القلم الذهبيّ والحبر الأسود…

القلم الذهبيّ والحبر الأسود…

منى أشقر

جلس النهار والليل تحت الظلال الرطبة في عزلة الغابة يتنادمان.  لم يكن لديهما إلّا ساعة من عمر الزمن ليلتقيا قبل مغيب الشمس، ويتبادلا الأسرار والأحلام ويتقاسما حكايا الحياة.  

يغمس النهار قلمه الذهبي في حبر الليل اللامع ليسجل أصل الأشياء ورموزها، ومغزى وجودنا وغيابنا ويمهرها بختمه الأبدي هديّة للكون.  تربّعَ الليل بلحيته السوداء المجعدة، وأسند رأسه إلى جذع شجرة لها ملامحُ حكيم زاهد، واتكأ النهار بجانبه مُتعباً على جذرها النافر المكسوّ بالطحالب، وقد تهدَّل شعرهُ الأبيض الملِس على كتفيه يرتعش من البرودة التي تبعثها مساماتُ جلد الليل السميك، وظلّهُ الطويل يحجبُ وميضَ نوره الشاحب. 

تكلم الليل بصوت أجش ونبرة حزينة: يجب علينا الالتزامَ بالقوانين المُقدسة لأُمّنا الطبيعة أن نكون مفترقين إلى الأبد.  ترك لحظة من الصمت المُهيب تمرّ، ثم أكمل بابتسامة سخيّة:  

– تستيقظ أيها النهار الجميل بعيونك البلّوريّة لتُطلق عطر الحقيقة المُختبئة في الأحلام، وحين يُومض فجرك يبث روح التفاؤل في النفوس، ومطلعُ أختكَ الشمسِ بابتسامتها الدافئة تُحفِّز الوعيَّ للمعرفة، وتبعث سماؤكَ، ونسماتكَ، ونبضُ الحياة فيكَ مشاعرَ الفرح والأمان، وتستعيد كلّ صباح نضارتكَ قبل أن يبتلعكَ مسائي بالنسيان. هذا ما أحسدك عليه يا أخي العزيز!

 تأمَّل النهار أخاه بعينين حانيتين، وشعر بشيء من الغرور. أخذ يده برفق ومودّة ووضعه على طريق الذكرى: 

– تذكّر، أنت من اخترت رفيقة دربك – العتمةَ – عن حبّ، وحققَت لكَ أحلامكَ بالأبوة بسماء تعجّ بوجوه أولادك -النجومِ- بعيونهم الضاحكة الحافلة بالأسرار، وأنظر لأخيكَ القمرِ المُنير كقِنديل يُضيء الأفكار المتشابكة ويفكِّك ألغازها، ويُؤنس ظلمة وحدتك بهمسات العشاق، وفي سكونكَ النقيّ يزدهر الخيال، ويُلهم الشعراءَ، ويُحرِّر أسئلةَ الفلاسفة من غموضها. فأنا أيضاً أحسدك لهذا كلّهِ. 

عانقتِ الشمس الأفق وذابت بين ذراعيه، وفتح الليل باب شرفته ونشر معطفه الأسود الفضفاض راضياً.

 ابتعد النهار مطمئناً، وأصداء خطواته تتبدَّد في ظلال الغسق. 

 أصغت أمُّهم الطبيعة لهذه المُناجاة الحميمة المتكررة منذ دهور عند كلّ مغيب. غمرها شعور بالرضى لتقبُلهم هذا الاختلاف والتنوع.  

هكذا تكتمل لوحة الطبيعة بألوان المحبّة وتتوحد النغمة الواحدة في النغم الكلي لتُجسّدَ لِرؤانا جمالَ وثراء النِعمِ التي وُهبت لنا.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة