محمد صوف و”أوراق” على المحك
المصطفى اجماهري
إذا كانت الكتابة قد تبدو اليوم، للبعض، ميسرة بسبب توفر الحواسيب، وذيوع وسائط التواصل الاجتماعي، وتعدد المواقع الإلكترونية، فإن الحال كان في الماضي القريب مختلفا والاختيار محدودا. حيث اقتصر مجال النشر الأدبي في المغرب، غالبا، على منبرين معروفين : “العلم” و”المحرر”. وإلى جانبهما كان هناك “بيان اليوم الثقافي”، محدود الانتشار، ومجلة “أقلام”. ولما كان الثقافي غالبا ما يعتبر ذيليا للسياسي، فإن اختيار النشر في منبر من المنابر الصحفية كان يؤول، من طرف الكثيرين، كاختيار سياسي أيضا. فأنت سوف تكون تقدميا أو رجعيا ليس بحسب سلوكك وأفكارك بل بحسب الجهة التي تحتضن إنتاجك. كان السائد وقتها هو النقد الإيديولوجي الذي ينصب على الأشخاص، ويرى العالم من ثنائية: التقدمي في مواجهة الرجعي، والثوري في مواجهة المهادن. هذا قبل أن تذبل المواقف. وبطبيعة الحال كانت فئة الأدباء الشباب، في السبعينيات، تعاني من هذه النظرة التعسفية سواء عند نشر نصوصها في المنابر أو نشر كتبها في طبعات خاصة.
في أواخر ذلك العقد الساخن، نشر القاص والروائي محمد صوف روايته “رحال ولد المكي”، فكان أن بادر فرع اتحاد كتاب المغرب بالرباط إلى برمجة تقديم قراءة بشأنها. جرى اللقاء بمقر الاتحاد بزنقة سوسة في بداية سنة 1980، وأذكر أنني خرجت محبطا من تلك المناقشة. فبدل الوقوف عند حدود النص ومناقشته كعمل تخييلي حر، فإن المناقشين الثلاثة (يتعلق الأمر بالناقد محمد الدغمومي والراحلين البشير القمري ومحمد الاحسايني) انتقدوا موقف الرواية من الحركة الطلابية. تساءل المرحوم القمري عن سبب صدور الرواية في تلك الفترة بالضبط لا سواها. بينما استخرج محمد الاحسايني جملة من حوار تقول فيه الشخصية الرئيسية “لست مناضلا آعباد الله” ، وقدمه منتصرا كدليل قاطع على أن الرواية جاءت بخلفية مشبوهة. ملاحظة الناقد الأخير (وكان لنا صديقا مشتركا) أصابتني بالدوخة لأن سي محمد كان، قبل أيام من جلسة النقاش، قد كتب ورقة مشجعة عن الرواية مناقضة تماما لما أعلنه على الملأ. خرجت من تلك الهستيريا محبطا لأنني كنت أعرف مؤلف الرواية، حق المعرفة، شابا طموحا، يعمل ثماني ساعات ويخطف أخرى للإبداع. وأعرف أنه كتب نصا روائيا حرا ونشره في الوقت الذي تأتى له الوازع المالي ليس إلا. ثم ما قول الغيورين اليوم على الحركة الطلابية وقد آلت إلى ما آلت إليه من تشرذم وهوان ؟
وبالنظر إلى محدودية الحيز المخصص لكتابات الشباب في السبعينيات أو، بعبارة أوسع، أمام أولئك الذين وجدوا صعوبة في نشر أعمالهم، فقد فكر محمد صوف في خلق وسيط يؤدي هذه الوظيفة. كشف لي ذلك ضمنيا في حوار أجريته معه ونشر بأسبوعية “البيان الثقافي” بتاريخ 19 يوليوز 1979، أشار فيه إلى أن : “الحقل الأدبي في بلدنا سيزدهر لو أمكن للإنتاجات الشابة أن ترى النور على صفحات جرائد ومجلات مختصة”.. ولم تمر إلا بضعة أشهر حتى بادر محمد صوف إلى القيام بالإجراءات القانونية وإصدار جريدة “أوراق”، شهرية أدبية وفنية. ظهر العدد الأول في ماي 1980. وكان من ميزة هذه الدورية أن انفتحت على الكتاب بجميع أصنافهم كما على أهل الفن بدون تمييز ولا إقصاء. ولم تكن التجربة بالهينة. ففضلا عن التكلفة المادية لإكراهات الطبع والتوزيع كان لا بد من احترام توقيت الإصدار علما بأنه لم تكن للجريدة هيئة تحرير. فقط كان هناك الناقد صدوق نور الدين من يقدم المساعدة في هذا الباب. وعليه فلم تستمر التجربة طويلا وسرعان ما توقفت في يناير 1981. وفي اللقاء المصغر الذي نظمته مجلة “الطليعة الأدبية” العراقية بالدار البيضاء في غشت 1981 للحديث عن “أدب الشباب في المغرب” أشار إلى تجربة “أوراق” مصرحا بأن بعض من عزفوا عن الكتابة في الدورية فعلوا ذلك بعدما اعتبروا أن المنبر مخصص للمبتدئين. وهو ما لم يكن صحيحا.
وعلى عكس المتوقع فقد خرج محمد صوف من تلك التجربة الصحفية بدروس عميقة حفزته على ولوج ميدان النشر. أطلق لذلك سلسلة منشورات، حملت ذات الاسم، “أوراق”. فكان من بين إصداراته الناجحة رواية “الثعلب الذي يظهر ويختفي” للراحل محمد زفزاف سنة 1985، فضلا عن كتاب “إشكالية الخطاب النقدي العربي” لصدوق نور الدين. في تلك الفترة كانت مؤسسة “بنشرة للطباعة والنشر” بالدار البيضاء بصدد إصدار مجموعتي القصصية الثالثة “الحارة” التي قدم لها الأخ محمد صوف. فكنت ألتقيه بمقهى الخضراء بمدارة مرس السلطان، وأنا أحمل البروفات لتصحيحها. إلا أن إخراج المجموعة تأخر عن موعده بسبب ما ظهر لي من صعوبات كانت تمر بها مؤسسة “بنشرة”. حينها عرض علي الصديق محمد صوف استغلال البروفات النهائية في طبع مجموعتي ضمن منشورات “أوراق”، إلا أنني فضلت انتظار بعض الوقت حتى أستجلي موقف “بنشرة”. وفي هذا الوقت من الانتظار أصدر الأخ صوف كتاب “طبيعة الشعر” للكاتب المصري محمد أحمد العزب، بإيعاز من الصحفي عبد السلام المفتاحي (الذي سيؤسس فيما بعد مؤسسة ندا كوم للنشر بالرباط). لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن، إذ لم يحقق هذا الكتاب العائد المالي المأمول. ولم يكن ذلك راجعا لجانبه العلمي بل فقط عزوفا عن اقتناء المؤلفات ذات الطابع النظري الصرف. وكانت النتيجة المرتقبة أن الإصدار الأخير أخل كثيرا بالتوازن المالي لمنشورات “أوراق”. حتى حين تيقنت، فيما يخصني، بأن مؤسسة “بنشرة” لم تتحسن ظروفها وبأن منشورات “أوراق” في محنة حقيقية، عملت على إرسال مجموعتي القصصية إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق، حيث صدرت هناك سنة 1990.
هكذا تكالبت الظروف فحكمت على تجربة “أوراق” بالتوقف. نفس المصير عرفته مبادرات مماثلة. حدث ذلك بالضبط حينما كانت “أوراق” بصدد برمجة إصدار رواية الكاتب القنيطري مبارك الدريبي “طيور المساء”، والتي ستطبع في وقت لاحق من طرف المنشأة العامة للنشر والتوزيع بطرابس. وكان محمد صوف قد وعد الراحل بطبع عمله هذا لولا أن العجز المالي كان بالمرصاد.