نَقْد الصِرَاعَات الحَدِيثَة في اليَسَار المغربي (3-3)
عبد الرحمان النوضة*
(..)
وأبرز نتائج هذه الصراعات الذاتية، هي:
– أوّلًا، تَوْقِيف مَشروع توحيد أحزاب اليسار الثلاثة (العُضوة في “فيديرالية اليسار الديموقراطي”) في حزب واحد مُوَحَّد، بعدما «كان هذا المشروع نَاضِجًا»، و«جاهزًا لِلتَنْـفِيذ»، حسب قَادَة هذه الأحزاب هي نفسها.
– وَثَانِيًّا، تَـفجير “فِيديرالية اليسار الديموقراطي”، وانْشِطَارِهَا إلى شَطْرَيْن مُتَخَاصِمَيْن، أو مُتَعَادِيَّيْن.
– وَثَالِثًا، انْشِـقَاق “الحزب الاشتراكي المُوَحَّد” إلى قِسْمَيْن خَصْمَيْن.
– رَابِعًا، تَضْيِيع قرابة 14 سنة مِن مَجهودات التَـقَارُب والتَعَاوُن فيما بين الأحزاب الثلاثة العُضوة في “فيديرالية اليسار الديموقراطي”.
– خَامِسًا، خَلْق حَزَازَات، وَعَدَاوَات ذَاتِيَة جديدة، أو مُصطنعة، فيما بين العديد من المسؤولين في قيادات أحزاب اليسار الثلاثة.
– وَسَادِسًا، إدخال شَـكِّ مُتَبَادَل في عُقُول نسبة هامّة مِن مناضلي قَوَاعِد أحزاب اليسار الأربعة، فيما يتعلّق بِنَزَاهَة، أو اِسْتِـقَامَة، أو إِخْلَاص، أَشْخَاص قِيَّادات (وَحَتَّى قَوَاعِد) أحزاب اليسار المُتنافسة.
وهذه النتائج تَـعني أن مجهودات التَـقَارُب، والتعاون، والتكامُل، وَمُحَاوَلَة الاندماج في حزب واحد، التي بذلتها قيادات أحزاب اليسار الثلاثة على امتداد قرابة 14 سنة (بين سنتي 2007 و 2021)، قد تَحَطَّمَت، وَتَبَخَّرَت، خلال بضعة أَيَّام فقط من شهر يونيو 2021. وما كان النظام السياسي القائم في المغرب يتصوّر أن يَهْدِيَ إليه أَحَدٌ هذه الهَدِيَة المَجَّانِيَة، التي تَتَجَلَّى في تَفْجير “فيديرالية اليسار”، وفي تَشْتِيت قِوَى اليسار وَإِضعافها.
ومن غرائب هذا الانشقاق المُزْدَوِج (في “فيديرالية اليسار”، وفي “الحزب الاشتـراكي المُوحّد”) أن الطرفين المتصارعين، وهما تِـيَّار نبيلة مُنيب مِن جهة أولى، ومن جهة ثانية تِـيَّار محمد السَّاسي ومحمد امْجَاهْد، يُـقدِّمان نفسيهما على أنهما «يختلفان في كلّ شيء». بينما هما أَخَوَيْن تَوْأَمَيْن، يَشْتَبِهَان في كلّ شيء. وَلَا تُـفَرِّقهما سوى المُيُولَات الشخصية المُتناقضة، أي الذَّاتِيَة المُفْرِطَة، والطُمُوحات «الزَعَامِيَة».
وعلى عكس مَا يَزْعَمُه هذان التِـيَّاران المُتَصَارِعَان، لا تُوجد فُرُوقَات جَوْهَرِيَة بين تِيَّار نبيلة مُنيب، وَتِيَّار محمد السَّاسِي ومحمد امْجَاهْد. حيث، هُمَا مَعًا، يُعَارِضَان النضال الجماهيري الثوري. وَيَـتَـهَـرَّبَان، هُمَا معًا، من المُساهمة في خوض النضالات الجماهيرية المُشتركة. وَيُؤْمِنَان، هما معًا، بِإِمْكَانِيَة إِصْلَاح النظام السياسي القائم من دَاخل مؤسّـساته الصُّورية. واستراتيجيتهما، هما معًا، تَـقْـتَـصِرُ على المُراهنة على المُشاركة في انتخابات تُوصِلُ إلى مُؤسّـسات بٍَرْلَمَانية وَحُكُومِيَة شَكْلِيَة. ويـقبلان، هُما معًا، التَـقَيُّدَ بِمَنْظُومَة الانتخابات كما هي. وَهُمَا معًا، يرفضان الماركسية الثورية. ويرفضان الطموح إلى الاشتراكية. ويـقبلان العمل في إطار الرأسمالية. ويرفضان مواجهة مَنَاهِج الرأسمالية.
وَمُعْضِلَة مُعظم أحزاب اليسار بالمغرب، هي أنها لا تَـقدر على مُمارسة «خط سياسي ثوري مِئَة في المِئَة»، كما لا تَـقدر على ممارسة «خط سياسي يميني مِئَة في المِئَة». كما لا تَـقدر على الالتزام بِمبادئ ثورية واضحة وثابتة. فَـتَـبْـقَـى هذه الأحزاب في مَوْقِـف مُتَـقَلِّب، وفي منطقة رَمَادِيَة، وَتَوْفِيقية، مِيزَتُها الغُمُوض، والتذبذب، والتناقض. وبعض أحزاب اليسار تُـعْطِـي صَرَاحَةً الأَفْضَلِيَة إلى الاختيارات المُهَادِنَة، أو المُحافظة، أو اليمينية. وَمِن جهة أخرى، نَـعْتَرِف أن أحزاب اليسار بالمغرب لا تجد ما يَـكْـفِـي من المُواطنين، الذين يُشَجِّـعُونَهَا، وَيُدَعِّمُونَهَا. وَلَا تَجد ما يَكْفِي مِن المُواطنين المُستـعدِّين لِخَوْض نضالات ثورية أو جذرية. كَمَا لَا تَجد ما يكفي من المُواطنين المُتَحَـمِّـسِين لِلحُصُول على العُضوية في أحزاب اليسار.
وَإِنْ كانت نِسبة هامّة من بين أعضاء حزبي الطليعة ، والمؤتمر الاتحادي، تَتَّصِفُ بالنضالية، وبالثورية، فإننا لا نَنْسَى أن نسبة أخرى لَا يُستهان بها (من بين أعضاء حزبي الطليعة ، والمؤتمر الاتحادي)، تَمِيل تِلْـقَائِيًّا، هي أيضًا، إلى رفض «النضالات الجماهيرية الثورية»، و«الماركسية»، و«الاشتـراكية»، و«الشيوعية». بِمَعْنَى أنها تعتبر نَمَط الإِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي عَادِيًّا، وَشَرْعِيًّا، وَمَـقْبُولًا، وأَبَدِيًّا. وهذه الاختيّارات المُهَادِنَة، أو المُحافظة، أو اليَمِينِيَة، تَرتبط هي أيضا بِالعُنصر البشري “البورجوازي الصغير”، المتواجد بكثرة في كل أحزاب اليسار. وَتَتَـشَـبَّـعُ وَتَتَـقَـوَّى هذه الاختيارات في إطار نَمَط التَـفْكِير “البورجوازي الصغير”. ولا تتوفّر أحزاب اليسار على «مدارس للتكوين الثوري المُتواصل»، تَـقْدِرُ على تحويل أعضائها «البورجوازيّين الصِّغَار» إلى «ثوريّين جذريّين».
وَمِن مِيزَات الكثير من الأشخاص البورجوازيين الصِغَار أنهم يُحبون النظريات الغَامِضَة، أو المِثَالِيَة، أو التَجْرِيدِيَة، التي تَدَّعِي تَفْسِير بعض قَضَايَا المُجتمع. لكن هذه النظريات المِثَالِيَة لَا تُفَسِّرُ شيئًا، ولا تُساعد حتّى على تَغْيِيرِ واقع المُجتمع. وَالمُلَاحظ أن أفكار «مَدرسة فْرَانْكْفُورْتً» (École de Francfort) تُعْجِبُ مُعظم العناصر “البورجوازية الصغيرة”، وفي الكثير من بُلدان العالم. وهي الأفكار السياسية التي سَاهَمَ في تَـنْـظِيرِهَا كُلٌّ من المُثَـقَّـفِـيـن: تِيُودُور أَدُورْنُو (Theodor Adorno)، وَمَاكْسْ هُورْخَايْمَرْ (Max Horkheimer)، وَهِرْبِيرْتْ مَارْكُوزْ (Herbert Marcuse)، وَبُولْ بِيكُونْ (Paul Piccone)، وَيُورْغَنْ هَابِيرْمَاسْ (Jürgen Habermas)، وأُوسْكَارْ نِيغْتْ (Oskar Negt)(5)، إلى آخره. وقد تَكَوَّنَت هذه المدرسة الفِكرية في سنوات 1923. وكان هدف هذه المدرسة هو القضاء على التَعاطُف مع الاشتراكية الذي كان منتشرًا لدى الجماهير الشعبية، في مُعظم بلدان العالم، بعد انتهاء «الحزب العالمية الثانية». وكانت غَايَةُ هذه المدرسة هي التَكَيُّـف مع الرأسمالية، وتَعْوِيض النظرية الماركسية، وَدَفْن الطُمُوح إلى الشيوعية. وَمُجمل الحركات الشَبَابِيَة، أو الثَـقَافِيَة، أو السياسية، أو النضالية، التي سَارَت على نَهْج أفكار «مَدرسة فْرَانْكْفُورْتْ»، كان مَآلُهَا النهائي، في مُجمل بُلدان العالم، هو الضُعْف، والتَلَاشِي، والزَوَال، سواءً في أمريكا الشمالية، أم في بُلدان أوروبا (مثل فرنسا، وألمانيا، الخ). وانتهت كلّ هذه المدارس الفكرية بِتَـبَـنِّـي الرأسمالية، والقَبُول بها، باعتبارها نَمَط الإنتاج الواقعي، والوحيد، والأبدي.
وَكَالعادة، ورغم النتائج الكارثية لِقَرارات قِيّادة “الحزب الاشتراكي المُوحّد”، المُتَّخَذَة خلال شهر يونيو 2021، فإن أعضاء وَكَوَادِر هذا الحزب، لم يـقوموا لَا بِمُساءلة قيادة هذا الحزب، ولا بِمُحاسبتها، وَلَا بِنَـقْدِهَا. كأن كل شيء ظلّ على أحسن ما يُرَام في هذا الحزب. أو كأنه لم يحدث أيّ شيء في حياة هذا الحزب.
وَكُلّ مَن يَنتظر سُلُوكِيَّات أخرى، غير السُلُوكِيَّات المَعْرُوضَة أَعْلَاه، من أشخاص، أو مِن أحزاب، غير ثوريّين، بَلْ يَغْلُب فيهم “العُنْصُر البشري البورجوازي الصغير”، أو “نَمَط التَـفْكِير البورجوازي الصغير”، فَسَيَكُون غَيْرَ مَوْضُوعيّ. (انتهى)
رَحْمَان النُوضَة: (هذا النص هو مُـقْـتَطَف من كتاب: رحمان النوضة، “نقد أحزاب اليسار بالمغرب”. ونُشرت الصيغة الأولى لهذا الكتاب على الأنترنيت، على مدوّنة الكاتب، في 11 يونيو 2012، وخضعت فيما بعد لتحسينات مُتَوَالِيَة. ورقم الصيغة الأخيرة المُحَسَّنَة هو 54).
الهوامش:
(5) Stefan Engel, La crise de l idéologie bourgeoise et de l anticommunisme, 1ière partie, Septembre 2021, Verlag Neuer Weg, p. 72-81, https://www.neuerweg.de.
* مهندس وكاتب مغربي