محمد باهي وعش العقارب

محمد باهي وعش العقارب

عبد الرحيم التوراني

تحل اليوم ذكرى وفاة الصحفي والكاتب المغربي الكبير محمد باهي في 4 يونيو 1996 بالدار البيضاء.

محمد باهي هو أكبر اسم في تاريخ الصحافة الاتحادية على الإطلاق، ليس ذلك فقط، بل إنه استطاع أن يكون واحدا من كبار الصحفيين على الخريطة العربية. وذلك بفضل عصاميته وقراءاته الغزيرة. من كان يلتقي بمحمد باهي في باريس، كان لا يمكن أن يصادفه إلا وهو يحمل كيسا من الكتب الجديدة من ثمرات دور النشر الفرنسية. ولما توفي ذات فجر بمصحة خاصة في الدار البيضاء، بكاه محبوه وقراؤه والمناضلون، وأيضا نعاه أصحاب المكتبات في فرنسا. وكتب عنه صديقه  الروائي العربي الكبير عبد الرحمان منيف كتاب “عروة الزمان الباهي”.

راكم محمد باهي تجربة كبيرة منذ وصوله شابا صغيرا إلى جريدة “العلم” في نهاية الخمسينيات، وكان من استقبله عند التحاقه بيومية حزب الاستقلال هو الزعيم المهدي بنبركة. وبعد الانشقاق التزم باهي مع صاحب “الاختيار الثوري”، وانتمى لفريق “التحرير”.

 لم يجد عبد الرحمان اليوسفي، رئيس تحرير صحيفة “التحرير”، أفضل من محمد باهي للقيام بتغطية الحدث الكبير الذي عاشته الجارة الشقيقة الجزائر، فقد رحل المستعمر الفرنسي سنة 1962.

هكذا، عبر مدينة وجدة، دخل محمد باهي مع أفواج المجاهدين وأعضاء جيش جبهة التحرير الجزائرية إلى بلد المليون ونصف مليون شهيد. أيامها لم يكن أنترنيت ولا فاكس، لكن مراسلات مبعوث “التحرير” كانت تصل عبر الحافلات والقطار وتنشر يوميا بالجريدة. ولم تمر فترة حتى أوقفت السلطات القمعية لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولسان المقاومة وجيش التحرير ، وصوت النقابة أيضا، واعتقل المدير ورئيس التحرير: محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، وسيق إلى المخافر والسجون المئات من أعضاء الاتحاد، وقد حاصرت قوات القمع اجتماعهم التنظيمي في الدار البيضاء. شمل التوقيف صحفيين كانوا يتابعون اللقاء، من ضمنهم رئيس تحرير يومية “ماروك أنفورماسيون” المستقلة، وكان اسمه أندري أزولاي (المستشار الملكي حاليا)، الذي لم يطلق سراحه إلا بعد مروره من كوميسارية المعاريف.

رحلة عمل كان مقررا لها بضعة أيام لنقل الصورة مباشرة من بلد المليون ونصف مليون شهيد، فإذا بها تمتد وتتجاوز أكثر من عقدين، عاش خلالها محمد باهي حياة اللجوء بعيدا عن الوطن. وسيلتحق به رفاق اتحاديون، من بينهم مسؤولي “التحرير”: البصري واليوسفي. ولم تتوقف قافلة النازحين والهاربين من البطش والاعتقال والتعذيب. إنها سنوات الجمر والرصاص وقد أطلت بلهيبها الحارق.

 في الجزائر سيساهم محمد باهي بحماسة في تطوير العمل الصحفي باللغة العربية في بلد الأمير عبد القادر. بعدها سيلجأ إلى العاصمة الفرنسية، ليصبح من كبار المتخصصين والخبراء في الشأن المغاربي، ومن أهم مراسلي الصحافة المشرقية، مثل مجلة “البلاغ”، و”السفير” البيروتيتين. وفي آخر سنواته تكلف بإدارة مكتب وكالة الأنباء العراقية في باريس، وكان معه الراحل محمد بنيحيى. وقصة “استقالته” من الوكالة العراقية قصة تحكى في مناسبة لاحقة.

في الوكالة العراقية “كان بحق مفخرة وقدوة في الانتماء القومي”، كما كتب صديقنا العراقي وليد عمر العلي، الذي اشتغل في الثمانينيات مديرا لمكتب نفس الوكالة في العاصمة المغربية.

في المهجر كان محمد باهي هو من كتب العديد من الأدبيات التي صدرت عن اليساريين المغتربين، هو من كان يصيغ أجوبة الفقيه البصري ومحمد بنسعيد أيت يدر وغيرهما على أسئلة بعض الصحفيين التي كانت تصل مكتوبة، كما كان يحرص الفقيه على ذلك.

وظلت “رسائله الباريسية” في الصحافة الاتحادية، (“المحرر”، “البلاغ المغربي”، الاتحاد الاشتراكي”)، تروي ظمأ القراء في المغرب للكتابة الصحفية المسؤولة والجميلة، وكانت مليئة بالمعلومات وبالمحكيات الموثقة التي تساعد على تحليل وفهم ما جرى وتستشف ما سيجري.

بعد عودة عبد الرحمان اليوسفي إلى منصبه كاتبا أول للحزب واستلامه إدارة جريدة الاتحاد الاشتراكي (1995)، اتفق مع رفيقه محمد البصري على دعوة محمد باهي من فرنسا، ليتحمل مسؤولية تحرير يومية الحزب. بعد تردد طال وصل باهي إلى مطار محمد الخامس ومنه إلى زنقة الأمير عبد القادر، حيث كان بانتظاره مدير يومية “الاتحاد الاشتراكي” الوزير الأول المقبل عبد الرحمان اليوسفي.

شرع محمد باهي في الترتيبات الأولى التي تمكنه من رسم خارطة الطريق التي سيمشي عليها من أجل تطوير الإعلام الحزبي الاتحادي، لكن كان عليه إزاحة بعض العراقيل وتنظيف الجريدة من بعض الأذرع المكسورة، ممن وصلت إلى الصحافة من دون دراية مهنية، وكانت “خبرتها” هي إتقان الدسائس والنميمة، وهم من اصطفوا ضده. كان لدى باهي مشروع لإعادة بعض الصحفيين ممن غادروا الصحافة الاتحادية، عقب اختلافهم مع مواقف سياسية للحزب، والتخلص من بعض المندسين والمفتقرين للمهنية الصحفية، وبدأ بواحد كان مخبرا لدى الأجهزة، ومعروف بصلته الوطيدة مع الحاج محمد المديوري (رئيس الحرس الملكي في عهد الحسن الثاني).

في ذلك اليوم تأخر باهي في الجريدة، وبعد أن غادر الجميع ذهب إلى القسم التقني، وحرص شخصيا على نشر بلاغ قصير من أسطر قليلة في الصفحة الأولى، يوضح أن “محمد بوعبيد العامل بالقسم الرياضي، لم تعد له علاقة بالجريدة”. ولم يغادر باهي حتى دارت المطبعة وأخذ معه نسخة من العدد، ليتجه إلى الجانب الآخر من المدينة، إلى حي بولو حيث كان يقيم كواحد من أهل الدار عند صديقه ورفيقه القديم الدكتور محمد عابد الجابري.

لم يكن باهي يظن أنه سيكون آخر يوم له في زنقة الأمير عبد القادر، إذ سيعمل “أصحاب المدير السابق محمد البريني” (الذي لم يسلم مفاتيح الجريدة بعد قرار إبعاده، إلا مرغما)، واتصلوا بعبد الرحمان اليوسفي وحكوا له حكايتهم، فاستجاب لما أرادوا وألغى قرار الطرد في حق “العفطة” (اللقب الذي اشتهر به المعني)، وانتصر بذلك اليوسفي للذئاب والأذناب.

كان محمد باهي يعاني من ضغط الدم ومن مشاكل صحية أخرى تضاعفت بعد إخباره بالتراجع عن قراره المشار إليه، دون العودة إليه واستفساره لشرح أسباب خطوته الصارمة. لم يتحمل قلبه فأخذوه سريعا إلى مصحة خاصة في حي المستشفيات بالدار البيضاء، وظل هناك أياما قليلة أسلم بعدها الروح إلى باريها.

***

كنت من عواد محمد باهي مريضا، وفي الليلة التي سبقت موت باهي زرته مرة ثانية رفقة صديقي الصحفي حسن العلوي، زميل باهي القديم أيام “التحرير”. ولما صعدنا إلى الطابق الرابع من مصحة “الحكيم” واجهتنا ممرضة وأخبرتنا بلطف أن مريضنا نائم وأن طبيبه يشير إلى عدم إزعاجه وتركه للراحة.

أخذ حسن العلوي ورقة وكتب كلمة تضامن ومساندة، وأعطاها للممرضة، (أتذكر أن اسمها “رحمة”)، على أن تسلمها لباهي لما يفيق.

(…)

لم يستسغ محمد باهي مطلقا كسر قراره، وإرجاع مخبر صغير بقرار آخر من رفيقه التاريخي عبد الرحمان اليوسفي “المدير المسؤول عن النشر”.

وعندما وصل محمد اليازغي (نائب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي) إلى “مصحة الحكيم” ليعود محمد باهي، رفض صاحب “ذاكرة الرمال” استقباله أو رؤيته، لعلمه أنه هو من يقود كتيبة المعارضين لإشرافه على الجريدة.

كانت تلك الليلة هي آخر ليلة لمحمد باهي يقضيها بالمصحة، إذ كان يستعد للعودة إلى باريس لاستكمال الاستشفاء لدى طبيبه الخاص بفرنسا، وعلمنا أن زوجته فاطمة أرسيم التي كانت تلازمه في المصحة راحت إلى البيت لإعداد حقائب السفر. في الصباح الموالي، مبكرا سمعت نعي الباهي على أمواج إذاعة “ميدي 1”.

كانت صدمة كبيرة. كتب عنها الصحفي الاتحادي القديم حميد برادة مقالة في مجلة “جون أفريك” الفرنسية، حمل فيها مسؤولية موت محمد باهي إلى من جاؤوا به من باريس وألقوا به في “سلة العقارب” حسب وصفه.

وطالب محمد عابد الجابري تشكيل لجنة تقصي الحقيقة في موت باهي. وتشكلت بالفعل لجنة ثلاثية من أعضاء المكتب السياسي الدكاترة محمد الحبابي وعبد الواحد الراضي وفتح الله ولعلو. استمعت اللجنة إلى عدد كبير من العاملين في الجريدة. ونشأ خلاف بين أعضاء اللجنة، فكتب الحبابي تقريره، وكتب الراضي وولعلو تقريرهما. وتم إخفاء التقريرين معا بدل نشرهما لمعرفة الحقيقة.

لكن التشريح السياسي يؤكد أن الصحفي محمد باهي ذهب ضحية قتل معلن، وأداة الجريمة كانت أكثر من خنجر ورصاصة، بعضها جاءته في الصدر من الأعداء المندسين في الطابور، وبعضها من الخلف في الظهر، من الإخوة الرفاق.. أو هي كانت “نيرانا رفاقية”، إذا جاز الاقتباس من  التعبير  الحربي الأمريكي. 

*(مختصر من نص نشر قبل سنوات)

Visited 27 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن