر – بداية القرن العشرين. دليل لمعلمي التاريخ. الطبعة الثانية، موسكو: دار النشر “العالم كله”، 2019.
13- كارا مورزا، سيرغي، روسوفوبيا الغرب، ملامح التحولات العالمية: السياسة والاقتصاد والقانون. 8(1)، 2015، ص.ص. 6-14.
14- شوبينسكس، سيرغي نيقولايفيتش، الوصية المزورة لبطرس الأكبر، سانت بطرسبورغ، دار كروموليت، مطبغة غراتسيانسكي، 1877 .ص.12.