هجرة وإعلام

هجرة وإعلام

 جمال المحافظ

      “ليلة الهروب الكبير” المصطلح الذي تداولته وسائل الاعلام بكثافة حول محاولة عدد كبير من الشباب “الهجرة”  إلى الضفة الجنوبية للقارة العجوز عبر مدينة سبتة المحتلة، تجاوبا  مع حملة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، تم خلالها الإعلان عن مكان التجمع ( الفنيدق ) وتوقيت (15 شتنبر) الرحيل.

ويبدو أن “الهروب الكبير” مستوحى من عنوان الفيلم الأمريكي الشهير  الذي انتج عام 1963 من إخراج  جون ستورجس وبطولة الممثل الأمريكي الكبير ستيف ماكوين، يحكي قصة مجموعة من جنود دول التحالف والمعتقلون كسجناء الحرب العالمية الثانية في إحدى معتقلات النازية حيث يبتكر هؤلاء الجنود خطة للهروب من هذه المعتقل الحصين وتهريب 250 معتقلا آخرين.

الغرض هنا ليس رصد الدواعي والأسباب الكامنة من وراء هجرة الشباب ذكورا، ونساء وأطفال من مختلف الأعمار، أو التوقف عند أسئلتها الحارقة وفاتورتها السياسية والاجتماعية، واسقاطاتها الاقتصادية، وانعكاساتها على صورة البلاد محليا وإقليميا ودوليا. بيد أن كل الأهداف من هذه ” الهجرة الجماعية” الغير مسبوقة يمكن تصورها، باستثناء مساهمة في “تحرير” هذا الثغر المحتل الواقع شمال المملكة.

  كما أنه ليس الغاية البحث عن من يتحمل مسؤولية الوصول إلى هذا الوضعية، (فتلك قصة أخرى، قد تكون من قصص الخيال العلمي ليس مجال روايتها هنا)، على الرغم من أنه يمكن الجزم بأن هذا الحدث، يرتبط أشد الارتباط، بسياسات عمومية، فشلت فشلا ذريعا، في تحقيق التنمية المستدامة.

 وإذا كانت هناك مجهودات مبذولة، منها تطوير البنيات التحتية من طرق وموانئ ، وأوراش تعرفها مجالات أخرى، فإنه بالمقابل يلاحظ ضعفا واضحا في ميدان الاستثمار في العنصر البشري، خاصة فئات الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة يشكلون أزيد من 16 بالمائة من السكان، ويبلغ عددهم ما يناهز ستة (6) ملايين فردا، منهم 59،9 بالمائة يقطنون بالوسط الحضري و56،6 منهم تتراوح أعمارهم ما بين 15 و19 سنة، وذلك وفق احصائيات المندوبية السامية للتخطيط برسم سنة 2021.

 وبغض النظر عن أهمية رصد تداعيات هذا “الهروب الكبير” الذي استأثر باهتمام واسع من طرف الرأي العام الوطني والدولي، وتداولته بكثافة المواقع الالكترونية، وواكبت تداعياته، فإنه سيكون من المفيد التوقف عند تعامل وسائل الإعلام والاتصال مع هذه الحدث الغير مسبوق، وهو الموضوع الذي لم يحظ لحد الآن بالاهتمام الكافي من طرف المسؤولين والمختصين والمهتمين بهذا المجال.

 وفي هذا السياق، فإنه بقدر ما يسجل اقبالا متزايدا على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يلاحظ بنفس القدر، توجسا مبالغا فيه في غالب الأحيان، بدعاوى متعددة في طليعتها “الاستخدام السيئ” لهذه الوسائط، وهو ما جعل البعض يدعو الى هذه الوسائل للرقابة، مع منع بعض تطبيقاتها، من أجل “قطع الطريق” على مروجي المعلومات المضللة، متغافلين إيجابية هذه التقنيات الحديثة منها إتاحتها الفرصة للتواصل بين مختلف الشرائح الاجتماعية، واسهامها في الرفع من سقف حرية التعبير .

كما أضحت هذه المنصات التواصلية، من أهم الآليات في استقاء المعطيات والمعلومات وتوزيعها وتقاسمها وتحولت كذلك الى فضاء لتيسير النقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار، مع اثارة الانتباه الى المعضلات الاجتماعية والتوقف عند المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما مكنها من توجيه الرأي العام والتأثير فيه إما سلبا أو إيجابا. 

وإذا كانت الوسائط الرقمية التي غزت كافة مناحي الحياة، ساهمت بشكل كبير في تغيير العادات والتقاليد، والتأثير في العلاقات الاجتماعية، فإنها أصبحت تساهم في صيانة حقوق الإنسان واشاعتها على نطاق واسع وخدمة التنمية.

 وهكذا أضحت حماية منصات وسائل التواصل الاجتماعي، تعتبر من بين دعامات بناء المجتمع الديمقراطي، انطلاقا من كونها حررت الأفراد ووفرت للمجتمع،  فرصا غير مسبوقة، علاوة على أنها غيرت معالم وسائل الاعلام التقليدية، بظهور فاعلين جدد في بلورة انتشار المعلومات وتداول الاخبار، وخلخلت بذلك الممارسات المهنية للصحافيين، وجددت الطريقة التي يجرى بها إطلاع الجمهور على كافة المستجدات في مختلف الميادين.

 لكن بالمقابل لا ينبغي أن يغرب عن البال، بأن التكنولوجيات الجديدة، تشكل سيفا ذو حدين، خاصة في بلدان الهشاشة الديمقراطية، والمجتمعات التي تعاني من التخلف والأمية، والاستبداد، وهو ما يطرح تحديات من طبيعة أخرى قد تعيق ممارسة حرية التعبير وتروج للكراهية والعنصرية والعنف والتعصب والتطرف. كما تساهم في نشر التفاهة، والتضليل والتجهيل، وتعميم الفكر الخرافي، والاسترزاق .  

وبالعودة إلى “ليلة الهروب الكبير”، فإن هذه الحدث ينبغي أن يتحول من مشكل اجتماعي، إلى فرصة من أجل فتح نقاش عمومي مجتمعي شامل، باشراك جميع المتدخلين من مختلف المواقع، للبحث عن الوسائل الكفيلة بمعالجته وفق مقاربات متعددة الأبعاد في مقدمتها فتح ورش التربية على الإعلام.

 فعلى الرغم مما يلاحظ من محدودية الأبحاث والدراسات حول العلاقة ما بين الإعلام والمدرسة هذه الأخيرة التي تبقى متصلبة لا تفتح أبوابها أمام تيارات التقنيات الحديثة، كما سجل الخبير العراقي زكي الجابر (1931 – 2012)، في كتاب بعنوان ” الإعلام والمؤسسة التعلمية: الطلاق الذي لم يكتمل” والذي تساءل فيه بالخصوص هل يمكن للمؤسسة التعليمية أن تحدث تطورا وتغييرا في البنية الاجتماعية، ما دامت هي غير مستجيبة للتطور والتغيير؟. وفي هذا الصدد، طالب بالعمل على “رأب الصدع” بين أساليب التدريس وما يقدمه الإعلام الذي يعد ركنا أساسيا في بنية الحياة الاجتماعية والحضارة الانسانية المعاصرة.

ودعا الجابر الأستاذ السابق بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، كذلك إلى ضرورة فهم وتحليل جوانب العلاقة بين التربية والإعلام ضمن إطار حياتنا المعاصرة انطلاقا من الافتراض بشمولية الإعلام واتساعه وجديته، وبقاء المدرسة متصلبة في طرقها وأساليبها موضحا أن التعليم كإعلام بحد ذاته، يركز اهتماما كبيرا على العلاقة بين المعلم والتلميذ ولدربة المعلم وحنكته واطلاعه على الدور الفعال في تحقيق وصول المعلومة.

 غير أن هذه العلاقة المباشرة بين الطرفين لن تتسم بالفعالية والجدوى، إذا لم تتصل بعلاقة إعلامية غير مباشرة، تتأتى عن طريق الكتب والصحافة ومتابعة وسائل الإعلام الأخرى. لأن وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والأسرة- في نظر الجابر – تتحمل مسؤوليات كبيرة في مواجهة اشكاليتي الإعلام والمؤسسة التعليمية، وهي مطالبة بالعمل على «رأب الصدع» بين أساليب التدريس وما يقدمه الإعلام الذي يعد ركنا أساسيا في بنية الحياة الاجتماعية والحضارة الانسانية المعاصرة.

وبصفة عامة، يظل المطلوب أولا تجسير العلاقة بين المؤسسات التعليمية والتربوية ووسائل الإعلام والاتصال، وتجاوز النظرة الضيقة التي ترى اندماج المؤسسات التربوية وفي طليعتها المشرفين على الشأن العلمي ومؤسسات التكوين الصحفي في مجتمع الإعلام والمعرفة، يشكل ترفا فكريا وشكليا، بل هو في واقع الأمر ضرورة حتمية من أجل التطور والتقدم. كما يقتضى الأمر من جهة ثانية التفكير في السبل الكفيلة بتفاعل حقيقي للمدرسة مع ثورة الإعلام والاتصال،  لدور الإعلام التربوي والمدرسي، كوسيلة تواصل اجتماعي في اكساب المتعلمين المهارات لتطبيق أجناس الإعلام بوسائطه المختلفة، مع العلم أن حصيلة ما يتلقاه الطفل من رسائل ومعلومات الى مرحلة البلوغ، نتيجة التطور التكنولوجي، تفوق بكثير كل ما يتلقاه من علم ومعرفة طوال بقية عمره.

 وهذا ما يتطلب فتح نقاش عمومي حول واقع المدرسة المغربية وآفاقها على ضوء حصيلة الإعلام التربوي، بهدف اعداد استراتيجية واضحة المعالم حول هذا في الموضوع، وادراج التربية الإعلامية ضمن المقررات الدراسية، منذ السنوات الأولى، كما هو شأن التربية الوطنية والإسلامية، مع تحديد الدور الذي يتعين أن تضطلع به وسائل الإعلام في دعم قيم ووظائف المدرسة المغربية، والنهوض بالإعلام التربوي، مع تطوير وتجويد مضامين ومناهج التكوين الإعلامي والتواصلي.

Visited 31 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جمال المحافظ

باحث متخصص في شؤون الإعلام