مراكش الحمرَاء التاريخ فى سكُون.. عندما تتحوّل ساعة اليد إلى ساعة رمليّة..!

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي
كانت مدينة مراكش قد اختيرت من طرف إحدى المواقع العالمية للسّياحة Travelers’ Choice Awards مؤخّراً كأوّل وِجْهة سياحيّة فى العالم من بين 25 مدينة، متجاوزةً مدناً مثل إسطمبول، ولندن، وباريس، وروما، وهذا ما كان قد أكّده الكاتب الإسبانيFernando Diaz Plaja “فِرْنَانْدُو دِيَاثْ بْلاَخَا” من أنّ هذه المدينة التي تُلقّب بـ” البّهجة” و” الحمراء” هي من أكثر المدن المغربية جذباً للسيّاح على اِمتداد الحَوْل من مختلف أنحاء العالم.
يرى هذا الكاتب أنّ التاريخ فى هذه المدينة العريقة ما يزال حيّاً نابضاً، محتفظاً بأصالته، وماضيه، وبريقه، وإشعاعه، وعاداته، وتقاليده،وعوائده منذ عدّة قرون خلتْ، وهو يؤكّد إنّه إذا كان هناك مكان فى العالم أصبح فيه ماضيه حاضره، وتوقّف فيه العصر الوسيط بكلّ سِحره، ورونقه، وبهائه، وأساطيره، وخياله فإنّ هذا المكان هو المغرب ، وهو يستدلّ بذلك على مدى حقيقة التقارب والتداني اللذين يطبعان الشعبين الإسباني والمغربي، بحكم تاريخهما المشترك،والموقع الجغرافي المتميّز للبلدين، خاصّةً بعد أن تشبّعت،وإغترفت أوربّا، وشبه الجزيرة الإيبيرية، وإسبانيا على وجه الخصوص من الإشعاع العلمي والحضاري والثقافي الإسلامي الزّاهر زهاءَ ثمانية قرون.
الغوْص فى غابر الأزمَان
يؤكّد الكاتب فى هذا القبيل أنّ لإسبانيا مع جيرانها الثلاثة – كما يحدث دائما – فرنسا والبرتغال والمغرب، معايشات، وصولات، وجولات، وذكريات لمعارك، ومواجهات انتصرت فى بعضها واِنهزمت فى أخرى، فمع فرنسا ما زال الإسبان يذكّرون غزو 1808 حيث حاول نابليون تنصيب أخيه خوسّيه بونابارتي على التاج الإسباني. ومع البرتغال ما فتئ التاريخ يذكّرنا ولو بغير حدّة هذه المرّة “بحرب البرتقال” التي أعلنها السّخيف مانويل غودُوي ضد إسبانيا وفرنسا عام 1801. فى حين كانت مواجهات وعراك الإسبان مع المغرب أطول وأكثر شراسةً، وقساوةً، وعناداً.
ويشير الكاتب: ولنتوقّف مع هذا القرن، ناسين الحملة الإفريقية التي شاء وصادف الحظّ أن سجّلت بواسطة قلم “ألاركون”، ورسمت بريشة الفنّان “فورتوني” ، إنه لا تكاد تمرّ خمس أو عشر سنوات دون أن يشعر الإسبان بوجود أو حضور جارنا فى الجنوب (المغرب) بين ظهرانينا: ففى عام 1909 برّانكو ديل لوبو (وادي الذئب) أو (أغزار ن أوشّن)، وفى عام 1921 معركة (أنوال) الشهيرة، وفى عام 1934 مغاربة فى أستورياس، وفى 1936 مغاربة فى كلّ مكان، وفى 1956 هجوم على سيدي إيفني، وفى عام 1975 المسيرة الخضراء… واليوم المطالبة بسبتة ومليلية وسائر الجزر والجيوب المحاذية للمغرب.
على الرّغم من كلّ ما سبق، وحسب هذا الكاتب، فإنّ المواطن الإسباني العادي لا يشعر بأيّ نوع من الحقد والضغينة نحو “المغاربة” الذين إعتاد الإسبان أن يدعوهم بشكل عشوائي ومبهم وببساطة “لوس مورُوس”، كما لو كانت أواصر الدم أقوى وأمتن بينهم من ذكريات الحرب والمواجهة.
إنّ المواطن الإسباني يذهب إلى المغرب بواعزٍ قويّ، وبفضول غريب، وهو بذلك يبدو وكأنّه يشرئبّ بعنقه على شفا الزّمن، ويطلّ على تاريخه الشخصيّ، أو كمن يغوص فى ماضيه الخاص.
ويشير الكاتب: وبالفعل إنه إذا كان هناك مكان فى العالم توقّف فيه الزّمن، وما زال العصر الوسيط ماثلاً وقائماً فيه بكلّ إشعاعه،و سحره، ورونقه، وبهائه، فإنّ هذا المكان هو المغرب.
فاس القروييّن ومرّاكش الكتبيّة
فى مدينة فاس (التي تُعتبر العاصمة العلميّة للمغرب والتي توجد بها أقدم جامعة فى العالم وهي جامعة القرويّين)، و فى مدينة مرّاكش (حيث توجد الأخت التوأم لصومعتيْ الخيرالدا بإشبيلية وحسّان فى الرباط وهي صومعة الكتبية، والصوامع الثلاث من بناء الموحّدين). ففى المدينة الأولى من هاتين المدينتين وهي فاس – يقول الكاتب – أوقفتُ المرشد السياحي عندما هممنا بالدخول فى شارع ضيّق جدّاً من أزقّة المدينة العتيقة، وأنا أشير إلى عود أو عمود من الخشب يتوسّط الزقاق، وقلت له:
– هذا الشارع الضيّق يغلق بالليل..؟!.
قال : – أجل، ولكن كيف عرفتَ ذلك..؟
قلت : – لأنّ هذا ما كان يفعله سكّان قرطبة فى القرن الثاني عشر.
نعم إنّ الماضي جاثم وقائم وكائن هنا. إنّ المسلمين عندما يطلقون البارود فإنّما هم يقومون بنوع من العروض العسكرية التي تصفها لنا المذكرات التاريخية القديمة العائدة للقرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر. إنّ المغرب بأجمعه إنّما هو نقلة نحو الأمس، إنّ التجوال فى مدينتي فاس ومرّاكش على سبيل المثال هو نوع من الإنبعاث عبر نفق الزّمن الغابر. كلّ شئ ساكن، هادئ، ثابت فى الذاكرة والوجدان، وفى الواقع والحاضركذلك، إنّ المغرب هو المكان الوحيد فى العالم الذي ليس فيه مجال لتكرار الصّور، وتوارد المعالم العمرانية، والمآثرالتاريخية لتنوّعها وتعدّد المناظر فيه وثرائها.
يقول الكاتب الاسباني: إنّني إذا ما بنيت قصراً فى المرتفعات والآكام الجبلية الاسبانية العالية، فإنّ ذلك سيكون مثيراً للسّخرية، إلاّ أنني إذا شيّدت منزلاً من هذا القبيل فى مراكش – كما فعل بعض أصدقائي- فإنّ أحداً لن يسخر أو يضحك على محاولتي لإعادة إستحضار الماضي، ذلك أنّ الماضي فى المغرب لم يمت. وهكذا فإنّ العمّال الذين ستسند إليهم مهمّة بناء الدار لا ينحدرون فقط من أصل هؤلاء العمّال الذين سبق لهم أن شيّدوا دور وقصور قرطبة وغرناطة، بل إنهم سوف يقومون بهذا العمل المعماري بنفس صبر، وأناة، وفنيّة، ومهارة أولئك .
(إنّ المغربي الذي يبني ….مائة مثقال “دوبلاس” كان يكسب فى النّهار… واليوم الذي كان لا يعمل فيه… نفس القدر كان يخسره كذلك..!).
ويضيف الكاتب قائلاً “بل إنّهم سوف يستعملون نفس المواد، والأدوات التي استعملت فى قرطبة وغرناطة. إنّهم سوف يعيدون نفس اللّمسة والمهارة العريقتين القديمتين سواء بالنسبة لهؤلاء الذين يشتغلون بالطّوب، أو بالفخار، أو بالفضّة، أو الذهب.
إنّ الذي يتيه فى فاس العتيقة يمكن له أن يجد نفسه فى لمحً من العين، أو فى رمشة جفن داخل زقاق لا مخرج له، سوف يغمره إحساس وكأنّه ثمل.
وبينما تكون لسعة رائحة الجلود المدبوغة تزكّم أنفه، فإنّ عينيه تملأهما ألوان قويّة مشعّة خضراء، حمراء، وزرقاء، وصفراء تنبعث من مستودعات المياه، والحفر، والغمر حيث يتمرّغ الدبّاغون تماما بالضبط كما كان يفعل أسلافهم فى هذه الحرفة فى إسبانيا القديمة.
ساحة جامع الفنا..تراث للإنسانية
إذا كانت ساحة “جامع الفنا” الشهيرة بمدينة مرّاكش تراثا إنسانيا اليوم، تحت رعاية منظّمة اليونسكو العالمية، فالفضل فى ذلك كما هو معروف يعود للكاتب الإسباني المعروف الراحل (دفين مدينة العرائش المغربية) خوان غويتيسولو، الذي كان قد إختار هذه المدينة الساحرة مكانا أثيرا لإقامته، وعيشه، وإبداعه، ويقول الكاتب فرناندو ديّاث بلاخا: “إنه لكي نغوص فى عمق التاريخ، ونجول فى الماضي البعيد ،ونتسربل بردائه ينبغي لنا أن نقوم بإطلالة على السّاحة العمومية الكبرى بمرّاكش التي يطلق عليها سكّان هذه المدينة اسم “ساحة جامع الفنا” وهي اليوم أشهر ساحة كبرى فى العالم بدون منازع، إنّ ساعة اليد فى هذا المكان السّحري قد تحوّلت إلى ساعة شمسية، أو مائية، أو رملية، إذ نشعر ونحن فى خضمّها أنّنا قد عدنا الزّمان القهقرىَ مئات السنين، إنّها السّاحة التي تُروىَ فيها (بضمّ التاء) قصيدة “السّيد” و”لاثيليستينا” و “كورباتشو”، إنها ساحة شاسعة،واسعة، كاملة، وشاملة تماما كما كانت موجودة من قبل عندما كان عنصرعدم الرّاحة غير متوفّر فى الدّور، والقصور، وفى المساكن، والمنازل فإنّ هذه الأخيرة كانت تقذف بالناس منذ الصباح الباكر إلى الشارع حيث تتجسّد الحياة الدائمة الدّائبة اليومية للمواطن، هناك يمكنك أن تأكل، وتشرب، وتفاوض، وتناقش،أو أن تلهو. الكبار من أجل المال، وقوت اليوم، والصّغار من أجل التسرية والتسلّي، وفوق ذلك كلّه ترى أشياء مثيرة فى أغرب عروض حلقية (نسبة إلى الحلقة) فى العالم. حيث يغدو الشارع شبيها بسيرك كبير مقسّم إلى أطراف، وأجزاء، إلى أناس يتجمهرون زرافات ووحدانا فى كلّ مكان، تتوفّر فيه جميع الأذواق التي تستجيب لكلّ الرّغبات والأهواء، وترضي كلّ الأعمار.
هناك تجد الرّجال البهلوانيين، ومروّضي الدّببة (كذا)، والقِرَدة، والمعز، والأفاعي،وهناك يوجد الباعة والمشترون تتخلّلها تلك المناقشات و”الشطارة” اليومية، و”المساومة” الدائمة التي لا تنتهي حول الأسعار التي تشكّل جزءا مهمّا جدّا من الحياة الاجتماعية للمواطن المغربي، وللأجانب كذلك اليوم..! وهو ما نطلق عليه نحن فى بلادنا : El Regateo .
حفظك الله يا رجل، كيف ترفض شراء شئ فقط لأنه قيل لك أنه باهظ الثمن..؟!
إنكم سوف تهينون البائع حتى الموت، هذا الذي يساوم بدوره حتّى على كأس الشّاي، سبب وجود وقوت بائعه اليومي..!
إنّنا واجدون هناك علاوةً على ما سبق ذكره آنفاً كذلك هؤلاء الذين يجمعون بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم. إنهم “الحلائقيّون” الذين يروون أبهىَ القصص الخيالية، وينسجون أغربَ الحكايات الأسطورية تماماً كما كان يفعلُ أجدادُهم فى القرون الوسطى. إنّ الأغلبية السّاحقة للمستمعين، المتفرّجين، والمتتبّعين المبهورين بهذه القصص – مثل سابقيهم – لا يعرفون القراءةَ ولا الكتابة ،ولهذا فإنّهم يَسْعَوْنَ إلى إشباع فضول (الأذن) بما لا يستطيع المتفرّج أو المتتبّع الوصول إليه، أو الحصول عليه بواسطة (العين)، وقد أصاب شاعرُنا الكبيرالضرير- البصير بشّار بن بُرد كبدَ الحقيقة عندما قال: يا قوم أذني لبعضِ الحيّ عاشقةٌ/ والأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا، إنهم هناك مشدوهون ، مشدودون، مندهشون، يقظون، وقد كوّنوا حلقةً مستديرةً بإحكام حول الرّجل الذي غالباً ما يكون طاعناً فى السنّ، خَبَرَتْه الأيام، وحنّكته الليالي، أو نازلاً من أعالي جبال الأطلس الشامخة، أو نازحاً من صحارى القفارالبعيدة من جنوب المغرب، يسرد بوتيرة مسجوعة ومنغّمة رشيقة، وبكلمات منظومة مُفعمة رقيقة، ويحكي قصصاً مثيرة، وحكايات مُدهشة، وأساطيرَ مهولة تدور حول الغواني الحِسان، ذوات الحُسْن الباهر، والجمال الظاهر، وعن أميرات حسناوات صاحبات العفّة والصّون، وربّات البيوت، والدلال المَصون ،ومثلما يحكي عن الأخيار، فأنه يحكي عن الأشرار كذلك الذين يرجّحون كفّة الشرّ على جانب الخير، ويحكي عن الفوارس المغاوير، والفرسان الشجعان الذين يرفعون عالياً ألويةَ الخير، ورايات النّبل، وبنودَ الكرامة الخالدة منذ الأزل، عن هؤلاء القوم الذين لا توسّط بينهم، لهم الصّدرُ دون العالمين أو القبرُ..!.
بنفس أسلوب التغنّي الذي طبع حكايات “السّيد” يجعلون المستمعين يعيشون فى كلّ لحظة وحين الحدث المَحْكيّ، أو الموقف المَرْويّ. أتذكرون…؟ ” سوف ترونَ سهاماً، وترمقون نبالاً تصعد إلى الفضاء، وأخرى تهوي من السّماء” عندما يتمّ وصف المعركة، ونعود لشاعرنا المُجيد بشّار بن برد القائل فى هذا المجال: (كأنّ مثارَ النّقع فوق رؤوسِنا / وأسيافِنا ليلٌ تَهَاوىَ كوَاكبُه).. أو “آه لو حضر السّيد القمبيطور” (El Cid Campeador).. أو عنترةُ ببن شدّاد، أو سيف بن ذي يزن، هكذا يُقال عندما يكون الرّاوي يكاد أن يوشِك من الإنتهاء من روايته،أو حكايته – ومثلما كان يحدث فى القرن الثاني عشر- يمنحه المستمعون المتتبّعون فى الأخير بضعَ دريهمات، أو (مرابطيات)* ثمّ يعودون إلى دورهم ليحلموا بما سمعوا،واستمتعوا، بينما يكون المتفرّجون الأجانب – نحن المسيحييّن الغربييّن أمثالنا من السيّاح الزائرين بشغف كبير لهذه المدينة السّاحرة – ندلفُ إلى غرفنا فى الفنادق الفاخرة فى هدوء منبهرين ممّا شهدناه، وعشناه، ورأيناه وسمعناه، لنعودَ ونسقطَ بعنف على أسرّة القرن الواحد والعشرين..!.
__________________________________________________
* في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشركانت تروج فى الأندلس العُملة “المرابطية” (EL MARAVIDI)، أو الدينار المرابطي نسبةً إلى الدّولة المرابطية المغربية التي حكمت المغربَ والأندلس، فيما بين 462ه – و 540 هـ و1070 م – 1146 م وكانت هذه العُملة تُستخدمُ وتستعمل لتسهيل التجارة مع مسلمي قشتالة، كما استُعمل الدينارالمرابطي كوحدة نقدية في سائر أوروّبا المسيحيّة، بعد الملك الإسباني ألفونسو العاشر الملّقب بالحكيم (1221-1284) تمّ استبدال هذه العملة بأخرى فى قشتالة وأطلق عليها اسمَ (دُوبْلاَسْ) الواردة فى المقال.