شهرزاد: “ما كان أبي امرأ سوء وما كانت أمي بغيا”

شهرزاد: “ما كان أبي امرأ سوء وما كانت أمي بغيا”

لحسن أوزين

         ما كنت لأحرج هذا الرجل الغريب الأطوار الممسوس بلوثة تابو المدينة،  وهو يدس أنفه في كل شاذة وفادة، دون أن يكترث لما تحمله الأيام من عواقب الأمور. ألم يكن يعرف أن فضوله الجنوني يمكن أن يورطه في لعنة الحكي ومن أين له الحنكة والخبرة والدربة في مسالكها الشاقة ودروبها الوعرة. لكن لا حيلة له اليوم سأجره رغم أنفه الى ساحة المدينة المهترئة، حتى يتعلم الطقوس السرية للنساء في ابتلاع العذابات الناتجة عن الآلام الحافرة في الأعماق دون رحمة ولا شفقة. سأطرق بابه عشرات المرات دون كلل ولا ملل لكشف المستور والمسكوت عنه الذي يعجز الرجال عن رؤيته وهم يبصرون.  لا تخش شيئا أيها الرجل كن لي جسرا للعبور الى الضفة الأخرى للكلام المنسي في تجاويف الحكي، كن لي شعاع ضوء للخروج من عتمة هيمنة الذكورة في الواقع والخيال والتخييل، كن لي لغة فأنا صوتك المجنح القادر على انتهاك شقوق التابوهات التي خلفها زمهرير السرد المشؤوم في ألف ليلة وليلة، دون أن يرف له جفن حياء النفس في ارتكاب محارم الغيبة وهو يأكل من لحم أخيه حيا أو ميتا. دعك من تأويلات المغرضين فلا همّ لهم في كلامك أو صمتك غير نباح الكلاب وهي تطارد قافلة الحياة. لا الصحبة كانت لهم ولا متعة سفر الحياة كانت من نصيبهم. دعك من كل الترهات واصدح بما في القلب المقهور من كلام مكتوم وأنت تعيش التجربة على صغر سنك، كنت كالشاهد المشهود حين حل خبر المأساة بموت عشرات من أبناء الوطن في قوارب الموت، في تلك الليلة التي ليس كمثلها شيء، في الحزن والقهر والمرارة. عشت المحنة وما كان واحدا من هؤلاء الغرقى من ذويك ولا من أهلك. شيء مجهول في ذاتك جعلك معنيا بلعنة السماء في مضاعفة قهر الأرض التي لا تحس بآلام أهلها.

 دعك من هذا الموال المحموم لأنك تقول في نفسك وكأنك تعطي عهدا أو تفي بوعد على أنك ستأتي على ليلة المأساة بالتفصيل. فعرج بنا الآن أيها اللبيب الى المنعطفات المعتمة لشرق المتوسط، لأقول كلمتي قبل أن يجف حبر كلام الراوي فتضيع الحقيقة بين السطور. وأنت العارف المزعوم بخبايا النص المجهول ألم تكن شهرزاد  تنظر ولا ترى. و إلا ما الذي جعلك يا شهرزاد لا تأتين الكلام من بابه العريض دون لف ولا دوران وأنت تراهنين على قارئ مسكون بحمى لعنة الجسد؟ و قولي لي بربك المعبود في عز القهر والظلم والعبودية ما مبرر كلامك حين اختزلت حضوري فيما أشعله من حرائق في غرائز الشباب والرجال كلما مررت من هنا أو هناك. كأنني كنت مجرد جسد قابل للتعري أو لخلق هوامات، بريء منها الشيطان، للاستمتاع الذاتي في اليقظة، وليالي الشتاء الطويلة التي تنزل بثقلها القارس الرهيب على ما هو مقموع في جوف الأنفس من متع الحياة.

 هذا العالم الحقير الذي صورتيه بعدستك يعرفه الصغير والكبير، لكن ما كنت أنتظره منك يا شهرزاد كما عرفتك في حياة مخيال القصور بنتا خدومة طيبة، خاصة في المواقف الصعبة. . صحيح أنك كنت خجولة وكتومة، بنوع من الحياء الذي لا يخلو من شيطنة الصغار، وهدوء رزانة الشباب والصبايا.. ما كنت أنتظره منك هو أن تنفذي الى الأعماق لتكشفي العذابات اللامرئية التي لم تكن ترحم يتمي وغربتي، وعزلتي النفسية العميقة التي ترسبت في قلبي الصغير.

 وقبل أن أستوعب دلالة معنى فقدان الأم وجدت نفسي دون اختيار بين يدي رجل غريب مكسور الخاطر، مقهور النفس وفقير الحال، ليله كنهاره وهو في ذلك الذهاب والإياب أشبه بحمار الطاحونة، يغتصب طفولتي، وهم يكررون على مسمعي، بخبث الكلمات الخداعة الضالعة في القهر الحافي الموروث، بأن هذا الرجل حجاب الستر الذي تتمناه كل فتاة في نومها ويقظتها، وهي تحلم يوما ما بقدومه السعيد لفك قيد الأسر قبل أن تطالني لعنة العنوسة.

إنه لأمر غريب أن ترتبي الوقائع بهذا الشكل السخيف، وتجعلي مني وجها فظيعا لما خلفته بشاعة المدينة، الغارقة في أقبية القهر والفاقة والذل، والخنز القاتل لكرامة الانسان. هكذا إذن تختزل الخيانة في صورة امرأة مزقتها تحولات الحياة، وهي تقذف بي من يتم لآخر. لو كان الامر يتعلق بيتم الوالدين لهانت مشاكل الحياة، رغم أنك تعرفين قساوة العيش وفق التعبير الشعبي: ك” المقطوع من الشجرة”. لكن اليتم الفظيع الذي عشته أنه تم استئصالي بعنف بشع من حضن بيئة حياة ارتبطت بها بكل حواسي وجوارحي، وفجأة وجدت نفسي دون أن أقوى على الكلام أو الرفض بين يدي رجل لا يتسع عقله لأكثر من فكرة قابعة تحت حزامه العسكري. حيث كان جسدي الصغير ميدان مناورات عسكرية. نمضي الليل بين الكر والفر، ورائحته النتنة غالبا ما كانت تفقدني الوعي، كأنه لم يغتسل منذ أن ولدته أمه. أو بينه وبين الماء خصام عدواني مزمن، الشيء الذي سبب الجفاء، ومنع أي تواصل بينهما.

صحيح أنه كان طيبا للغاية ومتفهما لكل ما أطلبه منه، إلا طلاق التبغ فقد أقسم باسم الولي الصالح ” سيدي قاضي حاجة” أنه لا يستطيع أن يقدم على هذا الإجراء الخطير، الذي سيقلل من شهامته ورجولته، ويجعله موطنا للأحزان، أو يؤدي به الى الجنون. حاولت أن أقنعه بالصلوات الخمس، ليس محبة في الله فقط، بل بالدرجة الأولى أن أجعله يفارق جلد الجيفة العطن الذي تلبسه منذ ولادته. لكن لا حياة لمن تنادي. وكانت أيام قدومي خلال الشهور الأولى مشحونة بالرعب والقلق النفسي الرهيب. لذلك كنت أمضيها في الكثير من الأوقات بصحبة البكاء الصامت، وأنا جاثمة لا أقوى على الحركة، ولا أفهم معنى وجودي أولا مع هذا الرجل بالضبط، كأنه مكتوب على محياي، أو على صحيفتي الغيبية في ملكوت الشياطين، لآن الله لن يقبل بقسمة ضيزى هذه.  ولا كنت أعرف سبب هذا القدر المنحوس الذي جعلني من قطيع أهل المدينة، ونحن تحت الحراسة النظرية لعيون السلطة، ومن معها من حراس الليل.

وكان صديقي الوحيد هو كتاب الله المنقوش في ثنايا قلبي، الذي تمكنت بفضل الله من حفظه بالسمع فقط. ألا يكفيك ما عشته ردحا من الزمن أخلفت فيه الحياة وعدها وعهدها، وهي تقذف بي مولودة حية وسط أحياء يرزقون رزق المحتضر في الهامش الجنوبي الملعون من البلد بلوثة شظف العيش، الموسوم باستمرار بيوم ذي مسغبة. ثم بعد ذلك جرتني خيانة الوطن الى أقبية المقبرة في البلدة المنبوذة كعش الدبابير، هناك من قُتل من الرجال وهناك من ينتظر. وكانت الخيانة تحيط بنا من كل جانب متلبسة أقنعة الدين والأخلاق، ومندسة في الأعراف والتقاليد والعادات، متشبهة بالطبيعة كالمطر إذا انهمر، وهجير الحر إذا انفجر، إنه مرجل كالقدر. وغالبا ما كانت تنوب عنا تهمة خيانة البلد ومن وُلد من ولد في الكلام، بعد أن استوطنت طرف اللسان بالقول الذي لا يطاله الشك أو السؤال: تلك مشيئة الله أو سنته في خلقه، لا تبديل لخلق الله.

لولا كتاب الله المسطور في قلبي، الذي ساعدتني أمي ” للا ماما” يرحمها الله ويغفر لها ولوالدي في هذه الجمعة المباركة على حفظه، والمواظبة بتشجيع كبير من طرفها لكنت من الضائعات التائهات في هذه العاجلة التي تجعل الناس يموتون وعيونهم مفتوحة على المال، وسخ الدنيا. فمن منا كان نظيفا في هذا الزبل المخيف، حتى تسقطينني أرضا، عارية من كرامتي بين الناس بعد أن رتبت كل خطوات الحكي، وأنت ترمين بالهادي في طريقي لتجعلينني متلبسة بالجرم المشهود بين عيني محمد الحراث. ما هكذا يا شهرزاد نصفي حسابنا مع السلطة التي نالت من إنسانيتنا وهي تحشرنا في مستنقع الألم بين أرملة ومقتول، بين مقهور ومأسور…

ما هكذا خالتي شهرزاد يؤكل حريم المدينة بالعربية الفاحشة، ونحن نمعن في خدش جراحاتنا الطرية، فتفلت الوقائع من بين أصابعنا، ويظل خنجر القاتل مخبأ تحت رداء خيانة امرأة، وحيدة خسرتها الحياة وضيعها الزمن الرديء بين حفر المدينة، تعيسة، متروكة للمدينة منفاها الأليم…

قولي لي بربك ما الذي يميزني في أن أكون بين يدي هذا الرجل المأسوف على غيابه، والذي لا اسم له غير الرقم العسكري، أو عاهرة على قارعة الطريق؟ إنه مجرد رقم في عداد الموتى أو الأسرى أو المفقودين، أو الأشباح المحالين على المعاش، وهم ينتظرون تحت وابل من السخط والغضب الجنوني اللحظات الأخيرة من موتهم البطيء، وهم يكتشفون كيف اغتُصب منهم العمر، باسم طُعم حب الوطن، في وقت لم يكونوا يملكون قبوا صغيرا يهيئ موتهم الأخير، قبل أن يُسدل ستار سردية حماة الوطن. هذا الوطن الذي التهم خصوبة عمرهم، وهم في قيلولة أو ساهون عن كيف تنهب خيرات البلد تحت وقع الذل والقهر وانعدام الكرامة. وإلا ما معنى ألا يتجاوز معاش الرجل الذي سرق منه العمر، أو قدم قربانا في سبيل الوطن ألف 100 ليرة بالحروف والأرقام دون زيادة أواحتمال النقصان، كلما توفي أحد الزوجين؟

 نعم أريدك أن تصرحي بعظمة لسانك عن الفرق بين شراء نكاح بالجملة يحلله لصان، أي عدلان، يسمى زواجا، وبيع نكاح بالتقسيط يسمى دعارة، والمرأة فيهما معا مجرد سرير للمتعة العابرة التي فجرها القهر والاضطهاد والحرمان. ألم يكن من حقي في وحدتي وعزلتي القاسية أن أبحث عن جدار أو ظل يحميني من التشرد والضياع؟ وأنت لست فقط من أهل المدينة، بل خبرت الحياة وتوسعت معارفك ومداركك وصرت أدرى بشعاب الوطن وتعلمين كيف تؤكل المرأة عشرات المرات في اليوم الواحد في البيت، و من خلال اللمس بعيون جاحظة تطل من جثث تثقل كراسي المقاهي على قارعة الطرقات والشوارع، كما لو أنهم في المزاد السري لمؤخرات النساء؟

 هكذا ضيعت يا شهرزاد الشرف بين شرف فخدي امرأة. وهل في مثل هذا العيش بين الحفر النتنة والأقبية القاتلة في القر والحر ما يبعث على الشرف، ونحن أقرب الى حياة الفئران البشرية في هذه الجحور؟

لقد أثقلت علي كثيرا، أنا المرأة الممسوسة بعشق الهامش والمهمشين، وحملتيني ما لا أطيق، لكن كان علي قبل أن نفترق ويذهب كل واحد منا الى حاله سبيله، أن تسمعي ما لا يرضيك. لا تهمني انطباعاتك أو تأويلاتك.

لست مشغولة إلا بحب الرغبة في الاعتراف الذي أغفلته شهرزاد بعد أن زلت قدمها في وضح النهار في إحدى حفر المدينة، وكان لها وقع كريه في أنفي، مما حملني رغم تقدمي في العمر على شدها من طرف لسانها، خاصة أنها تتدخل فيما لا يعنيها، وتحشر نفسها، أو أنفها، وتبسط لسانها في شؤون المدينة، متعللة بالكثير من الأسباب كان على رأسها أن بعض أبناء المدينة كانوا من زملائها في المدرسة، وأن البلدة كانت صغيرة لدرجة أن ما يحدث هنا أو هناك كان له صدى في جميع أرجاء البلدة. أنا لا تهمني ادعاءاتها أن تكون صحيحة أو باطلة، عليها أن تحمل وزر ما اقترفته خطاها، وهي تقتحم الباب المحرم لسردية المدينة، فصارت ملوثة بلعنة شهوة الفرج والبطن. وما يحاك في الظلام من أسرار الجنس الدنيء، والمنحط الغريب، والعجيب الساحر الخلاب، المستجيب للهوامات المرضية الذكورية، وخاصة، هذا الرجل الحقير الذي كان في طريقي، قدري، قسمة ونصيب، كما يلوكون.

 كان بودي أن أواصل الحديث، لكن من منا يستطيع تحدي شهرزاد هذا الزمن الرديء؟ لهذا يبدو لي الآن أن خيط الكلام في إبرة خالتي شهرزاد، وأنتم تعرفون أنها لا تحب الانتظار فهي مثقلة دوما بعبء الكلام. لكنني واثقة من نسيجها الرائع المميز بشحن النفوس، وحفظ الرموز خوفا من الاندثار وحماية الذاكرة من التآكل والضياع. فاللهم استر العاقبة ونجينا من القوم الظالمين. ” فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”.

Visited 16 times, 3 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي