براءة البئر من دم ريان…

براءة البئر من دم ريان…

عبد الرحيم التوراني

مر أسبوع على تشييع جثمان الطفل المغربي ريان أورَّام، بعد فشل محاولة إنقاذه التي استغرقت خمسة أيام كاملة، بدءا من تاريخ وقوعه في بئر. خمسة أيام حبست خلالها الأنفاس في المغرب وخارجه، وتأهبت أعداد لا تحصى من المتابعين، من مختلف الأعمار والأوساط  والفئات، بانتظار تحقيق المعجزة، لكن للأسف الشديد لم يتحقق الأمل. ومات الصغير ريان مقهورا في ظلمة هاوية بعمق يصل إلى 32 مترا. 

هستيريا جماعية 

خلال خمسة أيام نسيت فئات وشرائح واسعة من المعذبين فوق الأرض ما أصابها من فواجع وأهوال. ونسي اللاجئون وضحايا الحروب في الخيام بصقيع الشتاء القاسي مآسيهم، وتناسى الفقراء المحتاجون حاجتهم، والمكتوون بارتفاع الأسعار توقفوا عن الانشغال بموضوع الغلاء، والمرضى كتموا أناتهم وأوجاعهم. أما المتضررون من المظالم فقد أجلوا غضبهم وشكاويهم، لينصهر الجميع في لحظة واحدة بالغة التكثيف، بروح واحدة اختزلت معاني الإنسانية في عبارة لا يمكن خطها إلا بدم القلب. تشبثوا بحياة روح طفل صغير، من منطقة جبلية نائية عادة لا تذكرها تقارير الأخبار، من أصقاع مغرب طالما صنفه المستعمر بـ “المغرب غير النافع”، وذاق بعد الاستقلال الزاهر، وما يزال، صنوفا من الإهمال المجالي، اللاإنساني وغير العادل. 

خيبة أمل كبيرة أنتجت صدمة هائلة، كادت تكون هستيرية، أحدثت هيجانا من حزن جماعي نادر، وتسببت في ألم موجع لدى كل من تابع مأساة ريان وتقفى أخبارها التي تصدرت عناوين الأحداث على مدى أيام معدودة بدت كدهر.  

 عَلِقَ طفل في بئر سحيقة ضيقة جافة لا ماء بها، فأخذ معه في سقوطه الملايين من بني البشر، ظلوا عالقين وسط  فوهات الترقب ولهفة الانتظار، يستقطرون بعض الأمل  في الحلوق الظامئة. وكلما شاهدوا الصور المبثوثة الآتية مباشرة من عين المكان، تفاعلوا مع أصوات المتجمهرين، وقد اختلطت بهدير آليات الحفر الضخمة وحركة الجرافات تتقدم لإزاحة الأحجار الصخرية عن صدر ريان الصغير. فيرفرف ما بصدورهم ويهتز، وتتسارع دقات القلوب لتسابق الزمن وتكات الثواني ودقات الساعات، في انتظار إخراج ريان من بطن الأرض والتصفيق لخبر طلوعه وولادته من جديد. 

هكذا التهمت شبكات الأنترنيت وشاشات القنوات الصور القليلة التي وزعت لريان الصغير، مرة وهو يبتسم لكاميرا هاتف، أو هو يمسك بين يديه عنزة صغيرة، أو صورة له مرسومة بريشة فنان اجتهد فوسع من حجم العينين وابتسامة البراءة على ملامح ريان الوسيم، وصورة أخرى أنبت راسمها لريان جناحين يصعد بهما صوب الأعالي. وألغت قنوات تلفزية برامجها ونشراتها، لتتحول إلى البث على الهواء المخصص لموضوع واحد، هو “مأساة الطفل المغربي ريان”، رافعة من حدة امتزاج المشاعر الإنسانية وتشابكها إلى درجات قصوى. مشاعر متوترة تأرجحت ما بين الأمل والتعاطف والحزن والانقهار. وأيضا الانبهار بجهود غير مسبوقة لبلد تجندت سلطاته من أجل إنقاذ روح مواطن صغير. وترك العشرات، بل المئات مشاغلهم واتجهوا إلى مكان الحادث، بينهم من سافر من مدن بعيدة في المملكة. وانشغل العالم بمتابعة الحدث، ينام ويصحى على وقْع تطور المأساة. 

يوسف شفشاون 

أضيف ريان إلى قوائم الضحايا الأبرياء، رغم أن كل الألقاب الممجدة ألقيت على مأساته، من البطل، والشجاع، والأيقونة ورمز المحبة والسلام، والملاك الصغير، إلى الطفل المعجزة وشهيد البئر، وكل ما يماثل هذه الألقاب التي كالها مطلقوها بلا ثمن وبلا وزن. دون أن ننسى حضور المخيال الديني، عندما لجأ البعض إلى تشبيه حادث ريان بقصص من القرآن، مثل قصة النبي يونس في بطن الحوت. وقصة النبي يوسف بن يعقوب في البئر، لما ألقى به إخوته في بئر. وطبعا زاد المقتبسون في سردهم، منتحلين الآية الكريمة: “نحن نقص عليك أحسن القصص”. لتكشف لنا مأساة ريان عن طينة أخرى لكائنات تعيش بيننا، لا تختلف عن الضباع المفترسة والطيور الكاسرة التي تقتات من المآسي ودم الضحايا. حيث صاحبت الحدث الأليم مبالغات مفرطة، وفبركة أكاذيب وأخبار وصور مضللة، سعى مقترفوها للربح الرخيص، وقاموا باستغلال لهفة الباحثين عن خبر صغير، من شأن وصوله نشر فرح غامر بسعة العالم.

 ***

يخبرنا القرآن أن النبي يوسف كان ضحية تآمر إخوته لما “أَلْقُوهُ فِى غَيَٰابَاتِ ٱلْجُبِّ”. لكنهم اتفقوا على ألا حاجة إلى قتله، بل تركه في جوف بئر حتى يأتي بعض المارَّة من المسافرين ويلتقطوه، وبذلك يرتاحون منه، وهذا ما فعلوه وما حصل. 

أما “يوسفَنا المحبوبْ”، كما سماه الأديب المغربي أحمد بوزفور، (مع تسبيق العذر إن وُجِب، عن التشبيه والقياس)، فقد ألقي به في أعماق بئر سحيقة وموحشة، ووصل جيش من فرق الإنقاذ، وليس فقط بضعة من الناس العابرين، لكنهم لم يتمكنوا من إسعافه والتقاطه حيا.

 فمن هم إخوة “يوسف”- ريان الشفشاوني؟  

من هم هؤلاء الإخوة – الأعداء الذين كانوا يرغبون في إبعاده بقتله وتركه يموت عطشا وجوعا وخوفا ورهبة، مجروحا كسير العظام؟ 

إنهم من أهملوا قريته ومنطقته وتركوا أهلها للمعاناة. من أرغموهم على العيش من وراء زراعة سرية (قبل تقنينها). 

من جلبوا نبتة “خردولة” كبديل للحشيش العادي، لأن “السوق” يرغب فيها أكثر والطلب عليها أكبر، وهي نبتة تستنزف المياه بشكل كبير، ما جعل من حفر الآبار العشوائية، رغم خطورتها على السلامة العامة، عملا عاديا منتشرا بوتيرة متزايدة بقرى المنطقة، من دون مراعاة لشروط تقنية أو ترخيص قانوني. فوالد الطفل حفر “بئر ريان” بوسائله وطريقته الخاصة، كما يفعل جيرانه، ولما لم يطلع الماء لم يوقف الحفر حتى وصل إلى عمق 62 مترا من دون جدوى. مسافة توازي علو عمارة شاهقة من حوالي 15 طابقا. ولأن البئر سري، كما كثير من الأنشطة السرية بالمنطقة، لم يلجأ الوالد إلى تسوير بئره، واكتفى فقط بتغطيتها بقطعة صغيرة من خشب أو زنك. 

يتامى الطفل ريان 

من أصدر حكم “الإعدام” بحق طفل ذو خمسة أعوام، وقضى على أحلامه كلها في حياة كريمة؟ في أن ينمو في كنف أسرته، أن يرتاد المدرسة ويتعلم. وللإشارة، فإن أقرب مدرسة لبيت ريان تبعد بحوالي ساعة ونصف مشيا على الأقدام.

 من “أعدم” ريان ربما كان “فاعل خير”! قام بتقريب المسافة وهوَّنها عليه، في أن يترعرع ويكبر فيضطر للاصطفاف بطوابير البطالة، وبقوافل “الحراكة” ومواكب “قوارب الموت”، 

من “أعدم” ريان قصَّر عليه الطريق كي لا يجد نفسه مثل أهله منخرطا في حياة التهميش، ليس أمامه سوى حقول الحشيش، وقد قررت الحكومة أخيرا تقنينها، بتبرير “الاستعمالات الطبية”، ولا طبيب في قرية ريان، والمرافق الصحية تكاد منعدمة، وتفتقر إن وجدت لكثير من المواصفات لتصح فيها تسمية “مرفق صحي”.

 ***

رغم أنه طفل صغير السن، لم يتجاوز الخامسة من عمره، فقد ترك ريان أورّام العديد من اليتامى وراءه، من بينهم من تمنوا لو طالت عملية الإنقاذ أياما أخرى، حتى تطول فترة الارتزاق بمأساته عبر قنوات اليوتيوب وتطبيقات الأنترينت، وعبر ترويج صورته، كما فعل فرنسيون باعوا أقمصة “تي- شيرتات” طبعت عليها صورة ريان بالأسود والأبيض الملتقطة وهو في البئر..

 أيتام آخرون كانوا يمنون النفس بأن يتحولوا في لحظة سانحة من الزمن إلى أبطال وأصحاب مجد، تتردد أسماؤهم على الألسنة، ويرفعون فوق الأكتاف، وفعلا شاهدنا لحظة إخراج ريان من القعر، كيف حُمِل رئيس فريق الإنقاذ على أكتاف مساعديه، لكن ذلك لم يدم سوى لحظات سريعة، إذ أعلن نعي الصبي. 

 يتامى ممن كانوا سيتبجحون بكونهم هم من كان وراء إنقاذ ريان، وهم من تحركوا.. وهم من عملوا، وهم من… ، بينما الحقيقة هي أنهم بحاجة لقذافي آخر، يسألهم شاهرا قبضة يده صارخا في وجوههم: “من أنتم؟”. 

مجد خارج الحياة 

لم يكن ريان يحلم بمجد تليد، ولا كان يرغب أو يفكر بشهرة عالمية وهو محبوس في ظلمة دامسة وسط بئر، ولا أن تغطي صورته كل الدنيا. 

حلم ريان كان بسيطا مثل قريته، وصغيرا مثل سنواته القصيرة ومروره العابر بهذا العالم. كان يحلم بلقمة كافية، وبدفء يحميه من صقيع منطقته الجبلية. وبالذهاب إلى المدرسة. كان يحلم في بلد جفت فيه آبار الأحلام لتمتلئ بثعابين وعقارب الكوابيس. بلد لا يجد أولاده في مواجهة انسداد الآفاق سوى معاول الهرب يتأبطونها صوب الهجرة السرية ليحفروا بها كوة وسط جبال البحر الهائج، ومعانقة أخشاب “قوارب الموت”، إذا هم أرادوا النجاة والإفلات من ثقل وطأة البؤس، وبعضهم لم يجد غير مناطق الحروب فغامر بالانخراط في داعش والإرهاب. 

الملايين من التدوينات والتغريدات! (أليست هناك في مثل هذه الحالة “نواح” بدل التغريد؟!)، والهاشتاغات التي استنجدت (أنقذوا ريان..)، يجب تحويلها الآن إلى “أنقذوا ما تبقى في البشر من إنسانية…”. 

القاتل معروف 

لا يمكن تلقين دروس مستخلصة من المأساة وتعليمها لأحد، والرسائل التي سطرها موت ريان يمكن اختصارها في عبارة واحدة كتبها بموته الرهيب: 

 [أنا في غنى عن دموعكم،  لست بحاجة لتعازيكم، 

في غنى عن هرولة وحضور “سلطات الباشا والقايد والمقدم والعامل والوالي” إلى حفرة إغران، قريتي الصغيرة كلها عبارة عن حفرة كبيرة، لو تدرون…، 

البكاء وراء الميت خسارة، كان عليكم أن تبكوني وأنا حي،  

ابكوا الأطفال والمعذبين فوق الأرض الذين لا يزالون بينكم، 

 ابكوا القادمين منهم، 

 أنقذوا الإنسان فيكم أولا قبل فوات الأوان…]. 

(الإمضاء: ريان أورَّام- “مقبرة الزاوية” بقرية إغران- بني غمارة، إقليم شفشاون، المغرب غير النافع) 

 ***

دم ريان لن يتفرق بين القبائل، القاتل معروف، وقد مشى في جنازة ريان، والجميع لا يجهلونه. لكن من يجرؤ على الإشارة إليه بـ”أصبع من تحت جلباب”؟ 

الجميع يبتلع لسانه خوفا من أن تبتلعه البئر. بئر أفاعي وثعابين الفساد ودينامية التجهيل والتضبيع، وتخطيطات هندسة الفقر. 

لقد كانت عملية الإنقاذ “بالغة التعقيد والدقة” كما وصفوا، تطلبت جهودا مضنية ووقتا طويلا. فكم تتطلب عملية ردم وطمر سياسات الفساد والظلم والتهميش، من أجل فتح كوة أمل يطلع منها إلى الحياة الكريمة ملايين المواطنين المغاربة، ممن تصنفهم التقارير الأممية والدولية بكونهم عالقين “تحت خط الفقر”.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن