رواية شمس المتوسط أو “تسريد” الكون الثقافي
الصادق بنعلال
“الأدب يفتح إلى اللانهاية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين وهو إذن يثرينا لا نهائيا.
يزودنا بإحساسات لا تعوض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى وأجمل.
ما أبعده عن أن يكون مجرد متعة وتلهية محجوزة للأشخاص المتعلمين، إنه يتيح لكل واحد أن يستجيب لقدره في الوجود إنسانا”.
تزيفيتان تودوروف
استهلال:
نروم من خلال هذه الإطلالة النقدية استكناه جانب من المنجز الإبداعي المتميز للكاتب المغربي دائم التألق الدكتور نور الدين محقق، ونحن إذ ندرك مدى تنوع انشغالات الكاتب، وعنايته بميادين معرفية ثرية: النقد السينمائي والتشكيلي والنقد الأدبي والتأمل الفلسفي والإبداع الروائي و القصصي والشعري.. فإننا سنقتصر على التعاطي النقدي مع خطابه السردي ممثلا في رواية “شمس المتوسط”، لاستقراء بعض المكونات والسمات الجمالية و الرؤيوية التي تسم عالمه الحكائي. وغني عن البيان أن الكاتب أثرى المكتبة العربية بإبداعات سردية بالغة العمق الدلالي والصوغ الفني، أقلها بريد الدار البيضاء ووقت الرحيل والنظر في المرآة وإنها باريس يا عزيزتي وشمس المتوسط.. وهي في مجملها توجز معالم الرؤية الأدبية والفلسفية للكاتب إزاء العالم والإنسان والمجتمع!
صدرت هذه الرواية سنة 2013 بدمشق – سورية، وتضم 144 صفحة من القطع المتوسط، وقد ضمت إلى جانب الاستهلال والاختتام الشعريين تسعة فصول، آخرها تحت عنوان شمس المتوسط أي العنوان الأصلي للرواية ككل.
حول الرواية الحضارية:
ونصدر في هذه القراءة عن وعي منهجي مخصوص، مفاده أن استشراف البناء الدلالي المتشابك لأي نص أدبي لا يمكن أن يتحقق عبر الاقتصار على “مساءلة” الشبكة النصية في إطار “بنيوي” مغلق، أو عبر الاستقواء غير المحمود بمختلف المناهج النقدية العالمية، بقد ما يتجسد في الفهم الراجح للرسالة الأدبية الباحثة باستمرار عن التعبير عن حقيقة الإنسان: “إن الخطاب يعيش خارج ذاته، داخل تثبيت حي لموضوعه، وإذا ابتعدنا كلية عن ذلك التثبيت، فلن يبقى لنا فوق الأذرع سوى جثة الخطاب العارية التي لن تعلمنا شيئا عن وضعه الاجتماعي ولا عن مصائره” (ميخائيل باختين).
ينطلق بناء الرواية السردي عبر مدخل تمهيدي يخاطب فيه الكاتب الضمني قارئه “المشاغب”، مبرزا أن رواية شرق المتوسط تندرج في إطار ما أضحى يصطلح عليه بنوع الروايات الحضارية، ونخص بالذكر الروايات العربية التي حاولت أن تنظر إلى الآخر (الغرب) انطلاقا من الأنا (الشرق)، عسى أن تساهم في إقامة جسور التفاهم بين عالمين “متعارضين ”قيميا محكوم عليهما بالتعايش والتثاقف الإيجابيين، كل ذلك في تناص وتحاور فنيين مع أبرز الأعمال السردية التي تنزع نحو هذا المنحى، من قبيل روايات: عصفور من الشرق وقنديل أم هاشم والحي اللاتيني وموسم الهجرة إلى الشمال.. ولئن كانت هذه الإبداعات الرائدة وغيرها كثير في المشرق والمغرب العربيين قد تناولت ثيمة / موضوعة الأنا والآخر عبر زوايا فنية وموضوعية لا تخلو أحيانا قليلة أو كثيرة من ”الأساليب” السردية الباهتة، وغير المحبوكة تحت ضغط “مبدأ” الدفاع عن “الاسم العربي الجريح” في مواجهة الغرب المتقدم والمستغل لمقدرات الأنا، فإن الرواية قيد المعاينة النقدية تصبو إلى بناء نسق سردي حافل بمكونات حكائية ونصية تعلي من شأن المشترك الإنساني وتدافع جماليا عن أنبل القيم الحضارية السامية في سياق كوني عصيب يستدعي التسامح والتعددية والانفتاح.. بعيدا عن التباهي المجاني بمرتكزات الذات العربية “المجيدة”، أو تقديس منجزات الإنسان الغربي بالمطلق.
عنوان الرواية و الإشكال الجمالي:
يمثل عنوان مؤلف ما والرواية تحديدا عتبة محورية ضمن النصوص الموازية، المشكلة لما أسماه الناقد الفرنسي جيرار جنيت بالتعالي النصي، وبالتالي
إن أهم ما أثار انتباهنا في هذه الرواية إلى جانب مكونات بنيوية أخرى، هو العنوان “شمس المتوسط “، وقد أبى الكاتب في المدخل “التوجيهي” إلا أن يشرك قارئه “المنافق” في دواعي اختيار هذا العنوان بعد عناء وتردد كبيرين! لقد كان العنوان بادئ الأمر “غرب المتوسط”، لتجسيد تناص نوعي مع الرواية العربية الشهيرة “شرق المتوسط” للأديب الراحل عبد الرحمن منيف، غير أن الكاتب يجد نفسه أما عنوان آخر وهو: الحياة في غرب المتوسط”، ولحظة الانتهاء من الصياغة النهائية نصبح أمام عنوان “قار”: شمس المتوسط، وهو بمثابة علامة لغوية مكثفة أو مركب اسمي تلعب فيه لفظة “شمس” وظيفة إيحائية محرقية، ترشح بمعالم النور والإضاءة روحيا وحضاريا، أما لفظة “المتوسط” فتحيل على سياق – فضاء جغرافي مشترك؛ تضم الضفتين: الغرب والشرق! والإشكال الجمالي الذي يطرح نفسه هنا هو ما الداعي الفني وراء هذا الإصرار على أن يتعالق العنوان مع رائعة شرق المتوسط بالذات، وليس مع رواية أخرى تتعرض لموضوع” الأنا والآخر”؟ يبدو ظاهريا أن موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح والحي اللاتيني لسهيل إدريس وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم مثلا أقرب إلى سمات ومكونات البلاغة السردية لرواية شمس المتوسط، فهي في مجملها تستحضر الفارق الحضاري والقيمي، وتمعن في والتوظيف المكثف للمرأة الغربية وإظهار مدى تشبع الغرب بقيم الديمقراطية والحرية والبحث عن الارتواء الثقافي.. وفي المقابل نجد رواية شرق المتوسط تنزع نحو موضوع الإنسان العربي في مواجهة الاستبداد وعنف السلطة السياسية، إنها رواية تميل ميلا إلى فضح ضروب المعاناة والاعتقال والتعذيب.. التي يتعرض لها المثقفون العرب الحالمون بالتغيير! أين تكمن بؤرة الالتقاء بين بطل شمس المتوسط الذي يعيش في المدن الفرنسية وخاصة باريس يمتح فيها من معين المعرفة ويسبح في نعيم الحرية ومحراب الجمال الأنثوي، وبين بطل شرق المتوسط “رجب” المثقف الذي يكتوي من جحيم السراديب السوداء!؟ لعل الجواب على هذا السؤال المحوري يتخلل مقاطع هذا المنجز الروائي كلها. صحيح أننا أمام خطاب سردي (صيغ بضمير المتكلم على غرار السيرة الذاتية)، يحكي تجربة شاب عربي مثقف اختار السفر إلى فرنسا – ستراسبورغ لمتابعة دراسته الجامعية، مثل عدد غير قليل من الطلبة العرب الآخرين، إلا أن هناك تعددية الأصوات واللغات عكست في مجملها مدى التقدم العلمي والحضاري والسياسي لهذا الغرب: “جئنا إليها (باريس) من أجل الانغماس في الجو الثقافي العام الذي كانت تمثله في ذلك الوقت. الجو الذي كان يشع ألقا ويمتد ألقه إلى باقي المعمور سياسة وفكرا، فلسفة وشعرا، رواية ونقدا”. إذا اقتصرنا على هذا الصوغ السردي الجزئي و قارناه بكلام سارد رواية شرق المتوسط: “آه يا أهل باريس لو جئتم بكتبهم إلى شاطئ المتوسط الشرقي لقضيتم حياتكم في السجون”، فإننا سنخلص إلى نتيجة مفادها أن كلا من الكاتبين الكبيرين عبد الرحمن منيف ونور الدين محقق على وعي ضمني مشترك: فالأول يدين حكائيا المناخ الاستبدادي السلطوي في الشرق – “الوطن العربي”، والثاني يشيد فنيا بالنموذج الحضاري الغربي الذي يحلم بتحقيقه المناضل الشرقي، وكأن شمس المتوسط تجيب عن سؤال طرحته رواية شرق المتوسط منذ سنة 1972.
عن الصور الروائية المتوازنة:
نجدنا أثناء قراءة النصوص السردية أكثر ميلا للرؤية النقدية التي بلورها الروائي والناقد المغربي الفذ الدكتور محمد أنقار حول مفهومه للصورة الروائية، التي اقترحها كأداة منهجية راجحة وقادرة على المساهمة إلى جانب أدوات ومفاهيم أخري في استكشاف عوالم النص السردي. لكن كيف يمكن أن نميز بين الصور المتوازنة والأخرى المختلة داخل عمل حكائي مخصوص؟ يقول محمد أنقار في هذا السياق “يغدو البناء الفني معيارا. واستجلاء الماهية منهجا نقديا للكشف عن تجليات التوازن والاختلال. أما الحقائق وسائر مواد المتن فلن تكون في هذا المقام سوى عناصر مساعدة”. إن قراءة متأنية للمتن الحكائي لرواية شمس المتوسط من شأنها أن ترشدنا إلى كم هائل من الصور الرائية المفعمة بالتوتر الدرامي والتكثيف اللغوي والدينامية السردية، نتيجة التشكيل الأسلوبي المندغم في الجنس الروائي، وتحديدا فيما يسمى” بالرواية الحضارية”. نجد في صفحة 100 من الرواية ما يأتي: “تلك المغربية الجميلة التي أثارت زوبعة بين الطلبة المغاربة حين أصرت على مصاحبة بيير. كان كل المغاربة القاطنين في الحي الجامعي يرغبون في التقرب منه ومصاحبتها لكنها رفضتهم واحدا واحدا، وتعلقت بجنون بذلك الفرنسي. فهو جميل. وهو زيادة على ذلك فنان تشكيلي”. تشكل هذه الصورة نموذجا بالغ الأهمية لباقي الصور السردية التي تلخص المستويات الجمالية للعمل الروائي قيد الدراسة. إذ أنها تخلو من المحسنات البلاغية الكلاسيكية ذات الارتباط بالنظم الشعري، وتحفل بالتوتر الدلالي الذي يعانق الحقيقة الإنسانية بكفاءة فنية راجحة! فنحن أما طالبة مغربية تنافس بجمالها فتيات غربيات من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.. فرانسواز – كريستين – مود – منى – فاليري – نانسي – ماري – بولا – كريستي – ليسا.. كما أنها (هناء نعيم) متفوقة في دراستها، وتجمع بين سحر الشرق وثقافة الغرب، مما شكل خروجا عن “المألوف” في السرد العربي، وفضلت مصاحبة شاب فرنسي بطواعية، مما كسر النظرة النمطية المتعارف عليها في الرواية الحضارية: محسن عصفور من الشرق وإسماعيل قنديل أم هاشم ومصطفى موسم الهجرة إلى الشمال.. وإذا استحضرنا المكونات النصية والسمات البلاغية ومستلزمات الجنس الروائي المخصوص فإننا سنخلص إلى أن بلاغة النص الروائي ساهمت في بلورة هذه الرؤية الحضارية الرفيعة!
تسريد الكون الثقافي:
يمكن القول دون الخوف من السقوط في المبالغة إن رواية شمس المتوسط منجز إبداعي يستند إلى خلفية ثقافية بالغة التنوع والعمق، فإلى جانب العناوين الفرعية الداخلية “المتحاورة” مع كبار المبدعين العرب والغربيين: الطيب صالح، أسيا جبار، محمد شكري، ألبير كامي، توفيق الحكيم، سهيل إدريس، عبد الرحمن منيف الذين تعاطوا جماليا مع موضوعة الآخر كل حسب ذائقته الفنية ورؤيته الثقافية.. نجد أعلاما فكرية نهلت من شمس المعرفة، وأشرقت في فضاء الحضارة البشرية، بغض النظر عن منطلقاتها الفلسفية والدينية والجمالية، من قبيل: ميلان كونديرا وجلال الدين الرومي وإبراهيم ناجي ورفاعة الطهطاوي وكلود ليفي ستروس والمتنبي وليوناردو دافنشي.. وما من شك في أن انصهار كل هؤلاء العباقرة في بوتقة روائية واحدة، فضلا عن إثارة قضايا فنية رفيعة في مجال السينما والرسم والشعر، أغنى الرؤية الوجودية لدى الكاتب المغربي نور الدين محقق، تلك الرؤية المؤمنة بعظمة الكائن البشري المبدع، والواثقة من إمكانية إقامة جسور الحوار الثقافي الفعال بين كيانات إنسانية محكوم عليها بالعمل سويا، من أجل غد حافل بقيم العدل والحرية والتسامح، تغطي أشعة شمسه البهية ضفتي المتوسط. ويمكن القول في نهاية هذه المقاربة النقدية أن رواية شمس المتوسط شكلت إضافة نوعية في سياق الخطاب الروائي العربي عموما، والرواية الحضارية بشكل خاص، سواء تعلق الأمر بالبناء الفني المحكم، أو بالرؤية الفلسفية المقتنعة بوحدة الإنسان و.. الكون!!