سورية: مأساة البداية.. مأساة النهاية…
جورج الراسي
كم هي بشعة “الطائفية” عندما تتحول الى عصب السلطة، بخاصة في بلد كسورية اكتسب عن جدارة، في وقت من الأوقات، لقب “قلب العروبة النابض “. كان السوريون منذ استقلال البلاد يرفعون شعار الوحدة العربية، ويقولون إن لا علم يمكن أن يرتفع فوق العلم الوطني إلا علم الوحدة. وطبقوا ذلك على أرض الواقع عام 1958، حين ارتضوا جمال عبد الناصر رئيسا عليهم، وسلموه مقاليد البلاد دون قيد أو شرط.
ولو أردنا أن نؤرخ لنشوء الطائفية – لا الطوائف – في سورية لقلنا إنها تعود بشكلها البشع إلى ما بعد انفصال سورية عن مصر وانهيار “الجمهورية العربية المتحدة” عام 1961، علما أن الأستعمار الفرنسي لم يوفر فرصة لتعميق الصراعات بين فئة وأخرى، وبين منطقة وأخرى، وبين طائفة وأخرى، على قاعدة “فرق تسد”…
وفي الحالة السورية التي نحن بصددها، فقد نشأ الصراع داخل الطائفة العلوية أولا، ثم داخل حزب البعث، وأخيرا ضمن العائلة الواحدة…
صراع داخل الطائفة
الاسم الأصلي لعائلة “الأسد” في سورية هو “عائلة الوحش”.. جاء الجد سليمان من مدينة “بهرز” العراقية ليعيش على أطراف قرية القرداحة. وكانت الطائفة – كما كل الطوائف – تتوزع على “فخود”، وعشائر، وعائلات تتفاوت في درجات الفقر والغنى.
عائلة سليمان كانت تصنف بين الأفقر، و دخل قبل الاستقلال في لعبة الفرنسيين لخلق عدة دول في سورية من ضمنها” دولة علوية”، بمؤازرة عدة عائلات أخرى، من بينها عوائل محمد سليمان الأحمد، وصقر خير بيك، وابراهيم الكنج و غيرهم… علما أن عشائر عديدة كانت تتنازع الطائفة كالخياطين والحدادين والكلبيين الذين انتمى الأسد إليهم، إضافة إلى عشائر أخرى…
في المقابل وقف الشيخ العلوي صالح العلي إلى جانب قائد الثورة السورية الكبرى، وزعيم الطائفة الدرزية، سلطان باشا الأطرش لدحر الاستعمار وتحقيق وحدة الوطن…
… وصراع داخل الحزب...
أحد شروط الوحدة مع مصر كان حل الأحزاب السورية، وعلى رأسها حزب البعث الذي صنع الوحدة. وتم استبدالها فيما بعد بحزب هجين هو “الاتحاد الاشتراكي”. كما جرت تنقلات بهدف فصم عرى النسيج السوري، من بينها نقل أبرز الضباط إلى مصر درءا لخطرهم…
غير أن عملاء المخابرات المصرية كانوا أقل خيالا من العسكريين السوريين المبعدين إلى مصر حتى تسهل مراقبتهم. إذ أن هؤلاء لم يضيعوا وقتهم، وما لبثوا أن أسسوا لجنة سرية أطلقوا عليها اسم “اللجنة العسكرية”، ضمت ثلاثة ضباط علويين، هم حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران، إضافة إلى ضابطين إسماعيليين هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير .
وبقيت هذه اللجنة العسكرية السرية على قيد الوجود حتى ما بعد الانفصال عن مصر عام 1961، وشاركت في انقلاب حزب البعث على الرئيس المنتخب ناظم القدسي عام 1963.
العقل المفكر للمجموعة كان صلاح جديد، لكنه ارتكب غلطة العمر حين أمر بترقية الأسد، الذي كان يحمل أصغر رتبة عسكرية في المجموعة، لكي ينصبه وزيرا للدفاع..
في “حركة 23 شباط – فبراير 1966، تم عزل كل “القوى الرجعية”، ثم نفذ الأسد انقلابه الخاص في 16 تشرين الاول – أكتوبر من عام 1970.
عزل الأسد كل رفاقه في “اللجنة العسكرية” وبدأ بتصفيتهم واحدا بعد الآخر، بعد أن أعد لكل واحد نهاية تليق به: صلاح جديد – وهو من عشيرة الحدادين – أمضى بقية حياته في سجن المزة، نور الدين الأتاسي الذي عين “رئيسا للدولة” أخرج من سجنه في أواخر أيام حياته للتداوي،… وقد قضيا أكثر من عقدين دون أن يريا نور الشمس…
عبد الكريم الجندي انتحر بعدة رصاصات، وقد تكررت تلك الحالات في سورية فيما بعد… الخ…
محمد عمران وهو من نفس عشيرة الرئيس – إذن الأخطر – تم اغتياله في مدينة طرابلس اللبنانية في آذار – مارس 1972 … حتى صلاح الدين البيطار أحد مؤسسي حزب البعث، اغتيل في باريس، حيث كان يصدر جريدة “الإحياء العربي” في شهر آب – أغسطس عام 1980.. وما زلت أذكر افتتاحية العدد الأول بعنوان “عفوك شعب سورية العظيم ..”!
وصادف أنني التقيت أكرم الحوراني في باريس في نفس ذلك الشهر، وكان يسكن قريبا من داري في الدائرة 15.. وقرر بعد تلك الحادثة الانتقال إلى إحدى الضواحي…
وصل الصراع فيما بعد إلى شقيق الرئيس رفعت الأسد، الذي كان يقود “سرايا الدفاع” آنذاك، والذي حاول القيام بانقلاب على أخيه عام 1984 بسبب مرض هذا الأخير، وقد تم “نفيه” إلى فرنسا بعد أن أفرغ ما تيسر من خزائن البنك المركزي (ما أحلى رياض سلامه أمامه…!).
… وصراع داخل العائلة…
لم يكن “إبعاد” رفعت الأسد الفصل الوحيد في الصراع العائلي. فقد اختلطت الامور بعد مقتل “الوريث الشرعي” باسل الأسد في حادث سير مريع على طريف المطار عام 1994، يشبه الحادث الذي أودى بحياة الأميرة ديانا في باريس… وكان على وشك مصاهرة لبنان من خلال ارتباطه بسيدة لبنانية “مسيحية” متزوجة… وقد ربطهما حب الفروسية. آلت الرئاسة فيما بعد إلى شقيقه بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد عام 2000.
لكن الصراع العاائلي اتخذ منحى جديدا بين عائلتي الأسد ومخلوف، بخاصة بعد دخول زوجة الرئيس الجديد أسماء الأخرس – وهي من حمص – على الخط، وتوليها الإشراف على كافة الملفات الاقتصادية الهامة، بخاصة وأنها عملت في بنك “مورغان” في لندن التي تحمل جنسيتها، حيث التقت زوجها الشاب حين كان متدربا في اختصاص طب العيون …
ما عدا ما اقترفه رفعت الأسد، فإن الخلاف الأشد ضراوة كان بين عائاتي الأسد ومخلوف…
فعائلة مخلوف لم تكن توافق في الأساس على زواج ابنتهم أنيسة بحافظ الأسد لأسباب طبقية، أضف إلى ذلك أن عائلة مخلوف كانت تنتمي إلى الحزب المنافس، الحزب السوري القومي الاجتماعي… وقد توارثت العائلتان ذلك الخلاف أبا عن جد … وانتهى الأمر بوضع زوجة الرئيس يدها على كافة أموال وشركات رامي مخلوف، الذي عمل مدة طويلة كواجهة اقتصادية للعائلة… وتقدر تلك الأموال بأرقام فلكية لا داعي لذكرها امام الجنود الذين يعرضون أنفسهم للموت مقابل 40 دولارا في الشهر، بعد زيادات بلغت 50 بالمئة…!
ويقال إن رامي مخلوف يقضي أيامه اليوم مع الجن والعفاريت والأرواح الشريرة…
وأخيرا لا يسعنا إلا أن نردد مع صلاح الدين البيطار :
” عفوك شعب سورية العظيم …”