حسين مروة.. من الحوزة الدينية إلى الأممية الشيوعية
سعيد بوخليط
قياسا إلى نخبة المفكِّرين العرب النهضويين خلال القرن العشرين، الذين واصلوا جميعا تشكيل مرتكزات أنساقهم النظرية والمنهجية، على السعي إلى الإجابة دائما على السؤال المطروح غاية اللحظة، منذ القرن التاسع عشر جراء حملة نابليون على مصر: لماذا تقدَّم الغرب وتخلَّف العرب؟
أقول، جسَّد المفكّر اللبناني حسين مروة حالة إنسانية مميَّزة إلى حد ما،نتيجة حالتين وجوديتين، طبعت مسار شيخ الماركسيين العرب.
أولا، تحوُّله المعرفي الجذري من مشروع فقيه ورجل دين شيعي بامتياز، مثلما تجلَّى هذا النزوع تماما خلال مرحلة الطفولة والشباب، قبل أن يأخذ السعي وجهة ثانية مغايرة كليا للوضع السابق، بحيث صار حسين مروة ماركسيا خالصا ضمن طليعة أبرز الشيوعيين داخل بلده لبنان ثم على امتداد المنطقة العربية، يستند استنادا يقينيا عبر روافد حياته العلمية والعملية على مرجعيات المادية التاريخية الجدلية ومفاهيم الأدبيات الماركسية.
ثانيا، دفع حسين مروة دفع تكلفة اختياراته تلك، بجلده قتلا،فقد اغتيل عمدا بمسدَّس كاتم للصوت داخل منزله في بيروت يوم 17 فبراير 1987، وقد بلغ من الكِبَرِ عِتِيَّا، من طرف ثلاثة عناصر مجهولة، تأرجحت أغلب التخمينات على تأكيد انتمائها إلى حركة أمل أو حزب الله، تنظيمي الطائفة الشيعية اللبنانية التي ينحدر منها، بل هناك من يشير إلى تورُّط أجهزة استخباراتية عربية، لأنَّ حسين مروة بقي غاية آخر دقيقة في حياته عدوَّا لدودا لمخططات الاستعمار والرجعية والأصولية والتخلُّف والطائفية، داعيا في المقابل إلى الاستماتة دفاعا عن مجتمع التحرُّر والتقدم والعلمانية والمدنية، لذلك كرَّس حياته وفكره قصد مقاومة مختلف ذلك.
اختبر حسين مروة فكره واقعيا، كما عاش فعليا تجربة الانتقال”الصعبة”، دائما من خلال بناء متن معرفي يدخل كل مثقف حقيقي دوَّامة صراعات وجودية ليست بالهيِّنة، تتجاذبه من لدن كل الأطراف المناقضة، ويلزمه محاورتها وتبيُّن السبل نحو أجوبة استدلالية، يقتنع بها أولا شخصيا بكيفية عميقة، قبل القدرة على إقناعه الآخرين. ربما، امتلك بهذا الخصوص ميزة تقويض تقليدين سلبيين، صاحبا الفكر العربي المعاصر، منذ انطلاق شرارة أسئلته النوعية المتعلقة بوعي الوعي.
تتعلَّق المسألة الأولى، بتلك التمثُّلات الإيديولوجية الهوجاء؛ المحكومة غالبا بوازع ودافع الموضة، دون بناء مفهومي رصين أو إرساء زمني، بالتالي فشل ربط النظرية بالواقع وتحقيق التراكمات الكمية والنوعية بكيفية فعالة.
المسألة الثانية، تشير إلى مدى قدرة مثقف من صنف حسين مروة، على جعل ذاته حالة إنسانية متكاملة ومنسجمة مع تعدُّدها، أي لاتباين يذكر بين النظر والعمل، التصور والممارسة، العقيدة والمنهج، المنظور البعيد واليومي الملِحّ.
بلا ريب، امتلك المثقفون الكبار بيسر منهجي واضح، مفاتيح هذه النواة المعقَّدة والمتداخلة، واستطاعوا دون لبس، الدفاع عن قناعاتهم وممارساتهم، كما مارسوا فكرهم بالموازاة مع اشتغالهم الأخلاقي على ذواتهم، حتى يفهموا كنهها ويبلغوا حقيقة جوهرها.
في إطار مختلف ذلك، تشكَّلت ظروف حياة حسين مروة وفق معطيين حاسمين بخصوص صياغة مشروع الفكر وكذا شخصية ملهم المشروع، فقد ولد سنة 1910، بين أفراد وسط شيعي وترعرع ضمن أجواء دينية، ذلك أنَّ والده الشيخ علي مروة رجل دين تلقى علومه في النجف العراقية، يحظى باحترام وتقدير في منطقة جبل عامل جنوب لبنان، توفي ولايزال حسين مروة طفلا في حدود الثانية عشر من عمره.
نفس التجربة كرَّرها الابن، بحيث رحل حسين مروة الشاب سنة 1924، صوب مزارات النجف قصد دراسة العلوم الإسلامية: “بعد وفاة والدي لم يبق لدي أمل في السفر إلى النجف وخلافة أبي في منصبه الديني، لكنني نذرت نفسي لذلك وصممت على تحقيقه بأي ثمن. كنت أريد أن أحقق آمال أبي في ولو انقطعت بغيابه، لذا نهضت من فوري وبدأت أؤم حلقات الدرس في القرى”(1).
هكذا، انطلق نحو قِبْلة الشيعة الأولى، كي يعيد إنتاج نموذج الأب الذي اختزل فيما مضى كل شيء، ويصبح مستقبلا شيخا مرموقا مهيب الجانب، يتتلمذ على علمه الشباب الشيعي، فقد وضع حسين مروة ذلك عند طليعة أحلامه الأولى، بأن يصير خلال يوم من الأيام مرتديا عمامة وجُبَّة كوالده، صورة سادت جلَّ كيانه وهيمنت على مختلف هواجسه. يقول: ”لأني كنت موضع آمال والدي ولأنه يُعِدُّني لأكون خليفته في عمله الديني، فقد أخضعني لتربية صارمة النظام والطريقة، الأمر الذي طبع حياتي كلها. ومن جملة ما أصابني من هذه التربية حرماني الكلي من طفولتي. فقد انتزعت منها وأنا في الثامنة، وفرض علي من يومها زيّ رجال الدين الأمر الذي جعلني مضحكا في عيون أقراني. لذا اجتنبتهم وقصرت صحبتي على والدي وعشرائه وزواره”(2).
دام تحصيله العلمي في النجف، أربعة عشر سنة بين أعوام 1924 و1938، ورغم أنَّ طبيعة النظام التعليمي هناك نواتها محض معارف دينية ولغوية أساسها النحو والمنطق والبلاغة وأصول الفقه، في إطار مرجعيات تراثية خالصة كشرح قطر الندى ومغني اللبيب (ابن هشام الأنصاري)، ألفية ابن مالك، فقد انجذب حسين مروة إلى قراءة الشعر والأدب.
بعد فترة الدراسة الدينية، والاشتغال مدرِّسا في الأقسام الثانوية العراقية، بدأت لبنات مسار مغاير تتبدَّى تدريجيا. يقول: ”بدأت تتكون عندي مبادئ جديدة تخالف المجرى الفكري السائد هناك. لم يعد الخلاف وقفا على مسائل التدريس، ولكن تعداها إلى قضايا الطبيعة والكون. باتت أسئلتي باعثة على التشكيك في ديني”(3).
تحقَّق المنعطف أكثر فأكثر، حينما صادف حسين مروة سنة 1927، كتابات طه حسين، لكن بالدرجة الأولى شبلي الشميّل وإسماعيل مظهر الموسومة بنزوعها المادي، فقد اشتغل الشميّل على النظرية الداروينية وقدمها إلى الفكر العربي، في حين أثرى إسماعيل مظهر مجلة العصور، بمنظومة أفكار جديدة تجاوزت الإطار التقليدي الميتافيزيقي وبداية اكتشاف التأويلات المادية والعلمية للعالم.
يختزل حسين مروة حيثيات وبواكير التحوُّل المذهبي في مقالته الشهيرة: ”من النجف دَخَل حياتي ماركس”(مجلة الطريق حزيران 1984، عدد خاص بمئوية كارل ماركس): ”رحلت إلى النجف صغيرا،لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيرا،والمفارقة هنا أنَّ الحلم هذا لم يستطع أن يعيش معي في النجف طويلا. لماذا؟ ألف سبب وسبب، أن أصير ”شيخا” مهيبا مرموقا كوالدي، ذلك كان حلمي الأول، هذا الحلم لبسني قبل أن اجتاز سنَّ الثامنة، ولبستني معه العمامة والجبَّة قبل أوانهما. مات أبي وأنا في الثانية عشرة، وظهر لي فور موت أبي أنَّنا من أهل الفقر، كيف إذن أحمل الحلم، بعد؟ لم يستطع الحلم أن يعيش معي في النجف أكثر من عام واحد، كان علي أن اختار وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت من حياتي إلى النهاية صورة ”الشيخ المهيب المرموق” إلى المجهول؟ المجهول الذي صار معلوما، هو العلم إذن، هو العلم نهجا وهدفا معا، سأبقى في النجف، سأبقى، سأتابع لكن الهدف هو المعرفة، هو العلم دون ”المهنة”. سأبقى وأتابع الدراسة النجفية حتى استكمال مراحلها جميعا، وبقيت، وتابعت بالفعل. كان الوصول إلى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية ومن مصر ولبنان بخاصة متيسِّرا في النجف أي خارج ”أسوار” المحيط الدراسي الديني. كان يتوافر لنا هناك أن نقرا كتابات المفكرين والعلماء والكتَّاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الأول فما فوق من القرن العشرين، وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والأدبية المترجمة عن مفكِّرين وعلماء وأدباء عالميين. هذه المرحلة في حياتي هي مرحلة الخصب المعرفي. كنت أقرأ الأدب الرومانسي، مع الفكر العلمي، مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي ذلك الوهج النفاذ الذي علَّمني كثيرا ومهَّد لي الطريق إلى ماركس”.
بيد أنَّ الدور الأبرز بخصوص بداية الانتقال الجذري، لعبه المناضل الماركسي العراقي حسين محمد الشبيبي وأحد مؤسِّسي الحزب الشيوعي عندما أهدى حسين مروة سنة 1948 كتاب البيان الشيوعي لماركس، وبعده جاء الاطلاع على اللينينية من خلال كتاب ”الدولة والثورة”، ثم ”المادية الدياليكتيكية” لستالين، وقد بدأت النظرية الجديدة تغدو ممارسة عملية وملموسة، مثلما يؤكد جوهر النظرية الماركسية،لذلك شارك حسين مروة في الانتفاضة التحرُّرية العراقية (1947- 1948) ضد معاهدة بورتسموت التي أبرمتها حكومة العهد الملكي مع الانجليز، كما دَبَّج وجهة نظره كتابة عبر فقرات مقالة عنوانها ”العقل والعاطفة عند نوري السعيد”: ”ردّا على دعوة نوري السعيد الناس إلى التعقُّل.في هذا المقال حاولت تفسير ماذا يعني نوري السعيد بالعقل وماذا يعني بالعاطفة. ثم اتفق أن جاء نوري السعيد إلى الحكم في أعقاب أسبوع من نشر المقال ولم ينقض أسبوع حتى أُخرجت قسرا من العراق”(4).
فعلا، طُرد حسين مروة من طرف رئيس الوزراء، وكذا نزع الجنسية العراقية التي اكتسبها بحكم استقراره داخل البلد لأكثر من عشرين سنة.
بعد العودة إلى لبنان، ترسَّخت تماما معالم روح حسين مروة الجديدة، أي الاعتناق النهائي للماركسية كرؤية ومنهجية لقراءة الواقع العربي المتخلِّف على جميع المستويات، والنضال اليومي في سبيل بناء مستقبل مغاير لما تريده القوى الرجعية والأوليغارشيات الاستبدادية القابضة على زمام أنفاس الشعوب بأجهزتها المادية و الإيديولوجية.
انتمى إلى صفوف الحزب الشيوعي اللبناني عام1951، وانتخب سنة 1965 عضوا في اللجنة المركزية ثم المكتب السياسي، وانضمَّ عام 1952 إلى قوات أنصار السلم أو تجمع الأحزاب الشيوعية العربية لتحرير فلسطين.
انطلق دوره التأطيري والتنظيري ومراكمة أدبيات الحزب الماركسية، فترأس تحرير مجلة ”الطريق الثقافية” بين سنوات (1966- 1987)، ثم عضوا في مجلس تحرير مجلة النهج، كما ساهم في إنشاء مجلة ”الثقافة الوطنية” عام 1951، وشارك في تأسيس اتحاد الكتَّاب اللبناني.
إضافة إلى تدريسه داخل الجامعة اللبنانية، ونضاله السياسي، كان حسين مروة كاتبا صحفيا على مستوى منابر مختلفة كـ”الحياة”، ”الأخبار”، ”النداء” مواظبا على كتابة عمود يومي إبَّان الغزو الإسرائيلي عام 1982، تحت عنوان ”الوطن المقاتل”، بحيث شَكَّلت حينها تلك الكتابات دعما نفسيا قويا للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
ضمن سياق مختلف ذلك، تقاطرت عناوين دراساته وأبحاثه الأكاديمية، التي أضحت مرجعية أساسية لقراءات الباحثين العرب في المجال الفلسفي والأدبي، أذكر منها:
قضايا أدبية (1956)، الثورة العراقية (1958)، دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي (1965)، دراسات في الإسلام (1980)، تراثنا كيف نعرفه (1985)، ولدتُ شيخا وأموت طفلا (سيرة ذاتية) (1990)، دراسات في الفكر والأدب (1993)…
لكن يبقى أهم عنوان خَلَّفه إنتاج حسين مروة، الذي يختزل ضمنيا كل تفاصيل أطروحات مشروعه، كتابه الموسوعي الشهير النزعات المادية في الفلسفة العربية، الصادر سنة (1978)، بحيث قارب ألفي صفحة، استغرق بناؤها الهيكلي والتصميمي عشر سنوات من البحث والتحليل والصياغة والتوثيق، قصد تقديم قراءة جديدة للتراث بناء على رؤية تاريخية، تقوِّض المرجعيات السكونية والطوباوية لصالح أخرى نسبية وتاريخية: ”بمعنى أن نأخذ بالحسبان، لدى القراءة أو التأويل أو الدراسة التراثية، تلك العلاقة ”النسبية”بين التراث وزمنه وبيئته التاريخيين، خشية أن نقع في شرك النظرة المطلقة والمجردة التي تعزل التراث عن ”نسبيته”، أي عن خصوصيات تاريخه، وعن علاقاته بواقعه التاريخي”(5).
هكذا، استلهم حسين مروة منهجيا ومعرفيا وتأويليا، ديناميكية ووضعية التحليل المادي التاريخي: ”وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية، واستيعاب قيمه النسبية، وتحديدا ما لايزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا كشاهد على أصالة العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية والديمقراطية من تراثنا الثقافي وبين العناصر التقدمية والديمقراطية من ثقافتنا القومية في الحاضر”(6).
انصبَّت رؤى حسين مروة، نحو غاية انتشال هذا التراث من براثن تلك القراءات العقيمة واللاتاريخية، كما الشأن مع التصورات السلفية والاسقاطية، بالتركيز على الجوانب الثورية والمنظومات التي عَبَّرت عن هذا البعد، مثلما فعل الشعراء الصعاليك، المعتزلة، ابن سينا، المقفع، الجاحظ، المتنبي، أبو العلاء المعري، أبو نواس، جابر بن حيان، إخوان الصفا، المتصوفة… يبدو المنهج المادي التاريخي، قادرا على استيعاب التراث في أبعاده الكاملة ضمن شروطه السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، والقطع بالتالي مع الطابع السكوني العقيم.
ابتدأ حسين مروة مشروع كتابه النزعات المادية سنة 1968، بتكليف من المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، بغية إبراز الجانب المادي في التراث العربي الإسلامي، بعيدا عن هيمنة العقل الماضوي الأصولي، وترسيخ لبنات فكر تقدمي بوسعه مجابهة الأطروحات الاستعمارية والرجعية، لأنَّ حسين مروة الذي ألمَّ إلماما بالتراث سنوات تكوينه في النجف، صار بعد ذلك يكتب ويفكر خارج كل منطق اختزالي أو أحادي التبرير، سياسيا، دينيا، طائفيا، يشغله فقط هاجس تعضيد مقوِّمات الديمقرطية، التحرُّر التاريخي بمفهومه الشامل، الاشتراكية ثم الدولة المدنية العلمانية التي تتكلَّم لغة العصر، القادرة على محاورة مختلف الإشكالات المجتمعية بلغة حضارية قوامها أوراش التفكير العقلاني أولا وأخيرا.
يخبرنا حسين مروة عن سياق النزعات المادية، قائلا: ”هذا الكتاب مشروع بدأ منذ باشرت كتابة مقالات عن شخصيات تراثية فكرية وأدبية في الخمسينيات. هذه المقالات كانت نواة لمقالات ودراسات أخرى حول التراث، وبعد الخمسينيات كانت صلتي بالتراث وتناولي له يتطوران على الرغم من أن أكثر ماكتبت في هذا السياق يدخل في باب النقد الأدبي نظريا وتطبيقيا بدليل أنَّ أكثر الشخصيات التي تعرَّضت لها كانت أدبية، لكن ظرفا فكريا أحاط في أواخر الستينيات كان هو الدافع لنوع من التخصص في كتابة واسعة ومعمقة في التراث الفكري العربي الإسلامي وفي الفلسفة العربية الإسلامية بالذات. نشأت هذه الفكرة نشأة تطورية عندي ثم دخلت عناصر تاريخية لاداعي لذكرها، وضعت أمامي مهمة تأليفية متخصِّصة واحتاج ذلك مني إلى تفرغ تام لأكتب دراسة متماسكة تستغرق مساحة تاريخية في الفكر العربي ذات شمول وعمق. وهنا يجب القول بصراحة أنَّ الحزب الشيوعي كان له الفضل في إعطائي التفرغ الكامل لإنجاز هذا العمل، مما مكنني أن أعيش عشر سنوات كاملة مع موضوع هذا الكتاب”(7) .
ظهيرة 17فبراير 1987، تسلَّل ثلاثة قتلة غاية غرفة حسين مروة، وقفوا عند سريره، كان شيخ الماركسيين العرب يغفو في قيلولة، متعبا ومريضا، فقد قارب الثمانين، أيقظوه بحركة فظَّة، بالكاد فتح عينيه حتى أغلقهما ثانية إلى الأبد، بعد رميه برصاصات مصدرها مسدَّس كاتم للصوت. انتشر خبر الجريمة الشنيعة جدا، في حقِّ إنسان استثنائي، صاحب عقل كبير، وذهنية جبارة، كرَّس مراحل حياته للتعلُّم والتعليم والكتابة، فأصدر الحزب الشيوعي البيان التالي:
”ياللعار، يالفظاعة الجريمة، فقد قتل الظلاميون المذهبيون الطائفيون العابثون بأمن الشعب. العابثون بمصير الوطن، العاملون تدميرا وتهديما بكل ماله علاقة بالحرية وكرامة الإنسان والثقافة والديمقراطية والمعرفة. هؤلاء القتلة المجرمون السفاحون الآثمون، قاتلوا شيخ الثقافة والفكر. إنَّ من يقتل حسين مروة وقبله خليل نعوس وسهيل طويلة، يحكم على نفسه بالموت والزوال ولن يستطيع أن يعيش وسط شعب أنجب كل هؤلاء مهما تستَّر بالدين تارة وبالطائفية تارة أخرى”.
أما رثاء عبد الرحمن منيف، الروائي الكبير، ورفيق ذات الهوية الحياتية، المؤمن بنفس عيِّنة الأحلام الإنسانية الكبرى، فقد جاء كالتالي: ”حين تحدث حسين مروة في هذا الموضوع- يقصد إشكاليات كتاب النزعات المادية- فلا أعرف كيف تبادر إلى ذهني أن الموت لن يمهل لاستخراج كل هذه الكنوز. كنت أريد أن يمتدّ العمر طويلا بحسين مروة، لكي ينجز ما يجب إنجازه. وتذكَّرت كلمات كازانتزاكي: من لديه فائض من الوقت لكي يمنح هذا الشيخ ما يمكِّنه من إنجاز المهمات الكثيرة والكبيرة المطلوب منه إنجازها؟ كنت أخاف أن يغادرنا حسين مروة، نتيجة الشيخوخة والتقدم في العمر، قبل أن ينجز مايجب إنجازه. كنت أخاف عليه من ثقل الزمن، لأنَّ كل إنسان لابد أن يغادر، مهما امتدَّ به العمر، لكن يجب، قبل أن يغادر، أن يعطي أحسن ماعنده. وهذا ما دعاني، في أكثر من لقاء، لأن ألحّ، ربما أسرف، حول ضرورة أن يؤلِّف حسين مروة فريق عمل، وأن يبقى مع هذا الفريق خلال ماتبقى له من عمره، لكي يعلمه أشياء كثيرة تعلَّمها في هذه الحياة، وأهمها: طريقة البحث. في اللقاءات مع حسين مروة كان يعترف أنَّ العمر لايرحم، وأنَّ فريق العمل ضروري. لكن لاتزال في العمر بقية، فسحة كافية، ويمكن خلالها أن يتم ذلك. كان في ذهنه عدد من الموضوعات الإسلامية يريد أن ينتهي منها، وبسرعة ابن رشد، أبو حيان، ابن خلدون، إضافة إلى عدد من الشعراء وكتَّاب النثر، وقد ذكر أبا العتاهية والجاحظ…”(8) .
لم تكد تمضي سوى شهرين تقريبا على اغتيال حسين مرة، تحديدا يوم 18 مايو 1987، حتى وُجِّهت مرة أخرى أيادي الجريمة، صوب رأس مفكر آخر لا يقلّ رمزية وإنتاجا ونضالا، أقصد حسن عبد الله حمدان أو مهدي عامل.
———————————————————————
(1)حسين مروة، ولدت شيخا وأموت طفلا: سيرة ذاتية، في حديث أجراه معه عباس بيضون. دار الفارابي، الطبعة الثانية 2012، ص 33- 34 .
(2) نفسه ص.22
(3)نفسه ص.63
(4)نفسه ص 100
(5)سالم حميش، معهم حيث هم،لقاءات فكرية: حسين مروة، الفارابي 1988، ص 61 .
(6)حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي- الطبعة الثالثة 1980، ص 6
(7) حسين مروة، ولدت شيخا وأموت طفلا: سيرة ذاتية، في حديث أجراه معه عباس بيضون. دار الفارابي، الطبعة الثانية 2012، ص124-125
(8)عبد الرحمن منيف: لوعة الغياب،المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي،الطبعة الثالثة 2003، ص 280 – 281