حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي – محمد عابد الجابري (3-6)

حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي – محمد عابد الجابري (3-6)

      سعيد بوخليط

      نتيجة تقدُّم الغرب وانتشار منظوماته ثم رواج مفاهيمه: ”قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى وولي الدين يكن، ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولاينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة، وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوا إليه ورأوه ماثلا في تقدم الغرب الفعلي” (ص 35- 36). نفس التصوُّر، استند عليه مفكِّرون مسلمون، مثل قاسم أمين، علي عبد الرزاق، خالد محمد خالد، إسماعيل مظهر، زكي نجيب محمود، فؤاد زكريا.

في حين رفضت الحركات الإسلامية العلمانية، وأكَّدت تمسُّكها المطلق بالإسلام الذي يربط بين الدين والدنيا، لكن السؤال الملحّ: ”كيف يمكن تحقيق أهداف الفريق العلماني، ما تصبو إليه مجتمعاتنا من حرية وتقدم، وفي الوقت نفسه كيف نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، منعا للازدواجية بين الدنيا والدين، بين العمل والإيمان، بين الشريعة والعقيدة؟” (ص 36- 37).

الشريعة الإسلامية وضعية، تسعى مقاصدها كما حدَّدها الأصوليون، وجهة الحفاظ على الدين، الحياة، العقل، العرض، المال. ضرورات خمس، تشكِّل نفس مقوِّمات الحياة البشرية، التي ينشدها العلمانيون لكنهم يسعون إلى استلهامها من مرجعية الحضارة الغربية بدل الشريعة الإسلامية، وهو مايعتبره حسن حنفي تقليدا وليس إبداعا.

أيضا، رحَّب دائما الإسلاميون بمقتضيات الحدود في الشريعة الإسلامية، بينما أثارت باستمرار منظومتها العقابية استنكارا لدى أنصار العلمانية. موقف، اعتبره حسن حنفي مجرد وَهْمٍ نتيجة حرب ترسَّبت وقائعها بين الإخوة الأعداء، ضمن نطاق مرجعيتي التكفير والفرقة الناجية، بينما تقوم الأحكام الشرعية على تأويلين قوامهما أحكام الوضع والتكليف: ”أما تضييق الشريعة الخناق على الناس الذي يضيق به العلمانيون ذرعا فإنه أيضا شعور ينشأ لديهم نتيجة لسوء فهم روح الشريعة وكأنها أتت للمنع والزجر والتحريم وليس لإشباع الرغبات وقضاء الحاجات وإطلاق طاقات الإنسان وإحساسه بالطبيعة. فالأحكام الشرعية الخمسة: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح إنما تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي” (ص 37- 38 ).

هي مستويات للسلوك الإنساني أو الأحكام الشرعية الخمسة، تصف أفعال الإنسان خارج دائرتي الحلال والحرام التي يرفضها العلمانيون، بينما كنه الشريعة الإسلامية ومقاصدها، يؤكِّد حسن حنفي، يميِّزه المرونة واستحضارها السياق والمعطيات الظرفية للزمان والمكان،بحيث يتغيَّر الفقه حسب المستجدات الزمنية وأسئلة الواقع المستجدة، بالتالي مادامت غاية الشريعة الإسلامية الاستجابة لمصالح الناس وحاجاتهم الحياتية، يخلص حسن حنفي إلى أنَّ: ”الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لاحاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية. إنما تخلفنا عن الآخر هو الذي حول الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وليبرالية وحرية وديمقراطية وتقدم. فالعيب فينا وليس في غيرنا، وفي تقليدنا للغير وليس في إبداعنا الذاتي” (ص 38).  

أقَرَّ عابد الجابري في مطلع ردِّه بأنَّ العلمانية من المفاهيم التي تبعث كثيرا من الالتباس داخل الفكر العربي المعاصر. لقد تجلَّت الدعوة إلى العلمانية، للمرة الأولى في لبنان، منتصف القرن التاسع عشر قصد الاستقلال عن الخلافة العثمانية، واحترام حقوق الأقليات.

مكمن الالتباس المرتبط بالعلمانية، في العالم العربي، الالتجاء غالبا إلى هذا المفهوم، بغية المطالبة بالديمقراطية وكذا الممارسة العقلانية السياسية. مطالب وحاجات موضوعية، من خلال مفهوم ملتبس، مما يقتضي: ”استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية. فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج” (ص 39- 40). هكذا، يحدِّد عابد الجابري طبيعة الخطاب الذي يمكن بحسبه محاورة مفكِّرين قوميين، ليبراليين، ماركسيين.

بيد أنه حين توخي الانخراط في سجال مع المناهضين مبدئيا للعلمانية؛ أساسا السلفيين، فيقتضي المقام خطابا مغايرا للسابق، يرفض نموذج التراكيب اللغوية التي استعملها حسن حنفي بقوله “الإسلام دين علماني”، على منوال عبارات اختزالية من قبيل ”الإسلام دين اشتراكي”، “الإسلام دين ليبرالي”، ”الإسلام دين رأسمالي”، مادامت لاتقدِّم حلولا لأصل المشكلة المرتبط جوهرها بشكل الدولة.

أجمل عابد الجابري، تصوُّره للمسألة حسب المعطيات التالية:

*الإسلام دين ودنيا، وادِّعاء غير ذلك يعتبر تجاهلا لتاريخ الدولة التي أقامها الرسول ووطَّد أركانها أبو يكر الصديق وعمر بن الخطاب.

*الإسلام دين ودولة، لكنه ترك حيثيات الاجتهاد لظروف المسلمين، دون إقرار نصٍّ قرآني أو حديث نبوي، بمعنى اندراج شكل الدولة وطبيعة نظامها ضمن دعوة الرسول: ”أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.

*بعد معركة صِفِّين التي خاضها جيش علي بن أبي طالب، ضدَّ جيش معاوية بن أبي سفيان، ظهرت نظريات حول كيفية تدبير الحكم في الإسلام تأرجحت بين تأويلات الشيعة والخوارج ثم معاوية.  

*بانقضاء فترة الخلافة النبوية، تحوَّل نظام الحكم إلى ”مُلك عَضُوض” أو ”مُلك سياسي”. يوضِّح عابد الجابري حيثيات هذا الانتقال قائلا:”إن الدولة زمن النبي والخلفاء كانت دولة فتوحات: في قمتها قادة عسكريون هم في الوقت نفسه رجال الدين، رجال الدعوة، أما في قاعدتها فكانت الرعية كلها جندا، لقد جندت القبائل العربية كلها للفتح. لم يكن هناك إذن فصل بين شيء يمكن تسميته بـ”المجتمع السياسي”، أعني أجهزة الدولة باختلاف أنواعها، وبين شيء اسمه ”المجتمع المدني” العلماء والأحزاب والتنظيمات الاجتماعية وعامة الناس. أما زمن معاوية فقد انقلبت دولة الفتوحات هذه إلى دولة ”المُلك السياسي”: دولة انفصل فيها الأمراء عن العلماء والجند عن الرعية، فبرز ”مجتمع سياسي” مكون أساسا من الأمراء والجند، و”مجتمع مدني” مكون أساسا من العلماء والرعية” (ص 42) .

هكذا، انتهت الصيرورة التاريخية إلى حتمية بروز تباين بين العلماء والأمراء، وانفصال الجنود عن الرعية، بالتالي فمعاوية الذي غيَّر نظام الحكم، ولم تعد مكوِّناته موحَّدة ومتآلفة، كما الحال فترة العهد النبوي والصحابة بحيث أضحت تتشكَّل من فئات الأمراء والجنود والعلماء وباقي الرعية. من ثمَّة، جاء إقرار معاوية في خطبة ألقاها على أهل المدينة خلال أول زيارة بعد انتصاره على علي بن أبي طالب، بأنَّه سيدبِّر شؤون الدولة على أساس المصلحة والمنفعة، ولا يمكن الاستمرار في تطبيق نفس نهج أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. بالفعل، أجمع المسلمون على استساغة دعوته الجديدة، وبايعوه على هذا الأساس، بما في ذلك الحسن والحسين باستثناء الخوارج.

إذن، تحقَّقت على أرض الواقع تجربة سياسية ثانية، أضيفت إلى سابقتها مع الخلفاء الراشدين، مثلما ستظهر أخرى مع عمر بن عبد العزيز، هارون الرشيد المأمون، لأنَّه لم يعد ممكنا الإبقاء على النموذج الأول باعتباره مثلا أعلى لتدبير شؤون الدولة: ”ولا أعتقد أنه بالإمكان إعادة تحقيقه من جديد كما كان، لأن من جملة شروط وجود قيام ”دولة الفتح”، يكون فيها الأمراء والعلماء فريقا واحدا والجند والرعية فريقا واحدا، وهذا شيء مستبعد على الأقل على المدى المنظور، إلا شيء واحد هو إقامة الدولة على أساس المصلحة والمنفعة، ولكن لا على الطريق التي سلكها معاوية الذي اعتمد في حكمه على قبيلته ومن تحالف معها، بل على الطريقة التي يقتضيها عصرنا، الطريقة التي تهدف إلى إشراك الأمة كلها في اختيار الحكام ومراقبتهم وفق قواعد ونظم قانونية ودستورية” (ص 43 -44 ). 

عموما، لم يضع الإسلام قانونا لشكل الدولة، بل فوَّضه تفويضا لاجتهادات المسلمين حسب المصلحة العامة وماتستدعيه السياقات الراهنة وكذا ظروف توالي الأحقاب والعصور.     (يتبع)

____________________________________________________________

(1) حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.

Visited 4 times, 4 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي