أنوبيس.. آه يا أنوبيس..

أنوبيس.. آه يا أنوبيس..

 عبد الرحيم التوراني

 افتتح قرب بيتنا نادٍ رياضي متخصص في تلقين حركات تمرين الجسد على خروج الروح. نعم، ليس هناك أي خطإ إملائي أو خطإ مطبعي. “خروج الروح”.. عبارة تامة لا تحتمل أي تأويل. إنها تعني كلمة واحدة هي: الموت.

في البداية ترددت في استيعاب الفكرة. ولم أرغب في أن أتعامل معها تعاملا حقيقيا. قلتُ هي ربما دعابة مستهجنة مستوردة. فلا لعب أو تلاعب مع الموت. وللموت حرمته وقدسيته التي لا تناقش.

 زاد من عدم اهتمامي كون النادي يحمل لافتة كتبت باللغة العربية فقط. لكن إقبال الناس على الانخراط في النادي سيغير من فكرتي. إذ لم أعد أجد مكانا على الرصيف قبالة بيتي لأركن فيه سيارتي.

لذلك قررت أن أزور النادي وأتعرف عن قرب على برامجه.

عندما وصلت إلى مدخل النادي استقبلني وجه صبوح لفتاة رشيقة، غاية في الجمال والأناقة، ممن يصح لأمثالها  قول عبارة: “سبحان من صورك…”.

 ابتسمت وقدمت نفسها:

ـ “أنوبيس” معك.. في خدمتك سيدي..

سألتها أن تعيد لي ذكر اسمها،

ـ أقُلْتِ اسمك “أنوبيس”؟

أجابت بغنج مقبول:

ـ نعم “أنوبيس” هو اسمي، ألم يعجببك؟

ـ بلى، ولكن هذا اسم الموت عند الفراعنة.. إن لم أكن مخطئاً.

ـ هو كذلك. لن ترى شيئا هنا في النادي يبعدك عن عوالم الموت. لا تتوقع أن تبقى على قيد الحياة إذا تم قبول انخراطك في نادينا..

ثم استدركت مصححة، لمَّا قرأت دهشة كاملة في عيني.

ـ الوقت الذي ستقضيه في نادي تعلم الموت كله موت في موت. وبعد نهاية كل حصة تدريبية سنعيدك إلى سيرتك الأولى.. إلى الحياة.

شكرت الآنسة أنوبيس. ودفعني فضول زائد إلى أن أتقدم نحو الباب الداخلي. لكن الآنسة أنوبيس أوقفتني.

 قالت هناك شروط تسبق الموافقة على قبول انتمائك للنادي.

بعدها سلمتني أوراقا طلبت مني قراءتها ودراستها والإمضاء عليها. وأكدت على أن  التوقيع ليس بالقلم ولا بالبصمة، بل برفرفة العين اليسرى. فورقة الملف بها مغناطيس يرصد حركات الجسد كلها، ومن ضمنها دقات القلب، وسيلان الدم، ودرجة الأوكسجين، ورفرفة العينين. وبمجرد ما تكون النتيجة إيجابية سيتم قبول عضويتي بالانضمام إلى النادي.

لا أخفيكم أن الخوف تملكني. أغمضت عيني وأبعدت عنها ورقة ملف الانتساب. لكني وجدتهم قد قبلوني. قالوا لي إن نسبة الخوف الشديد الذي انتابك كان كافيا لمنحك العضوية بامتياز. ثم وضعوا حول عنقي شارة “بادج” عليها صورتي بالأبيض والأسود، ياه.. الملاعين كيف حصلوا عليها؟!! وقد كتب عليها اسمي وعبارة: “المرشح لمواجهة الموت رقم كذا…”.

ثم مشينا، أنوبيس وأنا في ممر طويل، هي أمامي وأنا وراءها. لم أكن أعرف ما الذي كان يحدث لي، غير أني لم أخفض بصري عن جنبات الممر الضيق الذي ملئت جدرانه بصور وتخطيطات ولوحات سوريالية وملصقات تتحدث عن طبيعة الحياة الأخرى، وعن الوفيات الطبيعية وغير الطبيعية، والانتحار، والألم، وبالطبع عن الخوف من الموت. إن كل شيء هنا يدور حول موضوع الموت.

وشاهدت ملصقا كتب عليه رقم تيلفون، تحت الرقم قرأت عبارة باللون الأحمر:

– “الخط الساخن لتسريع الانتحار والدعم العاطفي الفوري والتدخل في الأزمات النفسية.. تقييم مخاطر تأخير الانتحار وتهدئة الأزمات الانتحارية”.

وما جعلني أقف مندهشا ومرعوبا أمام الملصق لأتأكد مما تراه عيناي، لم يكن موضوعه الغريب، بل كان تطابق الرقم الهاتفي مع تاريخ ميلادي، باليوم والشهر والسنة.

أهي مجرد صدفة أم أنا واقع بين أحابيل خداع شيطاني ولا شك؟

استجمعت ما بقي لدي من قوة وسألت أنوبيس، لكني لم أجدها بجانبي. ثم جاءني صوتها عبر أبواق مدسوسة في سقف الممر:

– أينك يا عبد الرحيم.. لا تتأخر أكثر.. فأنت تعرف، وأنت المسلم الديانة، أن الموت لما يأتي أجله لا يتأخر مطلقا.

وعبر نفس الأبواق المدسوسة، وصلني صوت مقرئ يتلو الآية القرآنية: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”؟

 لم يكن صعبا علي أن أتبين أنه صوت المرحوم الشيخ المغربي عبد الحميد بن احساين، صاحب برنامج ديني شهير كان يبث على أمواج الإذاعة الوطنية بالرباط، تحت عنوان: “كيف نقرأ القرآن “، وكانت قراءة بن احساين للقرآن على الطريقة المغربية الخالصة.

وأنا أتقدم وحيدا وسط الممر، تساءلت عما أفعله بنفسي، وكيف قادني فضولي المغامر إلى مثل هذا الفضاء الخطير؟

سأفاجأ بصوت المضيفة الرشيقة، ترد على هواجسي، وكأنها تتلصص على ما يتردد بداخلي:

– لا تندم يا عبد الرحيم.. عليك أن تعلم أن ممارسة الحياة الأفضل، تفترض تعوّد الإنسان على الموت…

– لكن يا آنسة…

قاطعتني الآنسة.. ومن غيرها.. أنوبيس:

– رولاكس.. رولاكس.. لتبعد عنك القلق.. أنت اللحظة بصدد تعلم كيف تموت… رجاء لا تفسد عليك اللحظة.. لما تصل إلى الصالة الكبرى، سيحددون لك قبرا مريحا يناسبك ويليق بسيرتك.. وهناك سيتم تزويدك بالكلمات والإشارات التي تحتاجها للقضاء على الخوف من الموت. كل شيء سيمر سريعا وفي أمن وسهولة. احذر، إن الخوف سيؤثر على استمتاعك بالحياة.

مرت لحظة صمت قطعتها ضربات أجراس كنائسية مخلوطة بأصوات الأذان. في الواقع، اعتقدت أنني على وشك الموت، وشعرت برعب مطلق. أدركت أن الأمر خطير، وتلبسني ضعف شديد. أحسست بأني أنزف من الدم، ولم يكن الأمر كذلك.

وأنا ما زلت أمشي ببطء وسط الممر الضيق الطويل، جاءني الصوت نفسه عبر الأبواق المدسوسة:

– لا داعي لكل هذا القلق يا عَبُّودي، فأنت بمجرد أن تتعلم كيف تموت، فإنك تتعلم كيف تعيش.

انتابتني دوخة خفيفة، ولفت انتباهي أن أنوبيس تغنجني وهي تناديني بـ “عَبُّودي”.. وشعرت أني أسعى وراء الحياة، ما دمت أفكر في المرأة بدل التفكير في الموت.  ولم أعرف كيف صحت بأعلى صوتي:

– أينك يا أنوبيس.. أينك..؟ أنا جاهز لمعانقتك.. أنوبيس…

وجاءني صوتها جهوريا خشنا:

– مهلا.. مهلا.. لا حاجة بنا هنا لمثل هذا النزق والطيش…

هكذا استعدت وعيي بسرعة، وتذكرت أن المرأة الفاتنة، من أغرتني بمناداتها لي باسم التحبب “عبُّودي”..  ليست سوى أنوبيس.

في نهاية الممر وجدت شبحين سلمني أحدهما إلى الآخر، وقالا لي معا بغضب واضح:

– آه منكم أيها الأحياء، يا لكم من سُخفاء وسِخاف، يا لكم من بائسين… ما أشد حماقتكم.

بدأت أعتقد أنني سأموت. شعرت بالذعر وامتلأ ذهني بنوع الأفكار التي تراود الموتى في لحظاتهم الأخيرة. ورأيت شاشة بيضاء تفتح أمامي، لا أتذكر مما ظهر عليها سوى هذه الجملة، وقد كتبت بأحرف بارزة أشبه بحروف الكتابة السريانية أو الهيروغليفية، لكن أنوبيس تكفلت بترجمتها مباشرة إلى اللغة العربية:

– عبد الرحيم واحد ممن يندمون على الماضي، وممن يقلقون بشأن المستقبل، ومن الذين يعانون من القلق بشأن الموت.

 على الفور نطقت:

– ليس صحيحا، ربما كنت في الماضي أندم قليلا على الماضي، لكني في الحاضر لا أشعر بأي قلق بشأن المستقبل، ربما هناك خطأ ما، أو أن هذا ليس كتابي. هل لديكم من حجة تثبث أني نادم وقلق. أنا لا أفكر في الموت؟

ابتسمت في وجهي أنوبيس، ولم أكن أدري أن ابتسامتها تلك كانت بيانا لنفي ما كنت بصدد زعمه، فتفكيري حولها لم ينقطع. لكني فسرت الابتسامة وفق ما أريد، واعتبرتها تشجيعا لي على الكلام وعلى المضي في التمرد.

كنت في الواقع أتعلم كيفية مناقشة الموت، لأبعد عن ذهني فكرة موتي. فمن النقاش يأتي الضوء، والموت ظلمة تخشى كل ضوء.

ولما لم أتلق غير الصمت، أخذتُ نفسي على محمل الجد، واعتقدت أني انتصرت، أو على الأقل في طريقي للنصر.

 ثم عاد إلى الشعور بالارتباك لما عادت أصوات أجراس الكنائس الجنائزية مع أصوات الأذان لترتفع بقوة. تبعها صوت ينبهني بالقول:

 “أنت تراب وستعود إلى التراب”.

 وعاد لي من جديد الإحساس والشعور بالتلاشى. وتملكني رعب تام. من الصعب أن أتذكر كل التفاصيل، ويصعب علي استعادة تلك الأفكار والمشاعر التي غمرتني ساعتها، خلال ما اعتقدته تمامًا أنها اللحظات الأخيرة من وجودي. لكنني أتذكر أن الخوف من الموت كان هو الشعور السائد لدي إلى حد بعيد.

سألتني أنوبيس:

– هل تحس الآن  بألم؟

– لا.. لم أعد أحس بجسدي يا أنوبيس، ولا بأي ألم. لكني أحس كأني أريد أن أبكي.

ابتسمت في وجهي من جديد، وفي غمرة انتشائي وارتياحي لابتسامتها غابت عني ملامح أنوبيس، وبقيت أسمع فقط صوتها، وهي تهمس لي:

– لا توجد حياة واحدة فقط، هناك الحياة الأخرى.. الحياة الأبدية. خفف من تشنجك وخذ نفسا عميقا.. معي ستتحرر من الألم.. معي ستتحرر إلى الأبد.

لحظتها غمرني إحساس كبير بالرغبة في النوم، ونمت كميت، أو كرضيع.

لا أعرف حساب الوقت الذي مر وأنا مستغرق في النوم. وأيقظتني يد الآنسة  وهي تربت على كتفي.

خاطبتني بصوت مهذب:

– على سلامتك يا السي عبد الرحيم… كل شيء مر على ما يرام..

رفعت رأسي نحوها، وسألت:

– هل تعتقدين أنني نجحت في تعلم كيفية الموت؟

ابتسمت الآنسة، وكان جوابها:

– الحمد لله، كانت عملية دقيقة وصعبة، لقد أفلتت… لكن بفضل البروفيسور حمام نجحت العملية نجاحا مبهرا.

وجاء بعض أفراد من العائلة، ثم بعض الأصدقاء يباركون لي نجاح العملية.

ثم طرحت الآنسة علي سؤال:

– قبل أن تستفيق من البنج، كنت تردد اسم “دونيس”، فمن هي هذه الحسناء يا ترى التي ملكت قلبك وفتنتك، حتى وأنت تحت مشرط الجراح؟

وأنا لا أعرف أي واحدة بهذا الاسم؟

 مرت أيام قبل أن أتذكر اسم سكرتيرة نادي الموت.. أنوبيس..

طمأنني صديق يدرس مادة الفلسفة في إحدى ثانويات الدار البيضاء، ربما هناك صلات وثقى بين “أنوبيس” الموت لدى الفراعنة، وبين “دونيس” إحدى آلهات الخصوبة والنبيذ لدى قدماء الأغريق.

ومن يومها وأنا أحاول أن أجد جوابا على تساؤلي المحير:

– هل نسبي يمتد إلى مصر القديمة واليونان؟ وهل كانت جدتي مصرية.. أنوبيس؟

عند بودلير وجدت بعض الجواب عن تساؤلي الوجودي، بودلير الرجيم الذي قال ما معناه:

يوجد على الأرض ما لا يُعد ولا يُحصى من البشر، لا يمكن أن يهدئ النوم معاناتهم بما يكفي. وحده النبيذ يؤلف الأغاني والقصائد لهم.

كذلك الموت، وحده يهدئ معاناة البشر ويحد من محنة الوجود البشري.. بالنوم، النوم الذي لا صحو بعده، نوم وسادته محشوة بالتراب، كما أفواه نوامه مملوءة بالتراب.

Visited 70 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن