أرمينيا وأذربيجان: أسباب تفاقم الأزمة بينهما وسبل تجاوزها

 أرمينيا وأذربيجان: أسباب تفاقم الأزمة بينهما وسبل تجاوزها

د. زياد منصور

          وفقًا لأحدث البيانات، لقي أكثر من مئتي شخص مصرعهم في التصعيد الجديد للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان: اعترفت يريفان بمقتل 135 من جنودها، وأعلنت باكو عن مقتل 77 جنديًا أذربيجانيًا. من المرجح أن يرتفع عدد القتلى، وفقًا للمواقف المعلنة في كل من أرمينيا وأذربيجان، إذ يعتبر هذا هو أخطر تصعيد في العامين الماضيين. فالأطراف توجه اللوم لبعضها البعض على ذلك.

وفي تصريح للممثل الدائم لأرمينيا لدى الأمم المتحدة مير مارغريان: “في الساعات الأولى من يوم 13 أيلول- سبتمبر، شنت أذربيجان عملية عسكرية واسعة النطاق، كان الغرض منها المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من أرمينيا، باستخدام مجموعة واسعة من الأسلحة والمدفعية. ومهاجمة من الطائرات بدون طيار”.

ووصف المندوب الأذربيجاني الدائم لدى الأمم المتحدة يشار علييف هذه الاتهامات بأنها “مجموعة لا حدود لها من الافتراءات والتشويهات والخداع”. وقال ياشار علييف “إنها تظهر أن أرمينيا بعيدة عن الوفاء بالتزاماتها الدولية، في تعزيز السلام والاستقرار والتعاون في منطقتنا”.

وكان النزاع الإقليمي بين أرمينيا وأذربيجان حول ناغورنو كاراباخ قد اندلع منذ أواخر الثمانينيات: هذه المنطقة المعترف بها دولياً لأذربيجان، بينما كان لا يزال يعيش هناك مجموعة من الأثنية الأرمنية قبل الحرب في عام 2020. بعد كل ذلك، ووفق نتائج اتفاقية السلام، أعادت أذربيجان جزءًا كبيرًا من الأراضي الخاضعة لسيطرتها، وتم نشر بعثة حفظ سلام روسية على طول خط التماس.

هذه المرة، لم يقتصر القصف على ناغورني كاراباخ فحسب، بل طاول عدة مناطق حدودية بين البلدين في آن واحد. في يريفان، زعموا أن العدو شن غارات، بما في ذلك على أهداف مدنية. فيما تنفي باكو ذلك.

إذن الهدنة الهشة قائمة الآن، لكن الوضع على الحدود لا يزال متوترا. في أذربيجان يقولون إن أرمينيا تؤخر عملية السلام. بينما تعتقد يريفان أن باكو تحاول فرض مطالبها بالقوة.

يقوم الموقف الأرمني على ما نصت عليه اتفاقيات مسبقة، حيث حسب رأي القيادات في يريفان، كان من المفترض أن يتم تسليم لاتشين إلى أذربيجان في غضون عام ونصف تقريبًا. لماذا تم التعجيل لذلك؟ أو التعجيل بالمطالبة بترسيم أو تحديد الحدود، فبرأي يريفان إن هذه عملية طويلة وشائكة، وهي  في دول كثيرة تستغرق سنوات وسنوات.. الأرمن موافقون حسب رأيهم.. لكن أذربيجان في عجلة من أمرها وتطلق الإنذارات والتهديدات ـ يطالب الأرمن بفتح الممرات، لكن أذربيجان تقول لا، لأنها هي من يريد أن يسيطر على الممرات في أرمينيا .. أو ستسيطر روسيا عليها.

 ما هي الممرات أو الطرق التي يتحدث عنها الطرف الأرمني؟

في نهاية شهر آب- أغسطس، احتل الجيش الأذربيجاني مدينة لاتشين. ويمر عبرها الآن الطريق الوحيد الذي يربط بين أرمينيا وناغورنو كاراباخ. وتسعى أذربيجان أيضًا إلى فتح طريق في جنوب أرمينيا -من أجل تسهيل الوصول إلى معقل ناخيتشيفان. لا يمكن للطرفين الاتفاق على كيفية تنظيم هذه الممرات بالضبط. يسمي الخبراء هذا أحد أسباب التفاقم الجديد.

دون شك فإن هذه الخلافات يمكن أن تستمر إلى الأبد إن لم يكن هناك تغييرات في وضع السياسة الخارجية. “اعتبارًا من عام 2022، أصبح الممر بين الشمال والجنوب موضع اهتمام تركيا وإيران وحتى الهند بالطبع بشكل أكبر. وموضع اهتمام الاتحاد الروسي الذي يعتبره أحد الإمكانيات التي تساعد روسيا على نقل بضائعها متجاوزة القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، لكن يبقى المعارض الوحيد هو أرمينيا”.

قبل عامين، بعد إبرام الهدنة مع أذربيجان، بدأت الاحتجاجات في أرمينيا: لم يكن الجميع راضين عن تصرفات السلطات. الآن استؤنفت التجمعات المطالبة باستقالة رئيس الوزراء. ووقعت إحدى العمليات العفوية بالقرب من المستشفى العسكري في يريفان حيث تجمع أقارب الجرحى.

يُخشى المحللون من أن يستغل الغرب هذه الأحداث للتضييق على روسيا، كما يُخشى من أن تستغل روسيا السخط الشعبي في أرمينيا لتحقيق جملة من أهدافها، فالقنوات الإعلامية الروسية تغطي بشكل واضح الاحتجاجات ضد باشينيان رئيس الوزراء الأرمني وهي تقدم أيضاً الدعم الإعلامي نفسه لخصوم الحكومة الحالية، يليه عرض تقدمه لنفس الحكومة بتأمين الدعم عينه للحكومة في نفس الوقت (شرط الالتزام بالموقف الروسي). في هذه الحالة، تلعب روسيا أيضًا الورقة السياسية داخل الأرمن”.

كما تحاول دول الغرب المشاركة في تأجيج الصراع. في الآونة الأخيرة، جرت مفاوضات بمشاركة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل. أيضاً تبدو زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى أرمينيا غير بريئة، رغم أن واشنطن تؤكد أنه لا يوجد حل عسكري للصراع هناك..

يعتقد محللون آخرون أنه على الأرجح، سيكون هناك ة حل وسط معين بشأن ممر لاتشين. من المرجح أن يظل تحت سيطرة أذربيجان، ولكن ستكون هناك بعض الضمانات المكتوبة لتسليم البضائع إلى ناغورنو كاراباخ”. بشكل أو بآخر، إما معابر تخليص جمركي مشترك أو مراقبة جمركية.

محاولات ناشطة كي تخسر روسيا مكانتها في آسيا الوسطى

من الملاحظ أنه مباشرة بعد انسحاب القوات الروسية من منطقة خاركوف ، والذي أطلق عليه بلباقة “إعادة تجميع” من قبل وزارة الدفاع الروسية ، حدث التصعيد على الحدود الأرمنية الأذربيجانية. الأمر الذي يثير عدة تساؤلات: هل هو مرتبط بانسحاب القوات المسلحة الروسية؟ من المستفيد من هذا التشديد؟ وما هي العواقب المحتملة؟

ماذا تريد أذربيجان؟ بالنسبة لأرمينيا لتزويد أذربيجان بالمرور عبر ممر النقل إلى ناخيتشيفان (الجيب الأذربيجاني بين أرمينيا وإيران وتركيا) وفقًا لشروط الأخيرة، والتي تمت كتابتها في معاهدة السلام، لكن أرمينيا لم تكن في عجلة من أمرها للقيام بذلك (نذكر أن أرمينيا خسرت حرب كاراباخ الثانية، لذا فإن تأخر يريفان في تنفيذ مطالب باكو أمر مفهوم تمامًا). لكن لماذا قررت أذربيجان الآن تذكير أرمينيا بأنه إذا حدث شيء ما، يمكنها أن تحقق ما تريد وبالقوة؟

الارتباط مع التراجع الروسي في خاركوف واضح إذا وضعنا في الاعتبار أن خلف أذربيجان تقف تركيا، والتي تعمل مؤخرًا على زيادة سلطتها بنشاط في الساحة السياسية العالمية، وخلف أرمينيا، من الناحية النظرية البحتة، نظرًا لأن البلاد عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، تقف روسيا. لذلك، من الممكن أن نفترض أن تركيا قررت الاستفادة من مشاكل الاتحاد الروسي في الاتجاه الأوكراني من أجل توسيع دائرة نفوذها عبر أذربيجان. ويدعم هذا أيضًا حقيقة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن دعمه لأذربيجان: “أرمينيا لا تفي بالاتفاقات. يجب على يريفان إيقاف هذا المسار الخاطئ! على خلفية الأحداث الأخيرة في جنوب القوقاز، هذا ما أعلنته تركيا مرة أخرى بصوت عالٍ للعالم أجمع: لقد دعمت تركيا وستواصل دعم الإخوة في أذربيجان! ” – وهذا ما نقلته وكالة الأناضول عن الزعيم التركي.

ماذا عن أرمينيا؟ من ناحية أخرى، لجأت أرمينيا إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي للحصول على المساعدة، مشيرة إلى المادة الرابعة من المعاهدة، والتي تنص على أنه “إذا تعرضت إحدى الدول المشاركة لعدوان من قبل أي دولة أو مجموعة دول، فسيتم اعتبار ذلك على أنه عدوان على جميع الدول الأطراف في هذه المعاهدة “. وهذه المرة هذا صحيح وعادل ما تقوله يريفان، لأن المدفعية الأذربيجانية قصفت أراضيها مباشرة.

وهنا، بالطبع، كان رد فعل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبصراحة موقف روسيا، أمرًا مثيرًا للاهتمام، حيث أن روسيا هي زعيمة هذا التحالف، وفي الواقع، فإن قوات الاتحاد الروسي هي التي تصنع ذلك، فالتحالف العسكري السياسي قوة ليس فقط على الورق. لكن تبين أن الإجابة كانت سلبية: أرمينيا لم تتلق أي مساعدة. نعم، تم إرسال مجموعة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى أرمينيا، لكن بدون قوات حفظ سلام. ويشير رد الفعل هذا بوضوح إلى أن منظمة معاهدة الأمن الجماعي، أي روسيا، لن تتدخل في الصراع. على الرغم من أن المادة الرابعة المذكورة أعلاه من مدونة منظمة معاهدة الأمن الجماعي تنص على أنه “في حالة وقوع عمل عدواني ضد أي من الدول المشاركة، فإن جميع الدول المشاركة الأخرى ستوفر لها المساعدة اللازمة، بما في ذلك العسكرية، وستدعم أيضًا الوسائل المتاحة لها، أي حرية التصرف في ممارسة حق الدفاع الجماعي طبقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة “.

السؤال هو لماذا؟ نعم، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه كراهية معينة لرئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان (بسبب حقيقة أنه وصل إلى السلطة بطريقة ثورية ولديه توجهه نحو الغرب) ، ولكن من الواضح أن المشاعر/ الدوافع الشخصية لا ينبغي أن تكون كذلك، أي  تنعكس في الشؤون الدولية. ومن الواضح أيضًا أنه بعيدًا عن عداء بوتين وحده يفسر رد فعل منظمة معاهدة الأمن الجماعي على طلب باشينيان. الحقيقة هي أن أرمينيا لا تريد الكثير وتقاوم بكل طريقة ممكنة (وليس من دون نجاح، تجدر الإشارة إلى) الوقوع في دائرة نفوذ الاتحاد الروسي، وتغازل فرنسا والولايات المتحدة بنشاط (قبل الحرب مباشرة).

 بدايةً قبل تفاقم الأحداث، زار يريفان نائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية. بالإضافة إلى ذلك، فإن موسكو، على ما يبدو، تخشى إفساد العلاقات مع أنقرة، أولاً، تذكر جيدًا المساعدة التي قدمتها تركيا لأذربيجان خلال حرب كاراباخ الثانية (ولا يزال الاتحاد الروسي غير قادر على إنشاء إنتاج طائراته بدون طيار؛ ويعتقد أيضًا أنه خلال الصراع السابق، اتخذ الاتحاد الروسي موقفًا محايدًا تمامًا: نعم، اتخذت هذه المواقف ولكن فقط على المستوى الرسمي، على المستوى غير الرسمي، ذهبت المساعدة لأرمينيا). وثانيًا، تركيا هي واحدة من الدول القليلة الكبيرة حقًا (إلى جانب الصين والهند) التي لم تقطع العلاقات مع الاتحاد الروسي بعد بدء العملية الخاصة في الدونباس وفرض العقوبات (التجارة بين الاتحاد الروسي وتركيا، وفقًا للخبراء، من المرجح أن تنمو هذا العام مرتين مقارنة بالعام الماضي).

تخشى موسكو إفساد العلاقات مع أنقرة”. على أنه من المهم الإشارة إلى أنه من المنطقي أن نستنتج أن:

– أ) المستفيد الرئيسي من تفاقم الأزمة الأرمنية الأذربيجانية هو تركيا على الأرجح؛

– ب) كان الوضع الصعب للقوات الروسية في أوكرانيا هو العامل الرئيسي في اختيار لحظة استئناف الصراع (نلاحظ اليوم، الهدوء على الحدود، ولكن إلى متى؟). الآن إلى مسألة العواقب.

من الصعب القول ما إذا كان هذا التصعيد سيؤدي إلى حرب كاراباخ الثالثة (على الأقل، لا يمكن استبعاد مثل هذا السيناريو)، لكن حقيقة أن تركيا ستستمر في تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال أذربيجان أمر مؤكد. وإذا وافق باشينيان على شروط علييف بصفته “الأخ الأصغر” لأردوغان ، فمن المحتمل أن يحدث انقلاب في البلاد (المسيرات الجماهيرية مستمرة في يريفان منذ عدة أيام ، ويعتزم نواب المعارضة  بدء عملية عزل رئيس الحكومة). بالنسبة لروسيا على وجه التحديد، سيتغير شيء ما إذا وصل زعيم موالٍ لروسيا إلى السلطة، إذن -من الناحية النظرية -سيكون من الضروري فتح جبهة ثانية وفقدان شريك مثل أردوغان (ومع ذلك، قد لا تسعى موسكو لتحقيق ذلك، وإن ستحاول ذلك بطريقة ما خلف الكواليس حتى لا تفقد ماء الوجه كونها المسؤولة عن تسوية الوضع).

لكن هذه مسألة مستقبلية، إذا جاز التعبير. إذا أخذنا في الاعتبار عواقب التفاقم من وجهة نظر الحاضر، فبإمكاننا القول بدرجة عالية من الاحتمال إن منظمة معاهدة الأمن الجماعي مقدر لها أن تعمر طويلاً. حقيقة أن منظمة معاهدة الأمن الجماعي، على الرغم من ميثاقها، تجاهلت في الواقع طلب أرمينيا، يدل هذا على عدم اتساق المنظمة.

نحن نتحدث عن روسيا الآن (التي تقع على عاتقها منظمة معاهدة الأمن الجماعي بأكملها). في هذه الحالة، تُظهر روسيا سياسة متعددة النواقل والاتجاهات (العلاقات الجيدة مع تركيا هي الآن أكثر أهمية بالنسبة للاتحاد الروسي من أرمينيا، على الرغم من حقيقة أن تركيا تزود أوكرانيا بالأسلحة، حيث يشن الاتحاد الروس العملية العسكرية الخاصة). لقد تحولت منظمة التعاون الجماعي أخيرًا إلى منظمة على الورق حصريًا، والتي، بالطبع، لا يمكن إلا أن تؤثر على العلاقات مع تلك الدول الأعضاء في المنظمة (لم يكن عبثًا أن كانت هناك شائعات حول احتمال خروج كازاخستان من المنظمة، التي تدخل مجال نفوذ الصين بشكل متزايد). وهذا يشير إلى أن روسيا تفقد نفوذها في آسيا الوسطى، التي تقاتل الصين وتركيا من أجلها الآن بنشاط في المحصلة ستخسر روسيا المنطقة إذا لم تبدأ العمل بجدية في هذا الاتجاه.

كل هذا لا يخفي الدور الغربي في تسعير الصراع من أجل التأثير على الموقف الروسي وإضعافه في أوكرانيا.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي