شباب يحتضر: إدوارد سعيد وسلطة يأس ثيودور أدورنو
بقلم الأستاذ الجامعي والناقد الأمريكي مايكل وود
ترجمة: صلاح محمد خير
بعد شهر أو ما يزيد عن الشهر من رحيل إدوارد سعيد، كانت الصور التوثيقية التي صادف أن رأيتها قد التقطت حديثاً وتبدو مألوفة بالنسبة لي. لم تضف هذه الصور شيئاً إلى الصور الموجودة أصلاً في مخيلتي: إدوارد سعيد يجلس إلى طاولة مكتبه، يتفحص ما حوله من خلال نظارته، يبدو مستغرقاً في التفكير وصارماً، يبدو لاهياً وجزلاً، كان ملتحياً ونحيلاً وغائر العينين ويبدو مثل حكيم أنهكه صيام طويل، كان أمرداً ويبدو أكثر صحة ونشاطاً، فقط كان تعباً بعض الشيء.
كان سعيد في معظم هذه الصور يرتدي سترة وربطة عنق؛ (صورة المثقف) وهو يرفل في كامل حلله تلبية للقاءات لا تنقطع مع الجمهور. حتى صورة ذلك الطفل ،الذي كانه إدوارد والتي تزين غلاف كتابه: (خارج المكان) وتظهره منزوياً ووقوراً وتخالجه الأفكار على نحو مستمر؛ كانت تبدو مألوفة بالنسبة لي.
لذا فإن ما أتحدث عنه ليس – بأي حال من الأحوال – الانتقال من ملمح الى آخر بفعل مرور الزمن.
بعدها وفي ذات يوم شاهدت فيلماً قصيراً يظهر إدوارد سعيد وسلمان رشدي وآخرين في مناظرة بجامعة كولومبيا, على ما أعتقد.
لم تكن اللقطات المجمعة بذلك القدم وأظن أنها تنتمي إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. لكن إدوارد كان يبدو في هذه اللقطات كمن يحتضر في شبابه؛ الأمر الذي أوقعني في ارتباك كلي وورطة يائسة. كان يبدو كما لو كان يموت ميتة ثانية!!
ما الذي حدث وما الذي دفعني للقول بأنه كان” يحتضر في شبابه؟”
أظن بأن هناك عناصر متعددة ومختلفة بعض الشيء قد بدأت بالانخراط في لعبة.
أحد الأسباب التي دفعتني لهذا القول – رغم تفكيري المستمر في إدوارد طيلة تلك الأشهر والأشهر التي أعقبتها منذ تعرفي اليه في العام 1964، قبل أربعين عاماً تقريباً – هو أن إدوارد كان يعني بالنسبة لي صوتاً وحضوراً جسدياً ومصدر طاقة وصداقة وأفكار أكثر مما هو صورة مرئية.
كنت أحسه وأسمعه أكثر مما أراه؛ أو ربما كنت أراه, لكنني كنت أرى فيه تلك الذات الخفية واليانعة التي ننسبها لأناس نتعرف عليهم ونحبهم ونحن نخطو في دروب العمر.
ثمة سبب آخر يشكل عنصراً؛ هو الوسائط التي تنقل لنا تلك الأفلام والصور الفوتوغرافية. الأفلام والصور كلاهما شكل من أشكال الذاكرة, لكنهما لا يمتلكان اللطف والاستمرارية اللتين يتمتع بها الأسلوب الذهني المحض.
تستحضر الأفلام والصور الفوتوغرافية على نحو قاس معالم اللحظة وطريقة اللباس والإيماءات واتخاذ الوضعية، وما أسماه لويس بانيول بـ “الجغرافيا الطبيعية للوجوه.” إنهما يؤرخان للتفاصيل كما لو كان وكالتي تسجيل تعملان لصالح الزمن.
إن الصور والأفلام لا تقول فقط: “لقد حدث هذا”, كما يقول رولان بارط عن الصور ولا تقولان أيضاً: “إن هذا الشخص قد كان هناك”؛ بل تقولان: “إن هذا الشخص وفي هذه البرهة بالذات هو الشخص ذاته ولا أحد سواه”. لكننا، ربما نحتاج بعد ذلك إلى أن نميز أيضاً بين الصور الثابتة والصور المتحركة.
الصورة الفوتوغرافية هي “تذكرة بالموت”, كما يقول رولان بارط, وتكمن رسالتها في أن هذا الشخص الذي وقع فريسة لبرهة التصوير لن يعود إطلاقاً إلى هذه البرهة وفي يوم ما سيموت.
الصورة السينمائية تمنح ذات الرسالة ولكن بطريقة أخرى مثيرة للشفقة. “الحركة هي جوهر الحياة”, كما أعلن بوليستين ماري؛ رغم أنه كان منهمكاً في تلك الأثناء في محاولات دؤوبة لتجميد الحركة حتى يتسنى له أن يراها كيف تعمل، لأن الصورة السينمائية تتحرك, فإنها تؤكد على الوجود الفعال للحياة؛ فضلاً عن الوجود الإنساني المحض الذي يستمر في العيش على نحو قدري ومفعم بالحياة وغير آبه بالموت. من هنا يتضح أن الأفلام تبدو وكأنها خلود مقدس وموكب ذوات عاشت في السابق وليس بإمكانها أن تموت.
لكن لا يوجد شيء في كل هذا يقودنا إلى ما وراء حقيقة الفيلم الذي يظهر سعيد وسلمان رشدي. هذا جزء من الصدمة التي أعانيها، وهناك المزيد مما شاهدته في ذلك الفيلم وما تسنى لي أن أشاهده في صور أخرى تمثل جوانب عديدة من مراحل حياة إدوارد سعيد، وما شاهدته مؤخراً من مجموعة أفلام حديثة وقديمة صُورت في مناسبات تذكارية متعددة، لم يكن ببساطة هو (الماضي) ولا هو أمثلة من حياة إدوارد المتغيرة ولا هو شيء يذكرني بالزمن فأنا لم أنس الزمن وما يحدثه من تغيير؛ ربما أكون فقط قد نسيت التفاصيل.
ما رأيته في ذلك الفيلم هو أشكال بشرية تتحرك في ملتقى مليء بكل ما هو خفي؛ بيد أن الحدس البشري بإمكانه أن يلتقط كل هذا الخفاء واللحظة التاريخية لتكثيفه ويلتقط منه أيضاً ما أتى بإدوارد وسلمان رشدي سوياً من مصر والهند وامريكا وإنجلترا؛ كما يمكن للحدس البشري أن يلتقط ما يفرق بينهما.
الماضي يركض نحو الحاضر ويرتمي في أحضانه، لكن الصورة السينمائية كانت مليئة بما لم يحدث حتى الآن أو ربما حجبها عن ناظري ذلك الكائن الذي عرفت ما سيحدث له.
لم يكن كل ما حدث مؤخراً لإدوارد يتسم بالفظاعة, لكن بعضه كان كذلك. لقد عانى إدوارد من جزء من تلك الفظاعة سياسياً وشخصياً.
كان التاريخ يمضي في تراكمه منذ أن التقطت صور ذلك الفيلم. أعتقد أن ذلك ما قصدته عندما قلت: “كان إدوارد يبدو كمن يحتضر في شبابه”. لم يكن يحتضر!! وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن إدوارد شاباً على الإطلاق؛ بل كان يعيش في عالم آخر هو عالمه وعالمنا الذي كان ذات مرة.
كان ذلك العالم يمثل عالماً مليئة خزائنه بإمكانيات مستقبلية – ليست سرمدية لكنها لم تُكتب في سجل ما هو فانٍ ومحدود؛ إمكانيات تبدو مثل شرخ الشباب؛ بحيث يمكن استعادتها في كل لحظة.
هذه الإمكانيات سواء أكانت ماثلة للعيان أو خافية فإنها لا تنفك أن تكون مثل شرخ الشباب. ما يحتضر أو ما سيحتضر, إذا لم نستطع أن نخرج أُنفسنا من هذه الحالة النفسية، هو فقدان هذه الإمكانيات أو اعتقادنا بأن الآخرين لا يقتفون خطاها. هذا هو المكان الذي نحتاج إلى أن نضع فيه صدماتنا وأحزاننا لكي نعمل، لا لكي نحتمل الأحزان.
كان إدوارد ولعاً بالاقتباس من موضوعات ثيودور أدورنو التي تدور حول الموسيقا الحديثة.
كان يقتبس مقطعاً مثل: “إن رسالة اليأس المتشبث بالحياة عادة ما تنبعث من حطام السفن” لقد شهد إدوارد حطام سفن عدة؛ خاصة السياسية منها، واعترف بسلطة يأس أدورنو , لكنه اعترف به لكي يمضي قدماً.
إن أعمال إدوارد سعيد وحياته تدعوانا في المقام الأول لكي نفكر لا في الشباب المضاع ولا في الإمكانيات المتلاشية، إنما في الإصرار على التمسك بالأمل رغم حلكة الأزمنة. سنحتضر حقيقة ونشيخ عندما نفقد الأمل. كلنا يفعل ذلك في بعض الأحيان لكننا عندما نفقد فكرة الأمل فإننا نفقد فرصة إرجاعه.