حراس الذاكرة المحلية بين التجاهل والتهميش
المصطفى اجماهري
في الوقت الذي ينشغل فيه الإعلام المكتوب والمرئي، على المستوى الثقافي، بأجندة يطغى عليها التفاهة والتسطيح، وفي الوقت الذي تفرد فيه أحياز معتبرة لكثير من الأدعياء، لا يجد حراس الذاكرة المحلية، أي مؤرخو المدن، من يتحدث عن مجهوداتهم المخلصة في التعريف بتاريخ حواضرهم وجهاتهم. بل غالبا ما لا يمنحون الفرصة الإعلامية المواتية لتقديم أعمالهم للجمهور المغربي المحلي والوطني، مقارنة بالمعاملة السخية التي يحظى بها فنانون وفنانات من كل حدب وصوب. هذا دون أن نشير إلى الغياب الكامل لكل دعم مادي باقتناء أعمالهم المطبوعة قصد توفيرها للقراء والمهتمين والباحثين.
لقد ظهرت في العقود الأخيرة كوكبة من الباحثين من خريجي الجامعة المغربية، الذين تطوعوا بالكتابة عن المدن والجهات التي ارتبطوا بها وتخصصوا في مجالها، حتى أن المرء يصعب عليه، حين ذكر بعض المدن، أن يتجاوز أسماء بعينها، فبالأحرى تجاهلها. والأمثلة هنا متوفرة يمكن أن نشير إلى بعضها مع اعتبار الفوارق في التجربة والتراكم:
إبراهيم كريدية عن آسفي، عمر لخضر عن الصويرة، الحبيب الدايم ربي عن سيدي بنور، المرحوم إدريس عيسى عن آيت عتاب، عبد الباسط لكراري عن سطات، المصطفى اجماهري عن الجديدة، أحمد لعيوني عن امزاب، عبد الكريم الجويطي عن تادلا، وعبد اللطيف عوام عن آزمور، وغيرهم من الباحثين الذين ألفوا أعمالا عن مناطق تمتد من جنوب المغرب إلى شماله.
هذه الكوكبة مجتمعة أو متفرقة، لم تحظ بما تستحقه من الاهتمام الإعلامي في الوسائط المختلفة، كما أن وجودها في الهوامش بعيدا عن المركز، ساهم بدوره في تجاهلها عن قصد أو بدونه.
وإذا كان تركيزنا هنا على دور الإعلام المكتوب والمرئي، بدل التركيز على دور المساندة المالية الفاعلة، بما هي العنصر الحاسم في تحقيق استمرارية المشاريع البحثية، فليس ذلك من باب المفاضلة، بل فقط لأن للإعلام دورا مفيدا في تحفيز باقي أطراف العملية الثقافية والمتدخلين فيها.
وغني عن البيان أن التاريخ المحلي والإنتاج المونوغرافي يعد من العناصر البنائية في التأسيس للجهات بالمغرب. فلقد أعطى المغرب بدستوره الجديد المراجع في استفتاء فاتح يوليوز 2011، مكانة خاصة للجهوية. إذ أشار الفصل الأول من الدستور بأن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة. ومن المعلوم أن سياسة الجهوية لا يمكن بناؤها فقط بالعائد الاقتصادي وحده، بل لا بد لها من محتوى ثقافي وإبداعي. إنما الملاحظ، أن مجال البحث في هذا المضمار، في ظل غياب السند المادي، يعرف، وبصفة عامة، نقصا كميا على مستوى الدراسات الببليوغرافية والمونوغرافية المتعلقة بالمدن والجهات. إن لم نقل عزوفا عن هذا المجال من قبل الباحثين، لما يسببه من أتعاب جسدية ومالية يقتضيها التقصي الميداني والتنقيب عن الوثائق والشهادات الحية. وهو ما يفسر، من جهة، أن غالبية الكتابات المعروفة، في هذا المجال، إنما أنجزت بأقلام أجنبية في فترة الحماية.
ويمكن تعريف التاريخ المحلي بأنه تلك البحوث والمنشورات التي جعلت مجالها منطقة جغرافية محددة. هذا علما بأننا كثيرا ما نستعمل هذه التسمية تجاوزا وذلك على اعتبار أن التسمية الأكثر ملاءمة هي “الدراسات الثقافية”.
ويجدر التذكير بأن البحث في التاريخ المحلي في المغرب ما زال حديث النشأة نسبيا. فقد ظهر في العقد الثالث من القرن الماضي تحت إشراف الحماية الفرنسية، بهدف دعم التدبير الاستعماري، ثم فيما بعد ظهرت هذه الكتابة بمجهود علماء مغاربة اهتموا بالنبش في الذاكرة المحلية. وقد أكد العلامة المختار السوسي (1900-1963) على أسبقية التاريخ الخاص على التاريخ العام، كما نادى بكتابة تواريخ محلية تساعد على تدبيج تاريخ المغرب. وكانت تلك أيضا رؤية المؤرخ جرمان عياش (1915-1990)، الذي شجع على كتابة التاريخ الوطني انطلاقا من مونوغرافيات خاصة بالجهات. هذا دون أن ننسى بول باسكون (1932-1985) وريادته على مستوى الدراسات الميدانية، ودوره في تجميع الرصيد الوثائقي لمنطقة الحوز في الفترة الكولونيالية. لقد استشعر هؤلاء الرواد بأن كتابة التاريخ المحلي لها أهمية كبيرة في الحفاظ على الذاكرة الجماعية. بل إن من شأن مثل هذه الدراسات ذات الطابع الميداني والمونوغرافي، كما يقول المؤرخ صالح شكاك، أن تبرز قضايا محلية غير معروفة وتساهم في مراجعة أو تعميق نظريات تكونت عن المجتمع المغربي المعاصر.
وينبغي التنويه بأن هذه المعرفة المنتجة لا تخص الماضي، بل تعني الحاضر قبل كل شيء، وكما يقول المؤرخ مارك بلوش، أحد مؤسسي مدرسة الحوليات بفرنسا والتي أعطت دفعة كبيرة للتاريخ المحلي: “إن عدم فهم الحاضر ينتج حتما عن جهل بالماضي”. وتتم هذه الإفادة عبر إغناء مناهج التعليم ونقل هذه المعرفة من جيل إلى آخر.
ويحتاج هذا النوع من الكتابة، حسب غي تويليي وجان تولار في كتابهما “التاريخ المحلي والجهوي، إلى كثير من الوقت والجهد والتطوع. فبحكم انصباب هذا الاشتغال على التفاصيل والدقائق والجزئيات، فإن الباحث لن يظفر في نهاية المطاف سوى بالنزر اليسير. وليس من الضروري أن يكون المرء مؤرخا للاهتمام بهذا التخصص، بل هو يحتاج، كما يقول ذ. عبد السلام الشدادي، الإلمام كذلك بالسوسيولوجيا والاثنوغرافيا والقانون والفلسفة والعلوم الاجتماعية. لذا فالمجال واسع ولا يمكن الإحاطة به من جانب واحد ولا من طرف باحث واحد.
أتابع هذا المجال وأساهم فيه منذ حوالي ثلاثين عاما، وألاحظ المجهود الجبار الذي تبذله بعض الأسماء التي حققت استمرارية متواترة وتراكما محمودا، وأأسف للتجاهل الذي تقابل به، رغم أن عملها يدخل في إطار مصلحة عامة ينبغي أن تضطلع بها مؤسسات.