مسار كاتب مستبصر
ابراهيم الخطيب
صدرت رواية « حارث النسيان » لكمال الخمليشي عن دار الفنك للنشر قبل خمسة عشر عاما أي في سنة 2003. وعقب صدورها قدمت قراءة عنها ضمن أنشطة (رابطة أدباء المغرب) التي أسسها الكاتب أحمد المديني في ذلك الوقت، سعيا منه إلى خلخلة الركود الثقافي الذي كانت تعرفه أجندة اتحاد كتاب المغرب. أتذكر أن قراءتي للرواية تمت في مقر (نادي الأسرة) الذي كان تابعا لمسرح محمد الخامس، وتحول حاليا إلى مقهى يحاذي شارع المنصور الذهبي، وأنه كان من بين الحضور، إلى جانب رئيس الرابطة ومؤلف الرواية، الراحل عبد الجبار السحيمي وزوجته السيدة أمينة المراكشي. احتفظت برؤوس الأقلام التي اعتمدت عليها في تقديم عرضي في صفحتين ظلتا محشورتين بين صفحات الرواية كل هذه السنين إلى أن حان أوان تحويلها إلى مقالة تعتمد على ذاكرة الحدث القديم أكثر من اعتمادها على قراءة جديدة.
حارث النسيان
تشكل رواية “حارث النسيان” لكمال الخمليشي إحدى أبرز تجارب الرواية المغربية في مجال الخروج من ضيق الواقعية إلى رحابة التخييل بمختلف أبعاده، كإدراج الغيبيات في صميم الواقع، وسبر الواقع بمنظار آليات مستمدة من قدرة السارد على العيش في مستويين: الكائن والمحتمل.
تجري وقائع الرواية بين تاركيست والدار البيضاء والحسيمة وجنيف والرباط. وخلال هذه التنقلات المكانية والزمانية ينضج وعي السارد، بموازاة تقدمه في السن، وتحوله من صبي غر، إلى فتى بالغ يتابع دراساته العليا في كلية الحقوق بالرباط. إلى جانب مسار الوعي هذا، ينضج مسار آخر يتحول معه السارد من شخص عادي إلى كائن رفعت أمامه حجب عالم الغيب.
يحمل السارد اسم (سامي) ذا الإيحاءات العبرانية، وهو يتيم الأبوين، لكننا نستشف أن عمه، وكان تاجرا، هو الذي تكفل بتنشئته. بيد أن الشبكة الحقيقية لعلاقات سامي لا تلتف حول أقربائه من الناحية الجينية، وإنما تنسج خيوطها على عائلة يهودية مؤلفة من أب وأم وابن ( يدعى جوزي) وابنة (تدعى إلينا). كانت الأم مولدة، وهي التي تسلمت كتلة لحم سامي الحمراء حين خروجه إلى العالم، كما أنها هي التي ستقرأ كفه، بطلب منه، كاشفة أنه لن يكون في حياته شخصا عاديا، وأن ملامح استثنائية ستشكل مزاجه ومساره.
ارتبط سامي بعلاقة وطيدة مع صديقه جوزي، ترسخت بعد إنقاذه له من حالة تسمم، بعد أن دُسّ له السم في قنينة مشروب غازي. أما شقيقة جوزي، إلينا، فهي التي ستفتح لسامي باب الجنس على مصراعيه: كانت فتاة شبقة، لذا كانت علاقتها بسامي عبارة عن علاقات جنسية تكون عابرة أحيانا، ومطولة ومثيرة في أحيان أخرى، وتجري في غرف مغلقة أو صالونات وثيرة. في مقابل شبق إلينا، نكتشف نزوع السارد منذ صباه إلى التلصص voyeurisme حيث ولع بمشاهدة الآخرين، خفية، وهم يمارسون علاقاتهم الجنسية سواء كان هؤلاء الآخرون حيوانات (ص18) أو آدميين (ص35). هذه التجارب ستجعل من (سامي) شخصا ذا فحولة مرموقة، بحيث أصبحت بعض النسوة متلهفات على مجامعته. ذلك ما تعكسه مشاهد مثيرة في الرواية: حيث ستحرص إلينا على الاستمتاع بسامي جنسيا حتى قبل بلوغه الحلم، ولن تتردد جوزيفا، صديقة إلينا، في خوض التجربة التي سبقتها إليها صديقتها، وكذا كريستين صديقة جوزي، فضلا عن فادونيا العذراء، ابنة اليهودي بائع المجوهرات في جنيف، التي سيعمل سامي، بطلب منها، على تخليصها من عقدة عذريتها.
عن طريق جوزي، يتعرف سامي على عالم الكنوز والكنزيين الباحثين عنها لاستخراجها من باطن الأرض أو من أماكن معلومة. وكان جد جوزي، واسمه إسحاق، قد حل سابقا بتاركيست للبحث عن كنز مدفون في مقبرة عبرية قديمة، وهو ما فعله والدا جوزي أيضا لكن دون جدوى في بادئ الأمر. بيد أن سامي، عندما يلتقي بجوزي في الدار البيضاء، سيعلم أن أسرته عثرت فعلا على الكنز، ومن جملة محتوياته ظرف سلمه جوزي لسامي، و به أوراق مكتوبة بالعربية والعبرية، مع طلسم سيستعمله السارد فيما بعد للاتصال بعالم الأرواح، وخاصة الاتصال بخادم السر (مسرور)، الذي سيغدو محاوره في عالم الغيب، والذي سيزوده بقلادة سحرية، ويقترح عليه أن يحقق له أعز مطلب يريده متى شاء، لكن سامي سيعمل على تأجيل طرح الطلب إلى أن يقوم بتحديده في نهاية الرواية.
كانت شقيقة سامي تقيم في الدار البيضاء هي وزوجها المهتم، بدوره، بعالم الأرواح، لذا، عندما عزم السارد على متابعة دراسته الثانوية، انتقل للإقامة مع شقيقته في المدينة المذكورة ،حيث وجدها تقيم في حي غالبية ساكنته من اليهود، وتتسوق حاجياتها اليومية من الملاح، الأمر الذي جعله لا يشعر بأي اغتراب عن ماضيه. ذات يوم، وأثناء مظاهرة للتلاميذ في الشارع العام، عمد صعلوك إلى الانقضاض على سامي، لاغتصابه عنوة في قبو إحدى العمارات، إلا أن يهودية عجوزا اسمها (سيمون) ستفاجئ المتشرد وهو يحاول القيام بفعلته النكراء، فيضطر إلى الهرب خوفا من الفضيحة.
كانت سيمون تعيش وحيدة، وبسبب تصرفها النبيل مع السارد، عزم هذا الأخير على الإقامة معها ليؤنس وحدتها، وعندئذ اكتشف أنها كانت تعرف عائلة صديقه جوزي، التي أصبحت تقيم بدورها في الدار البيضاء بعد مغادرة تاركيست، وذلك ما سيمكنه من تجديد صلاته بهذه العائلة التي كان لها دور هام في تنشئته واحتضانه وتمكينه من الاتصال، عبر الطلسم، بعالم ما وراء الحجب.
وأثناء إقامته في الدار البيضاء، ستظهر على سامي علامات تبرز تفرده وخصوصية مساره الحياتي الذي سبق لوالدة جوزي أن بشرته به. ولعل من بين ملامح هذه الخصوصية تطوره المبني على آلية الصدفة التي تعمل على تيسير حصوله على ما يمكّنه من تحقيق مآربه دون عراقيل تذكر. من هنا مواصلته لعلاقته بعائلة صديقه جوزي في الدار البيضاء، وكذا بعالم اليهود عامة. من جهة أخرى، نلاحظ أن المدرسة التي كان سامي يتابع بها تعليمه الثانوي كانت على مرمى حجر من منزل السيدة سيمون، التي ستغدو أما ثانية له، كما أن هذا المنزل كان قريبا من سينما (فيردان) التي كان السارد وصديقاه جوزي وإلينا يرتادونها، وكذا من المعهد الذي كان جوزي يتلقى فيه دروس اللغة الإنجليزية.
إلى جانب آلية الصدفة، وهي آلية خارجية، نجد آلية داخلية متغلغلة في ذات سامي هي آلية الاستبصار التي تجعله قادرا على الاطلاع على مجريات أحداث ووقائع تسبح في واعيته قبل حصولها في الواقع الملموس. ويندرج ضمن هذه الآلية، قدرة سامي على التدخل، وجدانيا، لتغيير مسار بعض الأحداث والحيلولة دون وقوع حوادث مؤسفة. من هذا القبيل أيضا معايشته لأحداث واردة من المستقبل غير المنظور، كما لو أنها استرجاع من ماضي سحيق، مع ما يرافق ذلك من شعور السارد بكونه يعيش واقعا هو تكرار لما هو مسجل حرفيا في واعيته (ص122).
تعمل هاتان الآليتان، في تضافرهما، على جعل سامي قادرا على تخطي الحاضر، حيث يسافر في الأزمنة والأمكنة (ص58) ويغدو باستطاعته، بعد التحليق في سماوات العمر (ص70) بلوغ الثلاثينات من عمره قبل بلوغها في واقع الأمر، واللقاء صدفة بأمه وهي في أبديتها (ص71)، فضلا عن توقعه مسبقا لحادث سير في أحد شوارع الدار البيضاء كان سيودي حتما بحياته (ص56). لكن سامي لم يكن يستعمل هذه القدرات الخارقة لتغذية أنانية وجدانه فقط، بل كان يستعملها كأداة لمساعدة الآخرين والحيلولة دون حصول شرور قد تصيبهم بين فينة وأخرى: ذلك ما حصل في تاركيست مثلا حين ساعد صديقه الحميم جوزي على التخلص من آثار سم زعاف، أو ما حصل حين استعمل قواه الاستبصارية لإنقاذ جوزي وإلينا ووالديهما من حادث اصطدام مروع كان سيحدث لهم في طريقهم من فاس إلى الدار البيضاء، فضلا عن إنقاذه إلينا من عفريت شرير أراد الفتك بها، وذلك باستعمال قلادة سبق لخادم السر (مسرور) تزويده بها.
في نهاية هذا المسار، الذي يرسم القوى الخفية التي يتوفر عليها السارد، كما يرسم تقلبات معيشه على الأرض، يحدس سامي أن حياته الجسدية لن تتواصل هكذا إلى الأبد، وأن طاقاته الخارقة سوف تتلاشى اليوم أو غدا، لذا يقرر مطالبة خادم السر (مسرور) بتحقيق حلمه الأخير، وهو أن يصير كاتبا يعيش طاقاته الروحية من خلال الكتابة عملا بنصيحة اليهودي روبير، مع ما يحمله هذا التحول من انقطاع صلته نهائيا بمسرور وقدراته. عند هذا الحد ندرك أن الرواية، في مستواها الرمزي، إنما كانت ترسم جينيالوجيا كاتب يريد أن تستوعب حياته كافة مستويات الكينونة: كالحلم، والسحر، واختراق حجب الواقع، والمغامرة مع تجاوز مخاوف المستقبل، والتمسك بالتسامح، والوجود في هوية متشظية لا ترضى بديلا بتعددها.
من هنا، يمكن القول بأن ما يميز نص« حارث النسيان »، على صعيد الصياغة، هو اعتماده على لغة سردية ترى في وصف المحتمل وابتكاره غايتها القصوى، وخاصة في مشاهد يغلب عليها التوتر، بمعنى التقاطب، بين المُغيّب والواقع، ووضع العالم الذي يتجاوز المحسوس في حالة احتكاك مع آليات الإرادة وفرض الذات واستباق المكتوب الآجل. تقول الكاتبة البلجيكية أميلي نوتومب: « الكتابة تعني، ضمن ما تعنيه، مواصلة الطفولة بوسائل أخرى » ويبدو لي أن الروائي كمال الخمليشي لم يكن، في روايته هذه، يفعل غير ذلك.