قصة قصيرة: بشير
د. ناصر السوسي
أعياه المكوث في بيته على مدار الأيام المنصرمة. فجلوسه المنتظم في إحدى زوايا مأواه كان قد أثارفي أعماقه انقباضا نفسيا بلغ حَدَّ القرف.
هادئا كان الفضاء الذي يقطنه ويعيش على إيقاعه، ومع ذلك لم يدرك بشيرفي تلك اللحظة ارتسامات أناس حدثوه عن سحرهاته القرية وجاذبيتها. فانبهارهم برونق طبيعتها جعلهم يضفون عليها متعددة: زُمُرُّدَة الأطلس. جوهرة سِيمِيراميس، وجَنَّة عَدَن. غيرأن بشير لم يكن من هؤلاء ولا من أولئك. كان بشير وحيدا في أقصى عزلته، ووحدته منذ أن أُكْرِهَ على حَطِّ رحاله هنا في منتصف شهر دجنبر وكان قد استقبلته صقيعٌ شديدٌ، ولاَقَاهُ مَطَرٌ وفير..
دُلَّ بشير بعيد مدة على هذا المقهى الذي يحضن مرتاديه ممن تؤلف بينهم آواصر قربى قبلية؛ أو وَشَائج صداقة تشكلت بفعل زَمَالَةِ العمل.. كَرَاسٍ خشبية هنا، وأخرى بلاستيكية هنالك. رصيف المقهى زليج بُنِّي غَامِق. ركيزتان قويتان من الإسمنت المسلح منتصبتان وسط باحة المقهى تحجبان شُعَّ عناكب مُتَنَاثِرٍ في كل الزوايا..
دخان السجائر كثيف. كثيف جدا. كخيوط يتصاعد في تثاقل صوب السقف. يستقبلك في اللحظة ذاتها التي تَدْلف فيها إلى المقهى. صياحات تتخللها لُكْنَة موسيقية أَخَّاذَة تنساب مع عذوبة نسيم الصباح. قهقهات عالية تصحبها سعالات حادة توشك أن تمزق صدور بعض المدخنين. عُيُونٌ ترسل بريقها نحو مدخلي الفضاء. أصوات الزبائن المرابضين زُمَرًا تَتَنَادَي على ” شعيل” الناذل اليافع الذي تخاله من أول نظرة مُضَلِّلَة أنه أَسَنُّ من عمره:
– قهوة كَحْلَة!!..
– قهوة مْهَرْسَة!!..
– بَرَّاد بالشيبة!!…
– نَصْ نَصْ.
-أَرَا هْنَا شِي دِيطَايْ..
انزوى بشير على مَقْرُبَة من هذا الجيش الاحتياطي للعمل أمام طاولة ٱسْوَدَّ لونها؛ وتآكلت جنباتها من سُوسِ الخشب ..وجوه شاحبة إلا قليلها شحوب لوحة “موريلُّو” المعلقة بمسمار صَدِئ على الجدارخلف الكونتوار…يظهر أن أولمبياد أوراق اللعب انطلقت اليوم في عزالصباح مع أغاني شجية لـ” موحا وموزون” و”بناصر وخويا”. كان نغم الوتر يصدح من مكبرصوت موصول بآلة مسجلة لتختلط وجَلَبَة عشاق أوراق اللعب:
الطَّالاَجْ كُومْبْلي أعَبْدُو!..
ٱرْشَمْ رُونْدَة..
ٱشْرِ !!!..140..
140 في لَكْحَل..
أَرَا هْنَا حْبَلْ..
– شْكُونْ يْغَنِّى الرَّبْعِين؟..
تصاعد الصخب واحتد معها مخاض الذاكرة، فطفق بشير يرتشف قهوته وهو يهش على جحافل الذباب المتحلق حوله مرة بحركة من يده، ومرة بنفث الدخان الذي ابتلعته رئتاه عليها… بين حين وآخر يبتسم بشير وهو يتبع عن كثب بعض الأنفار تسخرمن المهزومين بوضع قطع من صفحات الجرائد على آذانهم؛ أوإثباتها تحت قلنسواتهم؛ أوبمناداتهم بألقاب ألصقت بالبعض منهم ذات طفولة ولت..
وتستمر جولات اللعب اللامتناهية. وتمراللحظات كطيف خيال والجريدة ماتزال على الطاولة؛ والفنجان أمام بشيرأضحى مترعا بالذباب…
حديث الذاكرة احتد واشتد ليصبح فياضا ممتزجا مع زمن مكرور لم يألفه من قبل؛ فيشرد بصر بشير نحو أعالي جبل “غْنَايْن”، والمرتفعات المطلة على السهل الفسيح. “تازركونت” تبدو حقا رائعة من بعيد بالسِّرْوِ، والتنوب الأخضر المُتَّشِح بالسواد. ولم يستيقظ بشير من غفوته إلا على صوت “شعيل”: “واش نزيدك الما أو نجيب لك شي ديطاي؟”…
لم يقرأ بشير جريدته هذا الصباح؛ فقد غادرالمقهى تاركا خلفه صخبا يعلو وينخفض كلما انهزمت زمرة من لاعبي الورق…