صراخ الطابق السفلي: أو عندما يختنق الحب في أروقة الجحيم (1-2)
محمد الخمليشي
رواية “صراخ الطابق السفلي” هي صفحات عريضة من قصص متشابكة، تتقاطع فيها قصص الحب واللهفة المتوهجة مع سرديات السياسة والمشانق والحروب والإبادة إبان الاحتلال الإيطالي، وقصص الرحيل والهجرة عبر المجهول والهجرة إلى الشمال بحثاً عن الحرية. تتجاور السرود، متشابكة، لتشهد ليس فقط على النوايا وإنما كذلك على الوقـع الذي تحدثه.
في ومضات إشراقية ساحرة تستكشف الروائية د. فاطمة الحاجي عبر طبقات الاسم العربي الجريح وجعَ الصُّراخ، وتحديداً في الطبقات السفلى للدولة والمجتمع في ليبيا الحديثة. تلتقي شخوص الرواية على مشانق العتمة، تسبح في دوائر التيه، عبر دروب أمكنة وأزمنة وسيعة، بحجم كل الوجود. تتقاطع فيها أزمنة الحاضر السياسي في ليبيا الحديثة بماض يتمدَّدُ حتى الأساطير القديمة والحديثة، فتُشرَع الآمال والأسئلة الأبدية الحارقة في السياسة والثورة والألوهية، حيث يمتزج فيها الخوف والتوجس والقلق بالعشق والهيام في آن واحد.
إنها حكايات نساء من ليبيا، يلتهب لديهن الحب في دهاليز أروقة النظام، غير أنهن جميعها، ينتهين بعويل فاجع مُرٍّ وعزاء كربلائي حزين.
بمثل تلك الحكايات تُشرَعُ دروب الأسئلة عن اختناقات الحب في أزمنة القبح: فهل سيمضي زمن القبح… ويأتي الشعراء؟ وهل يبدأ تاريخ جديد للنساء؟ من سيدري؟
مفتتح الرواية هي صورة الغلاف، رسم تعبيري يَبْرُز حدَّ التطابق بين العنوان: “صراخ الطابق السفلي”، وهو موشوم بخط عربي جميل، مع صورة امرأة في وضع صراخ من وجع الخنق: ثلاث أياد ذكورية الملمح تُمعن في إحكام القبض على الوجه، لكنها تُبقي على عينين صارختين من هول الفجيعة وهي على عتبة الموت.
أما أولى عتبات النص، فهي رسالة قصيرة موجهة من الروائية فاطمة الحاجي إلى الناشر والقارئ معاً، تنبه فيها الجميع، وكل من عايش أو سمع عن صفحات من تلك الأحداث في أزمنة متوالية، وبالتحديد لكل من تعرض لغبرة شبيهة بغبار أشد احمراراً، كما حدث ذات يوم شنق باسم الثورة في ليبيا الحديثة وكما يَحدُث، حتى الآن، في بلدان منهوكة، من المحيط إلى الخليج. تقول سعاد: “أنا سعاد، صوت من أصوات هذه الرواية قبل أن أرحل أردت أن أسطر شهادتي على ما عايشته وأزيح الستار عن أسرار لم تُكْشف لأحد من قبل، أسرار تعود إلى فترة مجهولة من تاريخ ليبيا المتواري في ركن خفي من الوجود. أكتشف مع غيري طاهر وعائشة وآدم وحازم ووالدي المجاهد وكريستينا وغيرهم خفايا أحداث تحسبها أسطورية وهي في أغلبها العلة الأولى لما يحدث الآن وما يدور في بلادي من صدام تراجيدي…”. (ص 5)
تنبه الكاتبة، في ذات الرسالة، قائلة: ”ويبقى طلبي لك: إذا وافقت على النشر أرجو إعلامي وإذا لم توافق فأرجو الاحتفاظ بالنص في أدراجك وفي أدراج الذاكرة لعل أحدهم يعثر عليه ويقدمه للضوء في زمن آخر”. لعل أدراج الناشر يمكنها أن تحتفظ بالنص المكتوب على الورق، أما أدراج الذاكرة فقد تكون فضاءً غير معلوم أو حتى مستحيل، قد يعثر عليه أحدهم ويقدمه للضوء في زمن آخر، فلا حرج من التأجيل أو الإلغاء أو حتى النسيان، فإذا كانت السلط المُتَنَفِّذةُ (السياسية والأبوية)، قد دأبت على الاحتفال بذاتها والتهميش لمن سواها، فقد اعتادت الاستفراد بالسلطة وتأبيد الجنوح الجامح نحو التسلط. إذ، يمكن القول أنه على أساس هذا الجنوح تأسست الأديان والإيديولوجيات والخطابات اليقينية ـ الدغمائية، تماماً كما حدث في ليبيا الكتاب الأخضر، حيث تصدر “الأحكام” جاهزة ومتسرعة قبل “الفهم” لتدبير الشأن العام، ديموقراطياً.
“أنا” المُتلَقِّي
لعل الرسالة هي موجهة كذلك، لمن هم مثلي من القراء. فأنا من اللذين التقوا فاطمة الحاجي شخصياً، ذات انتظار قلِقٍ في مطار قرطاج التونسي، بغية التوجه إلى بنغازي للمساهمة في تنشيط لقاء ثقافي وحقوقي حول مسائل الثقافة والسلم والوجع الذي أصاب أوطاننا. طيلة ليلة الانتظار 29و30 ماي 2019، تحدثنا عن وجع الفقدان، هي فقدت ابنها، وأنا فقدت ابنتي. امتدت بنا شجون الذاكرة بعيداً، فحدثتني رفيقتي عن حكايات نساء ونساء في بلادها، تبيَّن لي أن مَسَارَهُنَّ ارتبط بمصِير ووجع كل الوطن. بدوري، حدَّثتُها بما يحمل صدري من مواجع، حدثتها عن أن هنالك جرح آخر في الذاكرة الجمعية المغربية: جرح الاعتقال السياسي بصيغة المؤنث. أخبرتها عن صوت رفيقتي فاطنة البويه وحكاياتها عن أنين نساء من بلادي، لا زالت أصداء ذاكرتهن تقبع في عتمة النسيان. فكم نحتاج من الآذان لسماع تلك الأصوات… تفاءلنا، لعله بحر واسع لا حدَّ له ولا قياس. تماماً، كما هي قدرة النساء على التحمل والمواجهة. استمر الحديث بيننا مُشرَعاً حول الأسئلة الحارقة، الراهنة والأبدية… بدءً من الجروح العميقة التي وشمت ذاكراتنا الجماعية، إلى آخر أحوال وأهوال ذلك الجسد العربي المسمى ب «الربيع العربي»، الذي بلغ فيه الانهاك أقصى حدود العبث والتفاهة. بالرغم من ذلك، بتنا نحلم بسكنى العالم شاعرياً …
وصلنا مطار بنينا الدولي لمدينة بنغازي، في الصباح الباكر. كان مرافق المطار تبدوا وكأنها تنفض غبار دمار شامل عم المكان. المطار كان في استقبالنا رجال بزي مدني، حملونا في سيارة مرسيدس إلى المدينة. من المطار وعبر كل المسافة الفاصلة، كانت البنايات المتناثرة تشي بمخلفات مواجهات مسلحة عنيفة: دمار وخراب وآثار قصف على الجدران لكن الخراب كان بارزاً أكثر عند مرورنا بحي، يبدو من خلال عمارته الفسيحة بأنه كان راقياً. لكن مظاهر الخراب التي تكسوه الآن، تبعث على كثير من الأسى والحسرة على الفقدان لحَيَوَاتِ نساءٍ وأطفال ورجال كانت تسكن هنا، تُحبُّ وتحيا. لم تكن صور المشاهد، أشباحا، مخطوفة سريعاً، كما تعكسها شاشات التلفزيونات، بل كانت صوراً وتُخفي رائحة الموت، وتجعلك تَلْمَسُ نتوءات الجراح البارزة في خراب العمران.
تبادلنا مع مرافقينا أطراف الحديث والسؤال: لماذا كل هذا الخراب؟ من المسؤول؟ أهي الثورة تأكل أبناءها؟ أم هو النظام السابق؟ أم هي مؤامرة دشَّنها القصف الأطلسي (الناتو) واستكملتها الفصائل الأصولية المستحدثة، حمايةً للمدنيين و”ثورة الربيع العربي” من بطش “الديكتاتور”؟
أمضينا ما يقارب الخمسة أيام في ليبيا، ما بين مدينتي بنغازي ودرنة: على طول الطريق الساحل المتوسطي، مررنا ذهباً وإياباً بالجبل الأخضر، وقفنا عند مواقع أثرية رومانية قديمة، حواضر واستراحات. عقدنا اللقاء في مدينة درنه، كما كان متوقعاً. ذات الأسئلة والهواجس: السلم، الأدب، العدالة، الكرامة الإنسانية. أدركنا الرحيل، والقلب يغمره الوجع. نزلنا مطار قرطاج، هنالك أودعتني نسخة من الرواية وكأنها توصيني بضرورة الانصات لحكاياتها، والبوح بها في الآفاق.
النص الروائي، كان امتداداً كان امتداداً لما شاهدته وسمعته في رحلتي. ظللت ألهث وراء مسار شخوص الرواية وأحداثها بشغف كبير. فالنص ظل يشدني، تشويقاً وقولاً وسؤالا، من بدايته إلى آخر كلماته، حيث تمكن بنجاح من أن يصيبني بعدوى الافتتان بحكاياته وبأحداثه الغُفل، بقصها البليغ على مستوى التركيب والدلالة، بصوره وسلاسة تعبيره، بجميل الرؤية وشغف الكشف والمعرفة. أما الروائية فاطمة الحاجي فقد تمكنت، بفنها وقدرتها على طرح الكثير من الأسئلة، بعيداً عن سلطة المشافهة والإسناد والأسانيد، تمكنت من تحرير فعل السرد من ذاكرته المقدسة. جعلتني ـ كقارئ ـ أقترب من النص الذي لا يَروِي إلا قصته الخاصة، وهي مجردة عن أي إسناد أو اتكاء أو محطات موثوقة، ضعيفة، أو قوية، وكأن النص أضحى يستلذُّ حكايته الخاصة، التي صار لها تاريخها الخاص، مجانباً تفاصيل حركة التاريخ العام. أما اللغة، فقد ظلت الفضاء الفسيح واللامحدود للإنجاز، تقول ما لم يُقَل وما لم يَكُن. فهي تنساب (اللغة) وكأن كلماتها كانت مطروحة على قارعة الطريق، لم تكن الكاتبة في حاجة للبحث عن كلمات جديدة لتبدع سرداً روائياً، بل، عثرت على نسق درامي وشاعري، يعيد للكلمات حيويتها وفعلها في ضميري، أظنه كذلك في ضمير كل قارئ. بكل ذلك، كانت للنص إشراقته الإبداعية المتميزة.
قصص حب تنموا في دهاليز جحيم
إنها قصص حب تشتعل، تلتهب وتنموا في ظل لمشنقة. من مشاهد احتفالية بالشنق العلني في ساحة الجامعة وفي دهاليز أروقة جحيم السلطة.. غير أنها تنتهي بعويل فاجع مُرٍّ وعزاء كربلائي حزين.
في ساحة جامعة طرابلس، تحكي سعاد مشهداً: فاجأتنا سيارة عسكرية ريحاً في سرعتها، وقفت فجأة، نزل منها رجال طوال القامة يجرون شخصاً هزيلاً وهو يصرخ: أنا برئ أنا بريء… رفعت نظري من وسط الزحام فلم أرَ إلا ساقين ترتجفان معلقتين في الهواء، توقفت الساقان عن الحركة ثم صراخ وعويل فاجع…
في هكذا مشهد احتفالي بالشنق العلني يولد حبٌّ بين سعاد وطاهر” لم أكن أبحث عن الحبّ في هذه الأجواء الغائمة داخل مسارب المشانق التي تُقام علناً حتى التقيت به (طاهر) بلا موعد ولا ترتيب… سبى فؤادي وأحسست أنني مرتبطة به منذ الأزل”. (ص 6)” لكن علاقته بجريمة الشنق تثير مخاوفي”. (ص 15)
في مناخ تسوده رياح الوحشة التي تعصف بكل قوة على طرابلس وشوارعها ومبانيها ويغطى الغبار الأحمر المدينة البائسة، لم تعد المدينة تعرف للبهجة مكاناً، فكل من حكمها امتص رحيقها دون أن يمنحها قُبلة. (ص 335) و حتى ”في نيسان الذي عادة ما يهل علينا بنسائم بهية منعشة، ورغم حلول مواسم الربيع، فالفضاء يعلوه غبار أحمر يحجب الرؤيا وترتفع الحرارة ويبدو الجو غائماً.. كيف لا نجد مكانا نجلس فيه كبقية شعوب الأرض لماذا تحاصرنا الرياح والغبار والذباب ولماذا شمسنا دائما غاضبة” (ص 262) مما سعاد تتساءل، هل يمكن للأحداث التي يصنعها البشر أن تؤثر في تغيير المناخ؟ ربما؟
عندما يختنق الحب في أروقة الجحيم: المرأة/ السلطة؛ التاريخ/ الذاكرة
في هكذا مناخ، نُسجت قصص الحب من أنَّات العشاق وتَنْهِيداتهم وصرخاتهم وتشابكت مشاعر الشك والريبة والقلق والصرخات المكتومة، تحولت صرخات النساء المكتومة إلى حكاية وطن. في دهاليز الطوابق السفلية للنظام الاجتماعي والسياسي تنجذب حكايات نساء، بشكل جذري، بين حدَّي التضاد بين: البداوة / المدنية، الثورة / التسلط، الخنوع / الحرية… فكانت سعاد وأخواتها ـ في الرواية ـ عنوان حقبة عويصة من تاريخ ليبيا (الجماهيرية) والمحاصَرة من قبل أمريكا. فهن ترفضن النظام وتعملن معه في نفس الوقت. فسعاد هي الأنثى الثائرة والعاشقة والمثقفة والشاعرة، تماماً كما هي الفتاة المتصالحة مع السلطة الذكورية، من الرفيق أو العشيق إلى الزعيم في كافة أطيافه وظلاله. فلا مناص من أن تختار حبيبها وحلمها من ذات الوسط، فتبدأ معه رحلة شك وشوق ومسار محفوف بالعشب اليابس والورود.
صراخ الطابق السفلي كتابة الزمن الراهن، فهو الحاضر الموازي لحاضر السلطة والنظام، التي أضحت قبائل متشظيه حد الانفجار والاقتتال… هاذي الكتابة مختلفة إذ تَصُوغُها لغة جديدة وبضمائر نسائية، تسمح بخلق مناخات للحوار والتعدد اللغوي، وتخبر عن هذه المجتمعات المتشظية التي تنتمي إليها. فليس محض صدفة أن تتشابه الأسماء في الرواية، لكن دون أن تحاكي واقع تاريخ عام أو خاص. تتجنب الرواية تطرفين، الأول هو إغراء سماع صوت تلك الشخصيات على نحو ما هي عليه، وإغراء السعي إلى أن تختفي، تماماً.
فالنص يتقدم إلى قارئه المفترض ليس من خلال مضمونه بالدرجة الأولى، بقدر ما يفترض الإمتاع والمؤانسة في متابعة أسلوب سردياته الخاصة. كما أنه (النص الروائي) لا يقرُّ حقائقَ ولا يعتمد خطة للاحتفاظ بنص قديم من أجل تأويله أو ترقيعه بشعارات راهنة، بقدر ما يُورط القارئ في رهانات قلق السؤال تجاه المَا ـ يَحْدُثُ الآن، في ليبيا من ارتجاجات ونكبات وانسدادات، تنسحب على كل أرجاء الاسم العربي الجريح، من المحيط إلى الخليج، ومن نكبة فلسطين إلى التداعيات الكارثية لما يسمى بالربيع العربي. ففي كل منعطف تجنح بك الأحداث والكلمات إلى اقتراف عدوى السؤال عن الما ـ حدث وعن الما ـ يحدث، شمال وجنوباً، شرقاً وغرباً، فلا مستقر له فيها للزمن وللمكان. كما تصادفك مسارات ومصائر نساء ونساء… في أزمنة القبح، تارة بالإشارة صراحة إلى عائشة أو سعاد… وتارة أخرى بالتلميح خلسة كما للملكة بلقيس، في مواجهتها النبي سليمان، حتى صرخة نزار قباني، ذات قتل:
الم{ا…
يا بلقيس، لؤلؤة كريمة
فكرت: هل قتل النساء هوايةٌ عربيةٌ،
أم أننا في الأصل، محترفو جريمة؟
…