نموذج رجل تعليم بالجامعة المغربية

أحمد لعيوني
لا يمكن لأحد أن ينكر الرجة التي أصابت الجامعة المغربية على اثر انتشار خبر فضيحة جامعة ابن زهر، وبالخصوص كلية الحقوق التابعة لها. أن تصدر فضيحة التزوير والابتزاز، وكل ما يمكن ذكره من التعابير والمفردات التي تشتم منها رائحة الفساد، من كلية الحقوق بالذات، وهي المشتل الأساسي لتكوين رجال القانون، وأطر الدولة المعول عليهم في تسيير الشأن العام، بما في ذلك قطاع العدالة، فهذا أمر فضيع. مثل هذا الفعل لا يطيقه العقل، ولا تتقبله الأخلاق سواء بمفهومها الديني المقدس، أو الاجتهاد الفقهي، أو الفلسفي المثالي والمنطقي.
إن ما دفعني لتناول موضوع الجامعة المغربية، ليس من باب مناقشة الحالة الظرفية، أو تقديم نصائح وتوجيهات، أو اقتراح رأي يدخل في مجال الإصلاح، فهذا الأمر موكول للمتخصصين، والذين يشرفون على مراكز القرار. وحسب فهمي المتواضع، فإن هذه الأمور لا يمكن أن تمر ببساطة، ويطالها النسيان بسرعة دون أن تحدث تغييرا، إذ لابد من التفكير في حلول تعيد النظر في الفجوات التربوية والثغرات القانونية لتصحيح الوضع، وتحديث الأساليب التي أصبحت متجاوزة، ينبغي رميها في خانة المتلاشيات. لاسيما والعالم في أسمى درجات الرقمنة، ودخوله عالم الذكاء الاصطناعي الذي لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وفككها. وإن كان ينبغي تدارك الموقف، فالإصلاح والتصحيح لا يأتي بطريقة سريعة يتم تنزيله دفعة واحدة، كأنها عملية كيميائية، أو وصفة سحرية. فالمرض الخبيث حين يصيب الجسد، وكلما طال الزمن فإنه يصعب علاجه. الوضع من الآن يتطلب الوقاية مما سيأتي. كل الاحتمالات التي تسيء للمنظومة التعليمية واردة، ومنها تتوزع عبر شرايين المجتمع وتحدث به الأعطاب. فلابد من تشييد تلك القبة الواقية أو الجدار الحاجز. ولابد من تعقيم غرفة العمليات قبل الشروع في إجراء العملية. فالفيروسات الخبيثة تملأ الفضاء. وكما يقول المثل الشعبي “حوتة وحدة تخنز الشواري”، إذ لابد من أخذ الحيطة اللازمة، ومراقبة الحمولة كي لاتندس تلك السمكة العفنة رغم ضآلة حجمها فتفسد المحتوى بأكمله.
وبهذه المناسبة التي يعيشها التعليم الجامعي ببلدنا، على واقعة فضيحة كلية الحقوق بجامعة ابن زهر أكادير، كما أن المؤسسات التعليمية من أولها إلى أعلاها، تعيش فترة الامتحانات إما للانتقال إلى مستوى أعلى أو للتخرج، والمناسبة شرط، فقد تذكرت أيام الدراسة الجامعية منتصف سبعينيات القرن الماضي. أريد بداية أن أترحم على روح أحد أساتذتي الأفاضل. وكلهم كانوا أفاضل، رحم الله منهم من غادر إلى دار البقاء، وأمد في عمر من لا يزال حيا يرزق.
أما الأستاذ الذي لا تزال صورته الرمزية عالقة في ذهني، صورة الإنسان العادل النزيه والصارم في نفس الوقت، ربما حتى مع نفسه وأسرته، حسبما كنا نستنج من تلميحاته. إنه الدكتور عبد الرحمان القادري، ذلك السلاوي، الذي ينحدر من أسرة مولوع أفرادها بالتصوف، تربى في أحضان الحركة الوطنية، ومناضل في حزب الاستقلال، ثم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأخيرا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد الانفصال سنة 1975.
تذكرت يوم التقيته ببهو كلية الحقوق أكدال بالرباط شهر يونيو 1975، وكنت رفقة أحد أصدقائي في الدراسة، ونحن ننتظر حينها إعلان نتائج امتحانات الكتابي، التي كانت تجرى في ثلاث مواد في سلك الإجازة. وبالنسبة لشعبة العلوم السياسية تكون مادتان معروفتان من الأصل في كل مستوى، بينما المادة الثالثة تعرف بعد إجراء القرعة بين باقي المواد قبل الامتحان بعشرين يوما، حسب التنظيم القديم. كان الأستاذ القادري يدرسنا مادة القانون الإداري في السنة الثانية، وهو مختص في القانون الدستوري. لما التقيناه، قررنا أن نسأله عن تصحيح الامتحان، وجس نبضه بطريقة غير مباشرة ولبقة عن مستوى النقط. سأله صديقى وكان يحمل اسما لعائلة معروفة، فأجابه : سعيد، أنت حصلت على المعدل، ولما سألته أنا بدوري، أجابني بأنه لا يتذكر اسمي. هذا موقف لا يؤاخذ عليه بقدر ما يوحي للطالب بأن ليست هناك محسوبية. كيف ذلك؟ فقد كانت الشعبة تضم أزيد من أربعمائة طالب وطالبة، ولا يمكن للأستاذ أن يعرف كل الأسماء. ولما تم الإعلان عن النتائج الكتابية، كنت حصلت على النقطة الأولى في المادة، مما جعلني أكن للرجل المحبة والتقدير، لكونه يتعامل مع طلبته بنفس المعيار حسب ما يستحقون، ولا يعير اهتماما للمظهر أو المعرفة الشخصية. وفي نفس السياق، قبل ظهور النتائج، التقينا نحن مجموعة من الطلبة، بشارع محمد الخامس، مع صهرة الأستاذ القادري كانت تدرس معنا، وسألناها إن كانت على اطلاع بنقط الامتحان، فأجابتنا بأن الأستاذ يحتفظ بأوراق الامتحان بغرفة خاصة، ويحرص على إغلاق بابها عند الدخول والخروج بعناية تامة، حفاظا على محتوياتها. وهكذا كان، فقد لاحظنا حصول قريبته على نقطة لا تثير أي شك.
وقد كان أستاذ القادري يلمح لنا في بعض الأحيان عن مساره الدراسي بالجامعة الفرنسية بمدينة بوردو، في بداية خمسينيات القرن الماضي، والاحترام الذي كان يكنه له أساتذته لجديته في أداء واجباته البحثية واستقامته في العمل بحزم.
أما عن الطلبة الذين كانوا ينتمون لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فيما بعد، ومنخرطون في الشبيبة الاتحادية، والمنظمة الطلابية، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب رغم الحذر الذي فرض عليها، فلم نسمع عنه بأنه كان يتعاطف معهم في الامتحانات سواء الكتابية أو الشفوية. بل إن الكثيرين منهم كانوا يشمئزون من تصرفاته الصارمة التي لا تمنحهم الفرصة للاستفادة من أستاذ ينتمي معهم لنفس الحزب. كانت معاملته واحدة سواء بالنسبة للمتحزب كما لغير المنتمي، يضع الكل في كفة واحدة، ولا يعترف سوى بالكفاءة وبذل المجهود. وقد أحدث له تشدده في موقفه العادل، وصرامته المهنية متاعب داخل تنظيم الحزب الذي كان أحد أطره العليا بهذا السبب.
تسجلت عنده بالنسبة لدبلوم الدراسات العليا في مادة القانون الدستوري، ولكني لم أتجاوز الشهر الوحيد في متابعة دروسه، نظرا لأني كنت ملزما بأداء الخدمة المدنية، وعينت بعيدا عن الرباط. فرغم قصر المدة التي كنت أحضر فيها دروسه، لاحظت أن تعامله كان صارما، ويجعلك تبحث عن الجواب في ذاكرتك وبالسرعة المطلوبة حتى تبقى يقظا متابعا للموضوع، وتشارك في بناء الدرس.
أما بعد مغادرتنا لكلية الحقوق، بقينا نسمع عنه محكيات ممن خلفونا بالكلية، تكاد تشبه السير الأسطورية، منها أن أخاه الأصغر كان طالبا بكلية الحقوق بشعبة القانون الخاص التي يدرس بها الأستاذ القادري، وعندما كان يجتاز الامتحان الشفوي في مادة القانون الدستوري، دعا أستاذين للحضور معه ليكونا شاهدين على سير الامتحان، مما يعبر على نظافة الرجل ونزاهته في أداء الواجب.
كان الأستاذ عبد الرحمان القادري متأثرا بالتجربة السياسية الفرنسية، ولاسيما نظام الجمهورية الخامسة. كما تشبع بأفكار أساتذة القانون الدستوري الفرنسي، وخاصة الذين درس على أيديهم، من بينهم : أندري هوريو وميشيل روسي وجورج فوديل. وكان مداوما على قراءة جريدة لومند الفرنسية التي كان مشتركا فيها ويتوصل بنسختها اليومية بكلية الحقوق حتى في الأوقات التي كان يمنع دخولها إلى المغرب.
انتخب السيد عبد الرحمان القادري نائبا برلمانيا ممثلا لدائرة لمريسة بعمالة سلا عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الانتخابات التشريعية ليوم 25 أكتوبر 1993، الولاية التشريعية الخامسة. وحصل خلالها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الثانية ما بين مقاعد الاقتراع المباشر والاقتراع غير المباشر، والرتبة الأولى بالنسبة لمقاعد الاقتراع المباشر. إلا أن الأجل المحتوم لم يسعفه لممارسة ولايته الانتحابية، فقد وافته المنية بعد مدة قصيرة، وكان ذلك يوم فاتح دجنبر 1993.
هذا نموذج ينبغي الاحتذاء به. على روحه الطيبة الرحمة والمغفرة.