رقصة مولاي هشام (+ فيديو)
عبد الرحيم التوراني
ما صلة الديمقراطية بالرقص؟ خاصة إذا كان القصد هو الديمقراطية. وتحديدا “الديمقراطية المقيدة في الشرق الأوسط: تونس ومصر من منظور مقارن”؟
لا تذهبوا بعيدا، فهذا عنوان محاضرة ألقاها قبل ما يزيد عن أسبوع، هشام العلوي في جامعة “لافال” بمدينة مونتريال.
لكنه لم يثر فيها موضوع الرقص على الإطلاق. وما دام المحاضر تحدث عن “الربيع العربي”، فلا بأس من الإشارة إلى أن الاحتجاج السياسي الجماهيري يكون بالرقص أيضا، كما في مظاهرات جنوب افريقيا التي لا تتم من دون الرقص والغناء.
واستكمالا للخبر، فإن هشام العلوي انطلق بعد إنهاء محاضرته يتجول في شوارع أكبر مدن كندا، فإذا به يصادف في زاوية شارع عازفَ غيثار مفترشا الأرض، منغمرا في أداء وصلة من أغاني الروك القديمة، من ريبرتوار مجموعة “البيتلز”، الفرقة الإنجليزية الأسطورية التي ألهبت وألهمت أجيالا كاملة من شبيبة العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وما يزال أثرها ممتدا إلى اليوم من خلال أغانيها الخالدة.
ما أن دنا المحاضر من العازف، حتى انخرط معه في اللحظة، معبرا بتلقائية عن سعادة غامرة ملأت صدره. وكانت الأغنية Twist and Shout، فوجد نفسه يغني ويرقص أمام العالم.
كانت لحظة مرح واستمتاع تم توثيقها ومشاركتها لاحقا مع الآخرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كرسالة مفتوحة أرادها صاحبها أن تصل إلى كل من يرغب، تقول إن “صاحبهم” بخير ويهديهم أجمل تحيات الود والسلام. وتضيف أنه وهو على عتبة الستين لا يزال يمتلك جسدا حيويا برشاقة الشباب، وبكامل المرونة الفكرية والجسدية.
إن الرقص عنوان ساطع للمحبة والتفاؤل وللأمل، فلمَ لا نحتفل ونرقص ونستمتع بالحياة مهما تعقدت أمورنا. ألم يساعد الرقص البشرية في البقاء على قيد الوجود قبل آلاف السنين؟ كما يؤكد ذلك علماء الأنثربولوجيا وأخصائيو “عصر ما قبل التاريخ“!
وضع السيد هشام العلوي مقطع الفيديو، على حسابه في موقع “إنستغرام”، مشيرا إلى “أسباب النزول” لحلبة الرقص العلني في واضحة النهار وسط الشارع العريض. (“من يرقص لا يخفي لحيته” يقول مثل مغربي). مضيفا أنه ليس محترفا في هذا الفن التعبيري الجميل. وبتواضع شديد عُرِفَ عنه، كتب أنه لا يدعي أن رقصه كان موفقا تماما.
كما لم تفته الإشارة في التعليق نفسه، أنه من المعجبين بكلاسيكيات الروك، وأنها “النوع الموسيقي المفضل لديه”. لذلك لم يقاوم الرغبة في الرقص في الشارع، على إيقاعات أغنية “البيتلز”، داعيا رواد صفحته إلى الاستمتاع بالموسيقى والغناء.
على الفور سجل الفيديو إعجاب الآلاف، بالأخص منهم المغاربة، الذين تقاسموه بشكل واسع على الواتساب والفيسبوك والأنستغرام.
كان من الممكن أن تكون هذه القصة عادية، إلا أن من ظهر يرقص ويغني في الشارع، ليس شخصية عادية، بل هو ابن عم ملك المغرب محمد السادس، وهو أمير بالرغم منه، فبعد إعلانه التخلي عن لقبه الأميري وما يتصل به، كترتيبه الثالث في ولاية عرش المملكة. وتجنسه قبل سنتين بالجنسية الأمريكية، وقد اختار الإقامة الرسمية بالولايات المتحدة الأمريكية منذ أعوام، إلا أن لقبه المولوي ما زال يلاحقه، ويبدو أنه سيظل لصيقا به. بعكس الألقاب الأخرى التي صارت تختفي نوعا ما، مثل لقب “الأمير الأحمر”، بسبب نشاطه المدني وكتاباته المنحازه للديمقراطية في المغرب والبلاد العربية، ولقب “الأمير المنبوذ”. المُحَوَّر عن عنوان كتاب أصدره سنة 2014: “سيرة أمير مبعد”، فعمد آخرون إلى ترويجه باسم: “الأمير المنبوذ”، والفارق واضح ودقيق بين الكلمتين.
جاءت “رقصة مولاي هشام” بعد أيام فقط من فوز فرقة الرقص “ميّاس” بجائزة “المليون دولار” الأمريكية، وبعد تحريض رئيس هذه الفرقة اللبنانية مواطنيه على الثورة والتغيير في بلد الأرز، البلد الذي يتحدر منه هشام العلوي من جهة والدته، ابنة الزعيم الوطني الكبير رياض الصلح.
***
الجميع يحب الرقص والغناء، إلا أن رقص المشاهير “شيء ثاني” كما غنَّت أم كلثوم. يرقص الناس فرحا وفي حالات الانتشاء، ويساهم رقصهم الجماعي في الأفراح والمناسبات، في تقوية الروابط الاجتماعية، كما في التجمعات السياسية، مثل المهرجانات الانتخابية، وبالأخص عندما تصدر النتائج كما ينتظرون، ويكون “الرقص السياسي” من وسائل استمالة الجمهور، وأسلوبا لأنسنة “الحيوان السياسي” الذي أمامهم، حيث يظهره الرقص قريبا من الناس وواحدا منهم، فيطمئنون إليه ومعه إلى أن الرقص والغناء ما زال ممكنا. وفق لكلمات أغنية المشهورة للمصري محمد منير، وظفها المخرج العالمي يوسف شاهين في فيلمه “المصير“:
(ولا انهزام ولا انكسار../ ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا../ علِّي صوتك علِّى صوتك في الغنى/ لسة الأغاني ممكنة.. / غنوتك وسط الجموع تهز قلب الليل فرح/ تداوي جرح اللّي انجرج / ترقص.. ارقص غصب عني..).
***
تعددت فيديوهات أشهر السياسيين وهم يرقصون أمام الكاميرا، من الملك البريطاني تشارلز الثالث، الذي ظهر يشارك مجموعة أطفال رقصتهم لما كان وليا للعهد، ودونالد ترامب وباراك أوباما وبيل كلينتون، إلى بوريس يلتسين وفلادمير بوتين، وحتى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ يون يرقص على موسيقى الروك ومن المعجبين بالمغني الإنجليزي إيريك كلابتون. بل إن أدولف هتلر هو أيضا كان يرقص. وشاهد العالم الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز يرقص خلال جولاته الانتخابية على أنغام أغنية شعبية أمريكية لاتينية. أما ترامب فرقص في حملاته الانتخابية على إيقاع أغاني حركة المثليين والمتحولين جنسياً.
وكان الرئيس العراقي صدام يرقص على الدبكة العراقية المعروفة باسم “الجوبي”، وهو في بذلته العسكرية مزنرا بالسلاح والسيجار الكوبي ملتصق بشفتيه. ويحرص القادة السعوديون على إشراك ضيوفهم في رقصة “العرضة” النجدية التي تُحمَل فيها السيوف، وغالبا ما رقَّصُوا ضيوفهم، ومنهم رؤساء أمريكيين، مثل بوش الابن، وترامب. وقبل ذلك بعقود، في فترة الستينيات، ألبسوا ملك المغرب الحسن الثاني الزي الخليجي وأدخلوه حلبة الرقص برفقة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود. وكذلك فعلوا مع أخيه الأمير مولاي عبد الله، والد هشام العلوي، الراقص التلقائي في شوارع مونتريال.
عُرِف عن الحسن الثاني أنه من هواة الموسيقي والغناء، ويبدو الحسن الثاني في صور يحمل آلات موسيقية. وفي مناسبة عيد جلوسه على العرش كانت تقام حفلات بجهات المملكة، تمتد أياما كلها رقص وغناء.
لكن للحسن الثاني حكاية أخرى مع الرقص، مرة صاح غاضبا في حفل أقامته أخته الأميرة للا أمينة: “إن أجدادنا لا يرقصون، بل يركبون الخيل”، وتوجه إلى الفنان لحسن زينون بالقول: “بالله العلي العظيم إن لم تترك التراث المغربي لحاله ستحل بك لعنتي”. وأمر بحل فرقة الرقص التي أسسها الفنان الكوريغرافي الكبير والمخرج السينمائي زينون، الذي اجتهد في تصميم رقصات فنية مستوحاة من التراث الشعبي المغربي الأصيل.
لما نجحت المجموعة الأسطورية “ناس الغيوان” في مصالحة المغاربة مع تراثهم الموسيقي، تجاوب معها الجشباب بالرقص على إيقاعاتها الروحية، في مشهد هو أقرب إلى “الجذبة” الصوفية، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن مرادف لفظة الرقص في العامية المغربية هو “الشَّطْحَة”، وهي مفردة صوفية واضحة. “هنا طاحْ الرّْيالْ..هنا نْشَطْحو عليه”، أي جاء الرزق فلنرقص..
لكن شباب المغرب اليوم يميل إلى التمايل على موسيقى الراب، ولهذه الغاية تم إنشاء مهرجانات منها “البوليفار” في الدار البيضاء. آخر نسخة من هذه الفعالية نظمت قبل أسبوع، تخللتها وقائع إجرامية، أخطرها اغتصاب فتاة، وسط انتشار واسع للمخدرات والتشجيع العلني على استهلاكها.
أما محبو رقصات “الشيخات” وغناء “العيطة”، فباتت تستهويهم رقصات تمزج بين الإيروتيك والبورن، للراقصة الشعبية “الشيخة التسونامي” وزميلتها “الشيخة تراكس”، ولعل اللقبين يقربان نوع الرقص الذي يقدمانه المعتمد على هز وتدوير المؤخرة “الكردشيانية” (نسبة إلى العارضة الأمريكية كيم كردشيان). وقبل سنوات، تم الحرص على الاحتفاء بالرئيس الأمريكي بيل كلينتون خلال إحدى زياراته الخاصة إلى المغرب، بتنظيم حفل فني من تنشيط الراقص(ة) نور المتحول جنسيا.
***
ليس الرقص كله فنا نبيلا، بل هناك أيضا الرقص على الجراح وعلى آلام ومآسي الآخرين، فعندما أعدام صدام حسين يقال إن جماعة من الشيعة المتطرفين رقصوا على جثته، ما جعل ابنته رغد تكتب تغريدة من شعر الإمام الشافعي:
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما/رقصت على جثث الأسود كلاب.
وكان الرئيس الليبي معمر القدافي يحب رقصة الفلامنغو الأندلسية الأصل. وحسب تسريبات “ويكيليكس”، ففي إحدى رحلاته عائدا من فنزويلا إلى بلده، توقف القدافي خصيصا في اشبيلية لحضور حفل رقص فلامنغو. وفي آخر ظهور له خاطب الزعيم الليبي جماعات من أنصاره مذكرا بأمجاد مقاومة الليبيين للاستعمار الإيطالي، وأنهى كلمته بدعوة الشباب إلى الغناء والرقص. دون أن يدور بخلده أنهم بعد بضع ساعات سيرقصون كالذئاب فوق جثته المثخنة بالجراح.
***
لن ننسى رقصة زوربا اليوناني، ولا جماليات الرقص الكلاسيكي الشرقي في الهند. وأساطيره في مصر، ساميا جمال ونعيمة عاكف ونجوى فؤاد والأخريات.. تتقدمهن الراقصة تحية كاريوكا وكانت شيوعية وظفت فنها في العمل السياسي، وسجنت في زمن عبد الناصر لانتمائها لـ”الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” ذات الاتجاه الشيوعي.
كما أن جماهير الرياضة لن ينسوا رقصات لاعبي كرة القدم وهم يسجلون الأهداف، وخصوصا رقصة الكاميروني روجيه ميلا في مونديال إيطاليا 1990. ورقصة دييغو مارادونا، ولا نتحدث هنا فقط عن رقصاته في الملاعب، بل عن رقصته المميزة في حفل شعبي أقيم في مدينة العيون المغربية، على هامش مباراة استعراضية جمعت نجوم كرة القدم الإفريقية والعالمية (2015)، عندما اندمج مارادونا في الرقص على إيقاعات محلية بطريقة مثيرة أمام الحاضرين.
***
وبما أن الرقص دلالة عما يختلج في الصدر وفي العقل الباطن، فقد سارع بعضهم إلى التساؤل عن سر وخلفيات ظهور مولاي هشام في هذا التوقيت بالذات، وهو يرقص مستمتعا بالحياة، في الوقت الذي تتداول فيه أخبار عن سوء صحة ابن عمه الملك محمد السادس. وأن من المرجح أن يكون لـ”رقص مولاي هشام” غرض سردي سياسي، وأن الموضوع يستوجب الخوض في سيكولوجية رقصته الكندية وصِلَتِها بالسياسة والوضع الراهن في المغرب، عبر البحث في تفاصيل الرقصة وحركة الشفتين، فثمة لغة لا يمكن التعبير عنها إلا بلغة الجسد.
***
عندما يتجرأ حرف “الصاد” ويستعير نقطة واحدة من جاره حرف “القاف”، يتحول “الرقص” إلى “رفض” جلي. ذلك ما ابتدعته الجماهير الإفريقية المتظاهرة بالشوارع والميادين في احتجاجاتها الصادحة بالغناء والرقص.مترجمين بوح الشاعر العربي المتنبي: (لا تحسبوا رقصي بينكم طربا *** فالطير يرقص مذبوحا من الألم).
في آخر مقال له نشر بعدد سبتمبر من شهرية “لوموند دبلوماتيك”، توقع هشام العلوي تجدد “ثورات الربيع العربي” بعد فتورها وإخمادها، ولم يستبعد عودة الاحتجاجات إلى الساحات، نظرا لتدهور الأوضاع المعيشية والفكرية في مجموع العالم العربي.
هذا هو الرقص- الرفض الذي يستوجب النظر والاهتمام.
ولعل هنا تكمن الإجابة عن سؤال البداية، عن صلة الديمقراطية بالرقص؟
(عن موقع قناة “الحرة”- واشنطن)