العرب وإسرائيل.. من حروب الأنظمة إلى حروب المقاومة
محمد بنمبارك
يقول بنيامين نتنياهو، رئيس حزب الليكود، في كتابه ” مكان تحت الشمس” الصادر عام 1995، ما يلي: ” اعتدت خلال عملي كسفير لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، منتصف الثمانينات، الالتقاء أحيانا بصورة سرية مع أحد السفراء العرب بالأمم المتحدة. وفي أحد اللقاءات، قال لي الدبلوماسي العربي:
“إنني أقول لإخواني العرب – لقد انتهى الأمر. سألته: ما الذي انتهى؟ أجابني: الخيار العسكري العربي. فمنذ حرب حزيران لم تعد لدينا إمكانية إخضاع إسرائيل في ميدان المعركة، وأن أية حكومة إسرائيلية لن توافق على العودة إلى خطوط عام 1967. وأقول لأخواني: لا خيار لدينا سوى التسليم بوجود إسرائيل.”
يقول نتنياهو: ” هذه المحادثة انطوت على اعتراف جديد كان ينتشر تدريجيا في كل الدول العربية بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب الأيام الستة…. فلم يعد بمقدور الجيوش العربية التغلغل إلى قلب إسرائيل… وقد اتضحت للعرب صحة هذا التقرير في حرب يوم الغفران…. عندما وقف الجيش الإسرائيلي على أبواب القاهرة ودمشق، وعدم قدرتهم على هزيمة إسرائيل…، وأدى ذلك إلى خلق نظريتين مختلفتين في العالم العربي:
الأولى، التسليم بوجود إسرائيل، والشروع في نهاية الأمر بالتفاوض معها على السلام…
الثانية، تتمثل في الهجمات الإرهابية والعنف والانتفاضة، تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية….”.
يستفاد من كلام نتنياهو، قبل 30 عاما، أنه يعكس رؤيته المستقبلية لمسارات الصراع مع العرب، بالمضي في تحييد الأنظمة العربية وإسقاط عامل الحرب والتحول إلى المسار السلمي، والانــــــــــفـــــــراد بالمقاومـــــــة “م.ت.ف” التــي تمـــــــثل في نظـــــــــــره ” الإرهــــاب والعـــــنف والانتفــــــاضة”، وهو المشهد الماثل أمامنا اليوم من خلال الحرب الإقليمية المشتعلة بالمنطقة بين إسرائيل وحركات المقاومة بفلسطين، لبنان، اليمن، وإلى حد ما العراق وسوريا، حرب أكد قادة إسرائيل أن غايتها القضاء النهائي على كل أشكال المقاومة بالمنطقة والانفراد بالحل الإقليمي وتغيير خريطة الشرق الأوسط.
75 عاما من الصراع مع إسرائيل عرفت تحولات دراماتيكية في المشهد العربي، خاضت خلالها الجيوش العربية خمسة حروب ضد إسرائيل: النكبة 1948، السويس 1956، النكسة 1967، حرب الاستنزاف 1970/1972 ثم حرب أكتوبر 1973، التي كانت آخر الحروب العربية الإسرائيلية، ليعقبها تغيير مثير في طبيعة العلاقات العربية الإسرائيلية، بتدشين مصر مسار التسوية بعد إقدام الرئيس المصري الراحل أنور السادات على رحلته التاريخية إلى إسرائيل نوفمبر 1977، تمخض عنها إبرام اتفاقية السلام “كامب ديفيد” سبتمبر 1978، بعدها بسنوات دخلت منظمة التحرير الفلسطينية على الخط السلمي فوقعت مع إسرائيل اتفاق “أوسلو” سبتمبر 1993، وفي أكتوبر 1994 سارع العاهل الأردني الملك حسين إلى توقيع اتفاق سلام جديد “وادي عربة” مع إسرائيل. تَحَوُّل استراتيجي عربي من العداء إلى السلم، عكسه تصريح الرئيس السادات لما قال:” لا حرب أخرى بعد اليوم”. فكان بذلك سلاما مجردا وليس سلاما مسلحا.
توسعت رقعة العلاقات العربية الإسرائيلية لتشمل دولا عربية أخرى كتونس، موريتانيا، المغرب، السودان ودول الخليج العربي. رافقت هذا التنشيط في العلاقات مع إسرائيل، تحرك عربي جماعي من خلال مؤتمرات القمم العربية، فجاءت مبادرة السلام لولي العهد السعودي الأمير فهد 1981، وحسمت الدول العربية موقفها بشكل نهائي لما عرضت على إسرائيل مبادرة سلام في قمة بيروت 2002، التي ربطت بين إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 بالضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية. مبادرة رفضتها إسرائيل التي تُصِّر على السلام دون مقابل.
التوجه السلمي العربي لم يكن مطلقا فقد برزت عواصم الرفض ” جبهة الصمود والتصدي” العراق سوريا اليمن الجنوبي الجزائر وليبيا، التي لم تكتف بإعلان رفضها التقارب مع إسرائيل بل شكلت حاضنة للعديد من فصائل المقاومة الفلسطينية بمختلف أشكالها، فمدتها بالمال والسلاح وأَوَتْ مقراتها ومقاتليها، وساعدتها على مواصلة الكفاح المسلح ضد إسرائيل. لكن هذه العواصم ذات البعد القومي العروبي سقطت على مراحل، بغداد، دمشق، طرابلس، صنعاء، فراغ استغلته إيران التي دخلت على خط المقاومة الفلسطينية فساعدتها ماليا وعسكريا وحَرَّكَتْها وفق أجندتها، كما تمكنت طهران من الهيمنة على أربع عواصم عربية بالمنطقة: دمشق، بغداد، بيروت وصنعاء، ثم غزة ليتحول مشهد الصراع والمقاومة من قومي إلى إسلامي تحت يافطة شيعية.
خروج الأنظمة العربية من معادلة الحرب لتحرير فلسطين، رافقه تحول مركز القرار السياسي العربي من العواصم الكبرى المؤثرة إلى دول الخليج التي تحكمت واستحكمت وغيرت من معادلة الصراع وطبيعة المواقف، كما بارك عرب المنطقة إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على إسقاط نظام صدام حسين 2003، دون إدراك لعواقب سقوط بغداد وتداعياتها على عواصم المنطقة من خطر إسرائيل ومن التوسع الإيراني الذي لم يتأخر، حين سلمت واشنطن العراق لإيران على طبق من ذهب. فغياب صدام ذلك الحصن المنيع ضد النفوذ الإيراني بالمنطقة سقط بأياد أمريكية وإسرائيلية وعربية.
أما على صعيد خط المقاومة، رغم كل المتغيرات، لم يتوقف الحِراك منذ انطلاقته في ثلاثينيات القرن الماضي، بل تأجج حين دخلت حركات المقاومة الفلسطينية والعربية المسلحة ساحة معارك مفتوحة وصدامات مباشرة شبه عسكرية مع إسرائيل، فاختارت نهج حروب تحرير استنزاف متقطعة: لبنان 1982، 2006، 2024، الانتفاضات الأولى والثانية 1987/1993 و2000/2005، ثم حروب غزة 2008/2009 و2012 و2014 و2019 و2021 و2022 وأخيرا وليس آخرا، حرب السابع من أكتوبر 2023/2024، هي في مجملها حروب مقاومة مغامرة مفتوحة بلا هوادة دون حساب للعواقب والخسائر، بل تحكمها مبادئ مثالية غايتها الدفاع عن الأرض والقيم الوطنية والدينية، وإرهاق الاحتلال ومنعه من تحقيق أهدافه، رغم ترسانته العسكرية المتطورة ودعمه الخارجي، بخلاف حسابات الجيوش النظامية.
انزعج العرب من دخول إيران من خلف الستار عبر أذرعها للمقاومة، حزب الله، حماس والجهاد الإسلامي بغزة، الحوثيون، وتشكيلات حزبية مسلحة بالعراق وسوريا. وقد أدى الانقسام الحاد في الصف الفلسطيني لاسيما بعد فوز حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي 2006، وانفرادها بالحكم بغزة، وحصول حكومتها بقيادة إسماعيل هنية على الدعم المالي الإيراني والقطري، أدى إلى ميل الأنظمة العربية إلى السلطة الوطنية الفلسطينية برام الله تحت قيادة محمود عباس السلمية.
لذلك لما حلت غزوة السابع من أكتوبر، انشغلت الأنظمة العربية بحسابات الفرز والتدقيق والقياس حول الموقف من المقاومة الإسلامية وربطه بالموقف من الإسلام السياسي والعلاقة بإيران أحد أقطاب الفتنة بالمنطقة العربية، خارج سياق مسؤولياتها القومية والإسلامية والتزاماتها بدعم القضية الفلسطينية جوهر الصراع. متغافلين عن أن هذه الحرب ما هي إلا تعبير حاد وساخن عن صراع إقليمي متصاعد بين إيران وإسرائيل لكل أجندته الخاصة. وأن الدول العربية باتت ضحية هذه المعادلة الحربية التي تقع بالمنطقة وتشكل تهديدا لحدودها ولأمنها القومي ولاستقرار شعوبها مهددة لكراسي الحكم.
حلت الحرب أيضا والعالم العربي مغلوب على أمره أوضاعه صعبة خلافاته متعددة ومواقفه متضاربة يمر بحالة فراغ استراتيجي ومنظومة عربية مفككة متقطعة الأوصال. كما أن الظروف التي أفرزتها سنوات العجاف العربي لم تكن لتساعد على دخول العرب كطرف مؤثر في مشهدية الحرب لا سياسيا ولا دبلوماسيا ولا اقتصاديا في ظل الغياب التام للخيار العسكري.
فلم يلعب سلاح النفط دوره في الضغط على أمريكا والغرب وإسرائيل لوقف الحرب، ولا المقاطعة الاقتصادية والحصار، ولا رسائل التهديد والتلويح بورقة اتفاقيات السلام الثلاثة واتفاقات ابراهام الخليجية، وبدا جليا ذلك التقهقر في دعم المقاومة الفلسطينية إزاء العدوان الإسرائيلي، الذي أصر مُدَبِّره نتنياهو على رفض كل مبادرات ووساطات وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى، فالغاية تعكس حقيقة نواياه بتدمير غزة وتوجيه رسالة تهديد مبطنة لعرب المنطقة حول طبيعة السلوك الحربي لجيش إسرائيل، وإعادة تكريس نظرية الجيش الذي لا يقهر، بعد القضاء على كل جبهات المقاومة والمضي قُدُما في مسار التطبيع الإقليمي المجاني. وقد تحدث نتنياهو بعجرفته المعهودة في خطابه الأخير بالأمم المتحدة ملوحا بخريطته التي شطبت فلسطين وحددت الخط الفاصل بين من اسماهم أصحاب النعمة وأصحاب اللعنة، معتبرا أن السلام ليس سوى تجارة وسياحة وأمن واقتصاد وفتح أبواب وأجواء.
استغلت إيران، التي باتت تتحكم في لعبة الحرب والهدنة بالمنطقة مع التنظيمات الفلسطينية المسلحة الموالية لها (حركة حماس، الجهاد الإسلامي)، فتحولت بذلك المقاومة الفلسطينية التي كانت تحظى بالدعم السياسي والمالي من قبل العواصم العربية إلى عبء بعد التدخل الإيراني في الشأن الفلسطيني بشكل مباشر، بل إن المقاومة الفلسطينية المسلحة أصبحت خصما للعديد من الدول العربية، جراء ولائها لطهران وانتقاداتها الحادة للتقارب العربي الإسرائيلي وإطلاقها اتهامات مستفزة.
نتيجة ذلك، خاضت “حماس” حرب السابع من أكتوبر دون أن تحظى بتعاطف إقليمي عربي، كما أن موقف السلطة الفلسطينية بدا رافضا لمغامرة حماس وطالبت بمحاسبتها على الدمار والكارثة الإنسانية التي حلت بأهل غزة.
في المقابل رفعت الحرب من شعبية “حماس” فلسطينيا وعربياً وإسلاميا بشكل أحرج الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية، وجعلها في صدارة النقاش السياسي الإقليمي والدولي، كرقم مهم في معادلة حل القضية الفلسطينية، وهو ما يسعى نتنياهو لتحييده بشكل نهائي، عبر السعي لتدمير حماس والقضاء على قيادتها كهدف رئيسي للحرب.
لا يمكن إنكار أن للأنظمة العربية مسؤولية جسيمة فيما يقع، لما تخلت من دعم جبهة المقاومة الفلسطينية وتركتها فريسة للتدخل والاستغلال الإيراني من جهة، ولما تركت الشعب الفلسطيني تحت رحمة نيران الاحتلال دون مساندة، موقف عكسه التراجع المخيب عن دعم القضية الفلسطينية، والاكتفاء بالتشبث بالمسار الدبلوماسي الناعم للحل دون أي التزام حقيقي من طرف إسرائيل، التي تخطط لآفاق توسعية بالمنطقة خارج حسابات العرب.
خلاصة القول إذا كانت حروب الجيوش العربية مخيبة للآمال ضاعت معها الأرض والكرامة….، فإن حركات المقاومة كانت شرسة عنيدة تنهزم وتعود، لم تحبطها آلة الدمار الشامل العسكرية المتطورة، بل واصلت كفاحها كقوة مبنية على عقيدة الانتصار وقهر العدو واستنزاف طاقاته بالمبادرة والتربص والمباغتة كما حصل يوم 7/10 بما توفر لديها من سلاح متواضع، وكان بإمكانها أن تحقق نتائج أفضل لصالح القضية لولا الانكفاء العربي، والتدخل الأمريكي والغربي السافر في الحرب.